 |
قسم الحصن الاسود العناكـــــــــب |
العناكـــــــــب
صرخ: انت دائما لا تصدقين احلامي سأصير ذات يوم ثريا كان يتكلم وهو يقضم فاكهة التفاح الموضوعة على طبق في حين كان الليل قد بلغ من الكبر عتيا حالك العتمات ويتكدس في الطرقات بتكاسل لا يفر غسقه الا من الانوار المضيئة في الشوارع ، قاعدان هو وزوجه على بساط العشاء كانت اللمبة الوحيدة المعلقة في السقف تنضح نورها الاصفر على الحجرة التي تضمهما معا ، وسطهما صحن من الارز مكبوس باللحم وكوب من القديد و بعض تفاح وشيء من برتقال قليل وسائلت المرأة نفسها وهي تنظر من النافذه المفتوحة وراء زوجها في الظلام الدامس الذي تسبح فيه النجوم : ماذا ورطني بهذا المعتوه كي اتزوجه ونظرت اليه بشفقه ، وتذكرت ان ليس لها عضد في البلد سواه فهو قريبها المتبقى من عائلة على وشك الانقراض وحيدان لم يرزقا بطفل والزوج عامل في مصنع الطابوق القريب من البلد ، و صاحب العمل يقول لو ان الكحيان يترك الشراب لكان احسن الناس خلقا وادبا الا ان الزين لا يكتمل ، وبرغم ان الكحيان مفتول الساعدين له عينا صقر افطس الانف اجعد الشعر ذو وجه اسمر موشحا بخدوش كجروح عتيقة مندمله ربعة في العرض والطول وذو صحة جيدة فهو لم يجاوز الخامسة والثلاثون بينما زوجته سمراء الوجه لم يكتب لها من الجمال نصيب ذات الاربعون سليطة اللسان تقرعه وتنهره بأفظع الالفاظ خاصة حينما يؤوب الى البيت يترنح من شدة السكر ، بينما كانت الزوجه تنظر اليه شزرا وتكظم الغيظ وفي اعماقها تتجلجل ضحكة تود لو يحدث شيء ما لتنفجر ضاحكه فهي غير قادرة احيانا ان تقهر ضحكتها حينما يعود زوجها الكحيان مخمورا يهذي بالثراء في حين انه بالكاد يجد قوت يومه ، يخرج صباحا بهذياناته ويعود في الليل ثملا بها ، ورأته يأكل بنهم ولم ينبس الا بتلك الكلمات التي حفظتها عن ظهر قلب ، واسرت في نفسها وهي تنظر اليه بأنكسار : مسكين انه جائع ، نهضت لتغسل يديها انعكس ظلها عليه فتوقف هنيهات من المضغ وبحلق فيها فألفاها تبتعد عنه الى حوش البيت حيث ماعون طافح بالماء في الخارج ، عاود المضغ شعر بأنها لم تأكل شيء وتسائل في نفسه : مالذي بخاطر هذه المرأة من هواجس ، سأسلم من الكسر اذا سلمت من النساء وتبسم متذكرا حادثة الامس حين رأى امراة تعبر الدرب صباحا وهو متوجه الى عمله رأها تتبعه في سيره ، حاد عنها الى الطرف الآخر من الشارع لكنها تابعته بخطواتها الوئيده احس برعشة فرح ، كانت المرأة متغشية وتمشي في غنج ودلال ، سأل نفسه وهو يسير ماذا تريد هذه المرأة كلما حدت عنها تبعتني ، وقرر ان يقف ليلتفت وراءه فجأة لكنه تفاجأ حين لم يجد اثر لامرأة كأنها تبخرت في السماء او غارت في الارض ، وعاد من حيث اتي من لحظة تابعته المرأة فلم يجد اثر لصورة امراة في الطريق الا زقزقة العصافير على الشجرة وشعاع الشمس المنكسر على الغصون والشارع المترب وصراخ صاحب العمل عليه حين وصل متأخر الى مصنع الطابوق ، ازاح صحن الارز من امامه نظر حواليه فلم ير الا الشعاع الاصفر المنعكس على الحيطان بدا ظله كشبح ممدود يعانق الجدار ولفت نظره كوب القديد فشعر بحموضة في فمه فأجل