الأسفـــــار الراعـفــــــة
***
جرحه الغائر الذي حمله في دمائه ساعة أن تقوضت الدار بالحجارة والبارود الواقف على الحائط آنذاك والرصاص يخترق الجماجم ، ذكريات الطفولة والحنان وطن مسلوب بسماء يكتظ فيها الشهداء بغضب ، من القادر على تحطيم صخرة الحقد في قلبه التي غرسها الجلادون .
***
هذه السماء كآخر الزرقة من الطفولة والحنين في هذا الفضاء المرصع بالوحدة والغياب ، الطفل الذي كان يقطف زرقتك ، الطفل الذي كان يبكي خشية العتمة الطافح باليتم والشجن ، أسيرك أيام كان النخل يميس في شرفة الفجر ، لقد هبت الريح عاتية وقوضت الدرب والدار .
***
في الحرب التي خضناها ، حرب المنكسرين على أنفسهم كنا متأهبين للطعن والرصاص والموت العابر الذي سيمضي بنا كالآخرين دون ذكر ولا دمعة ، في ذلك الخضم الجارف بالقسوة والانهيارات ، الباذخ بالقهر والعهروالجبروت ، كنا نردد شعائرهم الذين يجلسون فوق الكراسي وأقدامهم تبللها الجواري بالشهوات.... هؤلاء الجبناء الذين ملأوا الدور والحانات واكتظت بهم السبل ينضحون كؤوس الرغبة كقرابين ...
اما آن لرصاصة أن تخترق اللوحة وتهشم الصور ؟
- - -
لقد احتدم الذل إذن ، ونحن نحلم بنصف الطريق ، كانوا يثيرون الشفقة والوجع أولئك الذين تركتهم وحيدين في تلك الليلة المقمرة ، ليل الموتى الذين رحلوا بالمجان ، كان النور يتسلل فوق الجثث باحثا عن مخرج ، ليضيء كل تلك البشاعة بينما الدماء تتدفق بغزارة من جرح لم يرتو عطشه منذ ذبح بعيد
***
أيها الليل 00 ياليل الحزانى والجرحى والمتعبين اقتفينا اثر خطاك لازمتنا مشيئتك وباركتنا الفيالق التي باعدت بين أسفارنا
وبين وطن طويناه في الضلوع غربة وجوه وطرائد 0
العتمة التي كرهناها قذفناها في المهملات
أحلامنا السود كالكوابيس .
***
لقد خضنا رمالا من الجمر00 خلناك أول من يدري بها ياليل الحزانى والجرحى والمتعبين 0
ما تبقى عدا السيرة الجارحة منذ الأزل .
***
أيها الراحلون إلى حيث قوس قزح آخر وسماء مخضبة بالدماء مازال حزنكم مقيما على الأبواب ينتظر طارق الدمع ، حزن الموجوعين على أنفسهم إذ العواصف في الداخل لم يهدأ صقيعها بعد ، تركتم القطرات التي أقسمتم أن تخزنوها كالينابيع آنذاك ساعة كانت الرياح والشرق يتعثران في احلامكم ، ما من أحد يلوم جباهكم التي تعفرت بالفقر والجوع ، مامن احد يلوم دمعا طفر كالسيل في وجوهكم بديلا عن فردوس في وطن 0
أيها الراحلون دون سجدة أو وداع حملتم كل شيء في ظعنكم تاركين وراء ظهوركم كثبان مكتظة بالقسوة والجراح قلوبكم المتخثرة بالحنين أبوابه التي مزقتها الخناجر ما يزال خشبه مشتعلا بوطن مكلوم بالضواري مهما امتدت المسافة والفواصل مابين الدمعة والرصاص ، مهما امتد المنفى البهيج والطرقات في سماواته تسافرون مع الغيم والحلم والقراطيس تبدون غير مكترثين بينما الدمع يتفجر في العيون دامغا كل حقد على مداد الورق .
***
يفرون عن صحراء تصطخب فيها الشرايين مدججة بالقهر والجوع والجبروت ، هاربين إلى ملاذ أخير في أصقاع الأرض ، يطيحون بأحلامهم التي كانت لهم حياة ومأوى يهشمونها كالشظايا خشية أن تترك وراءهم أحزاناً عالقة في النحيب كانوا يغرسونها في أرضهم ، في أحداقهم ، في أطفالهم، قبل ضجيج السياط والفولاذ يجتازون وطناً حرائقه معلقة في الجحيم 0
***
يدور في محجريك خيط من الضوء أيها الحزن القابع في الأعماق المعتق بالدمع ، أقصى ما أتمناه فجراً يتحدر من عتمة أشرعتك غمرها المد وسالت أمواجك على التل ، لقد عدنا بكل الثارات التي انطفأت والصخور التي حطمها السيل ، عدنا نحمل فوق رؤوسنا سماوات من اليتم وسلا لة الجرح الكبير 0
***
أيتها الصحراء التي لازمتني كظلي ، أين أهرب من لفح هجيرك؟ في زمنك المدجج بالعواصف كي يهدأ الرمل ، منذ البواكير منتظرا على الباب لعلك تبزغين كفجر ، هذا الضوء الساطع بوجهك أحلم به الآن يطوحني في أقاصيك الضاجة بالمنافي ، أبطالك الذين تاهوا في الجهات سيماهم مرشومة بالغدر ، جباه محزنة تقطر دمعا تسربل في الانكسار مترعة كوؤسهم حزنا وحنينا 0
***
يمتزج المطر بدمعهم ونحيبهم ترتديه العواصف .
