قـبيـــل السيــل بقليــــل
كان الماضي المسنون بالجراحات يتركني اتجشم السير في الطرقات وحيدا تاركا فوق عاتقي نعيق الذكريات الثقيلة التي ردمتها في بئر من حديد مغلق الا بما يسمح للضياء ان يستحم فيه دونما شفقة من بشر او غراب ، الماضي الذي اطلت معه الحديث ذات قمر متألق في السماء فيما يشبه افانين من الحياه التي تتقمصنا ونحن السائرون ربما نياما في سطوة اللحظه وبهجة الكلمه اللتان تبدوان في ساعتها أصص من اكذوبة كبرى كأن الشمس قطفت في طبق ، كان يأتيني في ذلك العصر البعيد( من شهر آب) وانا غارق فيه ويعاتبني كأن احد ابواب بيته قد خلع ، يالهذا الهجران الذي يتعب القلب ، ويروي ذلك الخريف المتغضنة اوراقه كشجرة في اول النزع
في الذاكره المترعة صوب الحنين يوقظك ذلك الصراخ الهادر كنباح الضواري في هذه البراري الباذخة بالافتراس ، مقنيات هذه القريه التي ولدت فيها تستيقظ معي دائما حين تتفجر اللغه باللفظ والمفردات انها ولادة لذاكرة رجل قروي بكل المقاييس نحن القرويون البسطاء يفرحنا ظل غمام عابر ويبكينا الحزن الغارق في المقل وتكاد تتلبسني حالة من الاغماء الخفيف كمن يستنشق ليعيش من نفحة التراب والطين ، انا الطفل القادم من تلك البلاد البعيده في الجبال ، اروي لكم منها احاديث الشجر والضياء والعصافير 00 رفيقة الشمس والمطر والروائع والفجائع بعمر الزمان وتسقط عليك من سفرها الطويل مثل نخلة فارعة في السماء تدر رطبا جنيا في النور المتقد ، استحضر جحال جدتي تحت الشجرة الساطعة بالخضرة اليانعة بالظل والليمون كتعويذه مبحرة بوحشة الحنين في الدم ، بيت السيح الذي أوانا ونحن نرتجف من شتاء عاصف والبرد يتكدس في السماء كوجع ازرق تضيء مخالبه بروق كانت قريبة منا ونخشاها لكنها مرت أمامنا كما تهرب الشهب في الافق متدفقة بالرماد ، كان كل منا يحصي ايامه كأنما نسافر في نهر الفرحة السابحة فينا لذلك الذي كنا نحسبه احلى مافي البهجة من حلم ، هل تركت الريح من اثر حين سافرت في البحر ذلك المساء الذي تكسرت فيه الجحال في طقوس تشبه غروب اصفر اللون ، لقد تهادت هذه الايام علينا كما طير يسافر في العتمة ويحط على شجر دامع الشيب في الريش الذي هجره الصبا في نشوة الرعد 0
هل هطلت هذه المسافات علينا في الظلام البعيد مثل ضياء يتفجر في الفجأة الهادرة بالرحيل؟ ويضيء في دواخلنا الغامضة كل شك مريب ، الم تجد غير الجحال المتكسره لترمي فيها الحرائق المتأصلة فيك؟ ، كنت احسب ان الجحــال - ياجدتي - مازالت باردة كما كانت حين كنا نعود الى البيت ملفعين بالظمأ الذي احسه في حلقى مرا عندما استحضر صورهم الغارقة في الغياب مثل قطاف جرح 0
لقد اشتعلت كل تلك الدروب وترملت رمادا في فيافي تشبه البلقع لكنها ظلت جاثمة كأن لم تكن وتركناها تموج في الضجيج من ذاكرة أمست في اليباب كوشم على الوجه 0
****
لم يتعثر هذا الرجل القادم من غبار الماضي الا من سكرة الذكريات التي احالته الى اخاديد محفورة في رأسه الاشيب وعلى وجهه كنحت ازميل في صخرة الزمن التي بدأت في الانهيار 00 يستحضر ذلك الوقت القائظ من صيف بعيد ظل يتبخر في الذاكرة حتى استحال الى مايشبه الينابيع المتفجرة من نواحيه حتى اغرقته بمواسم الذكريات الغائرة في الجليد ، ظل اسم عبود يستيقظ في ذهنه دائما من الارض كالفجر المنتظر في الامكنه التي كان يمشي عليها الهوينا ، كانت صوره تتشكل له على شكل قاطره حين كان يضربه بالخضريه المقطوعة من النخل وهو متكوم في طين الضاحية مثل ضب ، وحين كان يصهل ضاحكا من تفاصيل موقف اسعده ، وحين كان واجما لا