شربه وفكركيف ان الشعاع لم يغيره لونه الابيض ، حمد الله في سره نهض وأتكأ على نافذة الحجره رأى الاضواء بعيده والسماء غارقة في السواد وتنفس الصعداء حين لمح نجم يستحم في الضياء ويتلألأ بريقه كوميض الذهب وذكره اللمعان بالثراء واسف على نفسه والتعب الذي يلاقيه في الحياه وود لو يبكي قليلا على حظه السيء الذي رماه على امرأة لا تحترم احلامه ولا تقدر مواهبه و اقلع عن احساسه المبكي كي لا يظن بأنه نحيب خمر معتق ، لم يسمع صدى لزوجته كأنما انشقت الارض وابتلعتها ناداها فلم تجب ، تدفق هواء الليل الندي من النافذه وبلل روحه العطشى فتنفس عطر الليل وهدأت اعصابه ونظر الى يده فألفى في راحتها بقيا ارز لعقها وهو يخرج من الحجرة كاد ان يصطدم بكوب القديد لولا ان تخطاه متجها الى حوش البيت حيث ماعون الغسيل ، سمع هسيس اوراق الشجر تحركها الرياح القادمة جهة الشمال واشتم رائحة المطر متذكرا غيوم السماء حين تسكب سيلها على السقف فتسح المزاريب كخرير غدير دافق ، غسل يديه وفرك ثغره بالماء ونادى زوجته فلم تجب ، فأسأل نفسه بصوت خفيض : اين ذهبت هذه المراه في هذا الليل ، شعر ان بقية الخمر التي تناولها مساء قد خفت وبدأت تتلاشى مع عذوبة الجو المخضل بنسيم الجبل .
*** قعدت المرأة قرب قبر أبيها شعرت ان الفقد قاب قوسين منها فلا هي بزوج موثوق به ولا بطفل كزينة الحياة الدنيا ومرت عليها ذاكرة كالاعاصير تبدت فيها كشجرة مغروسة في الوحل جذورها تتفتت وتتقلص غصونها حد الذبول فتسقط اوراقها في خريف اصفر ، وكان الليل ينصت اليها مكثفا ظلامه في القبور اذا اخرجت يدك لم تكد تراها ، كانت المقبرة خاشعة لا صوت يطلب المزيد ولا صرير اسنان غاضبة من ثأر او خسارة ولا نأمة ولا ضحكه انما هو السكون الابدي الذي تقشعر منه الابدان ، واحست لاول مره في حياتها براحة لذيذه وحسدت الاموات على هذا النوم الجميل ، لا كوابيس تقض مضجعهم في آخر الليل ولا حلم ارتواء بعيد ، واحست كأن الليل يبسم لها وان الجبل مفتول القامة الناهض امامها كحارس على القبور بارك زيارتها واهداها نسائمه ، انه الجبل الذي غزته في طفولتها الشقية ايام كانت ( للحياة حلاوة الروض المطير ) كيف تزحلق ذلك الزمن الجميل وهرب عنها تاركا ورائه حزن وحنين ، سافرت تلك الذكريات ولم تعد الا لتغرس نصل كالجرح غائر في الجسد ، وهبت رياح طيبة حركت شجر السمر فتخيلتها تنوس مرحبة بها في غفلة من الناس اللاهثون ككلاب عطشى تحتسي البحور دون ارتواء ، وراحت في نشيج طويل كترتيل جنائزي رافعة رأسها الى السماء كأنما تناجيه تحثه على المجي ، فآنست برودة من هفهفات الرياح تجتاح روحها واحست نفسها خفيفه كأنما تحلق بعيدا في السماوات ، وكانت ثمة مسافة بين قبر ابيها والقبر المجاور ، فتثائبت طويلا ورأت الكرى يرفرف في عينيها فخلعت حذائها ووضعته كمخدع لرأسها اذا اضطجعت ولمست يديها احجار القبور الخشنة ، ونزلت عليها طمأنينه اجتاحت انفاسها وقالت : سأنام قليلا حتى اهدأ من هذا الاسى وتذكرت ان الزوج لم يشرب كوب القديد وحمدت الله ثم استلقت قريبا من قبر ابيها على ظهرها متوسدة الحذاء ونامت .
|
|
|
| | |