***
بزغت بهجتهم أمامه غزيرة الجرح
الأزرق الذي تقوضت أمواجهم في خضمه .
***
يلوح طير الحنين ولا يحلمون إلا بشجرة وحيدة عقيمة الظل .
***
يتدفق حنينه الضاري صحراء بازغة بالغياب هذا المساء المتزحلق بورده
يحاولون النوم فلا يستطيعون رملك يقض مضجعهم وبكاء أشجارك آخر الصور .
***
القوافل تركت آثارها على الرمل أخذتها الريح في الدياجي.
***
الأشجار التي شاهدت الشتات كي تقرأ الحال أبادها العطش وقسوة السماء .
***
في نزيف الجوارح يضطجع باكيا طيرك الذي حط على غصن زيتون .
***
أيها الجبل الساطع بسرك أحجارك المخضبة توهجت بالجراح كحقل ورد
إمنحني أيها الجبل شيئا من رحمتك ولو كانت كالحجارة ودفئك الذي تقطنه الجوارح
وأسفارك العالية التى لا يطالها إلا الحكماء0
***
من أين يأتي كل هذا الفرح الحزين كسفر؟ يقود إلى أرض ماثلة للكسر والغروب
من اين تأتي كل تلك المواقيت الصارخة بالحنين ؟ونحن تركناها مدفونة في الرمال
إذ لا أسمع غير ذكراك سامقة في الضجيج .
***
لم يتبق من الغيم الذي كسا وجهك ذات زمن غير الجفاف الذي خلناه مزهرا ، لم نترك لك غير آثار قحط وغضب ، كنا أوغادا وجبناء، وتركت لنا كل هذه الآماد تؤوب إلينا ونحن بعيدون حتى ليبدو وجهك كذكرى انتهت ، تعود إلينا آمادك باكية ، الدمع هل من مآقينا وشق النحيب طريقه إلى القلب حتى تصدع السقف والعمر يمتد في الضياع كرصاصة صدأت أو بقايا رفات .
***
الخيام كانت تنهض في نواحيه غادرها البدو إلى مساقط أخرى تاركين ماتبقى من أظلافهم تجرفه السيول ،انفضوا في العتمة غارقين في رمالهم ، كانوا يصطفون فرادى وزرافات حول الدم المنسكب فوق الجدر كشفق ، كانوا يساقطون في ذلك الفضاء المديد بالكائنات ينفضون ذكرياتهم كجلود الأفاعي تتبعثر قدامنا في بهجة كالجراد الغدر والغربة والوجع والجنون 0
***
المتاهة التي ساقونا إليها عنوة في هذا الجوف الذي تعدو فيه الريح والذئاب كرفاق ، العواء الذي حفظناه عن ظهر قلب واختبأنا منه في بطون الأمهات اللاتي بقرن بطونهن في انتظار السحق والافتراس .
***
كان السلاح كرفيق صداه موسيقى لموت عبرناه معا صوب دروب أسلمتنا أخيرا
للكراهية والفراغ ، كان البكاء نصبا للتآخي أخوة في الدموع .
***
كانوا يقتربون من عتبة الدار قبل أن ترتسم صورتهم على الماء وتنساب في الضجيج الذي لم يكن سوى الماضي عاكفا في الدماء، لم تستجب لنداء الرعاة الذين تركوك وحيدا عن ذكريات لمدائن تنهض في الصحاري مأخوذة بالبذخ مزهرا بوطن كسيح أطلقهم في المنافي عتمة بلا فجر حطمها الصقيع .
***
الدم المتدفق بغزارة كانت جراحهم التي جرفها الفيضان حزانى وأشباه مجانين
الذين عبروا النهر الباذخ بالمجزرة 0
***
يمك مطمورا بالمهانة مزعجا بالجبروت ، السواد غطى جهاتك متناهيا في التلاشي
وفي زفرة الاحتضار يلتمس الباب للهروب مخترقا بالرصاص بينما الدم يفغر يقينه في الكراسي 0
***
كلما عبرناه تمزقت الذكريات على مسيلة ، تناثرت شظاياها حتى لتكاد أن تبزغ بين أحجارة طفولة تركناها راحلين نحو البعيد والشتات ، كل شيء تدفـق منا كالصديد جراحات وحزن وانكسار،كل النهارات الباذخة بالضياء كنا نحسبها فتحا جديدا لولا أن العتمة افترست الأمكنة والناس ، وتحولنا إلى ما يشبه الآلة الغليظة الغاضبة، آلة عمياء تهدر بالعجز والفقر والضعف والاستكانة ولا تتوقف إلا حين يقذف بها في قبر ، لم نملك من أمرنا شيئاًًًًً ، مصفدين كالعبيد منذ البداية مدّعين بأننا أحرار هذا الفتح المبين ، كيف يكون حرا من ليس له رأي إو مشورة ؟ قيل إن الزمن القادم سيأتي بالبهجة والبذخ وأن ايامه أحلى من الشهد ، واصطففنا كالجرابيع التي خرجت من جحورها بعد عتمة ، دهستنا الفيلة وهي تعبر المسافات الطويلة في سباق البقاء للأقوى سيشهد لها من كان قائما وقاعدا ، ونحن سارحون في البرايا من غير زاد نشاهد الغبار المحلق والضجيج .
***
الأوطان التي نهضت على أكف المساكين والفقراء تشكل قمة في العظمة والشهادة والمثل الأعلى في سبيل ان يكونوا احرار كالجوارح ونزيف دمائهم بزغ كالشفق في كل سماء ، كانوا أول شرارة اتقدت ومضت تحرق الجبابرة وتغسل وجه الأرض ، لكن الزمن عاد كما كان منصاعا إلى رغبة تبدو غريبة كالسحر يلفها الغموض والقسوة ، وتعود السيرة كالبدايات بحاجة إلى من يضرم الهشيم ليشتعل ، لكنهم رضوا – أحفادهم - بالذل هذه المرة ، رضوا بالجبروت والانكسار كي لا يعيد التاريخ نفسه أمامهم كقرابين لحرية يلتهمها الجبناء ، وإذ قرأوا التاريخ بالمقلوب آثر الفقراء المهانة والاحتقار .
***
لما لا تطوي عتمتك وترحل وحيدا من غير أب ، سئمنا تجوال زبانيتك في الطرقات ، خذ عتمتك وارحل لقد تركت ماخلناه جراحاً على الجدر ماوجدنا ضوء نشعله كي نغتسل ، احمل هذا الظلام وارحل فلا أحد يريد منك البقاء ، كل هذه السنين من الظلام نحلم بفجر لا يجيء ، ارحل أيها العجوز ودع ماتبقى من حريق اشعلته بيديك رماداًً اخيراًًً كتاريخ .
***
في المساء كان وحيدا من غير مطر أو شجر أو وجوه مروا عليه ضاحكين هذا الصباح مروا عليه بأشجارهم الواقفة مبللين بالمطر ، لقد تلاشوا في الزرقة عدا ظلال في الجدر تصدعت بالذكريات لا يرى أمامه غير دروب بعيدة لم تكتمل ، وغياباًًً مشتعلا بالحنين ، وأحاديث تعبره وأسفاراًًًً ظلت على حالها عالقة كحلم ... يمضي في غير وعي رفيق العتمة كالتائه من أغوار سحيقة ، أزعجته الكهوف يجتاز مدينته متجها نحو الجبل يفرد عصاه ويصعد في الصخور متسلقا صوب شفق لا يراه .
***
أيتها الطريق التي غدوت كسراب نحتاجك كشاهد لكل هذا التصدع 0
***
تتثاقل الذكريات في الصدر كشظايا... أفتح الباب قليلا أتدحرج على السلم تصدمني العتمة وأنخرط في نحيب غير مسموع .... من أين لي بخنجر وما في البندقية قد نفد ؟
***
إلهي
حررنا من هذا الذل ، مازلنا نعبد شهوات وآلهة غيرك / كتبت الموت فاجعله طهارة لأرض دنسناها / لم نرع فيها شرعك / بطوفان يجرف معه الأخضر واليابس/ يعيد الدار بيضاء لا شية فيها .
إلهي
انا المغموس في كهف الظلمة ، مسكون بالصحراء ، في دار لا يثمر فيها إلا الحرمل / من أين أتى هذا النور اللامع على جسدي / المنهك كي يفجر أسراراً تتجلى .
إلهي
جئنا إلى أرضك دون اجنحة حفاة وفقراء / عبروا دروب الشوك/ حتى تبدت صحراؤك اول غيث قابلناه
كانت مزنرة بتاريخ صافحنا / بالطعنة والخنجر/ تعلمنا أن نهرب من عطش فوق الرمل نبحث فيه عن قطرة ماء تروينا .
إلهي
قبل أن ناتي في الأرحام عبدناك كعهد مأخوذ بالفطرة / ألا نشكر غيرك ، ألا نسجد إلا لك / فلماذا تركتهم يقتلعون منا الحكمة ؟ ويوغرون خناجرهم فينا .
ولم نجد من يأخذ بأيدينا/ ويبعدنا عن طين الزلات/ قادونا عنوة نحو مقاصل فيها يبرق فولاذ الصلب
كقربان لخراب قادم .
إلهي
لقد بذروا فينا حب الشهوات باسقة مثل شجر تكسر ظله في الريح.
|