يلوى على شيء يحدق بعيدا في افق لا حدود له وفي عزلة باذخة بالصمت كجلمود ، كان عبود المرحوم يراقبنا ونحن نختبأ في بيت السيح الذي سكنه السووان * في مقنيات عن الصقيع ونختفي في ظلام حجرات الطين مثل جرذان ويشعل لفافة سيجارته محدقا في السقف الذي بدأت الثقوب تنهش جسده وتدلق القطرات الهاطلة حيث يقيم ، كان لعبود فيما مر من الزمن - ذلك الزمن الهارب الذي تمزق مزنه وماعاد ينشر سحاباته في الجبل الا الظلال التي تورق بالمطر ويسكبها علينا قطرات حزن وحنين - فراشه الخاص للنوم بساط على طوله وشرشف احمر اللون يسدله على ذلك الدوشق وبرنوص للشتاء وعندما يستيقظ من نومه يبدأ في طي فراشة (كطي السجل للكتب) ويربطه في هدوء الثلج بشكل دائرى بحبل اعده لذلك ثم يرفعه برفق ويركنه في آخر زاوية من المجلس الذي كان ينام فيه في الشتاء اما الصيف فأن عبود ينام دائما تحت سدرتا النبق اللتان غرسهما الاسلاف منذ عهد نوح بالكاد لا يذكره احد في القريه ، الا كما هما الآن كتمثالين اخضريين شاهدان على طقوس الميلاد والموت في البلد 0
ثم تهادى اليه سلام الراعي ( بتشديد اللام) كأنه يسقط من السماء ويكاد يصافحه بيده التي تحركت في الفراغ ‘ في ثيابه اللزجة الملفعة برائحة العرق والتراب يجر امامه ذلك القطيع من الماعز والشياه حين تبدأ الشمس بالرقص الذهبي في الافق كحسناء ينزلق برقعها في حفل بهيج وتجوس بأشعتها الصفراء النحيله في زور النخل المتهدل من كثرة السعف وتنبثق خيوط اشعتها الساطعة على مقنيات والسدر والمنازل والاهالي الطيبون كأن السماء في الاعالي تدلقها بالنور الذي يكتسح النواحي مزدهرا فيها الضياء مثل لؤلؤة ، في حين كان اهالي القريه يهرعون الى السرح بتثاؤب فيه روائح من تعب الليل ، بعضهم يركض وراء اغنامه حافيا يدهس الشـوك بأقدامه الغليظه فلا يحس به ويواصل الركض ، والبعض يأتي بطاقية على رأسه غامقة اللون تهتكت خيوطها في غابة من غبار اسود وعتيق ، وآخرين يعلقون العمائم على اكتافهم وتندلق نظراتهم في السماء ثم ترتد حسيرة نحو السرح كأنها تسكب الشجن الزاعج على الارض في سفر له طعم حزين 00 كانت اشجانهم تسقط في القاع وتهرب الى حين مسدله بأبتسام له سفر النهار ، كان السرح يضج بحياوات مثل عصافير صاخبة بالضجيج تغرد وهي تحط من غصن الى آخر والشمس تسكب اشعتها في وجوه الناس الذين غطاهم الضوء والغبار ، كان الصبي يقفز في مكانه المشلول بصرخاته المحتدمه في الافق مثل نقيق ضفدع غاضب من ضيق السواقي ويرى توافد تلك الكتل البشريه نحو السرح ، الرجال والنساء والاطفال ثملين بالصباح الباهي يتنزل على القلوب كأنه الفتح ، كان يمشي حافيا مابين حفر النخل الشاهقات ، والساقيه المخترقة ضاحية المجيديره في مقنيات التي كان يقطنها في ظلال القيظ وظل وفيا لذكريات صباه في هروعه الدائم الى تلك الاطلال الصارخة بالحنين
وتذكر حين كان يمتطي صهوة الجبل صبيا ويرعى الاغنام بديلا عن سلام الذي اعتزل مهنة الرعي والتشرد ، كان السدر الملتحف بالصخور السوداء في آخر البلد لا ينمو حوله الا شجيرات هزيله ازهقها الطقس الحار فأستبدلت غطائها باليباس الضاج بالعطش والنهايات 00 وتبدو الجبال ، الشاهقه حوالينا عمالقه كوحوش بدائية ضخمة قدت من الريح لكنها صامته بأحجارها المتناثره في القيعان الداكنه بصداها الذي يشبه موسيقى هادئة تعزفها انامل زرقاء كالسماوات ، كان القطيع يسير على الصخور السوداء بين الجبال ونهش الاغنام بأصواط مقطوعة من عروق السدر مكللة ببعض شوك نلتقطها ونحن نمشي ملقاة تحت ظلال السدر الشبيه بغيوم متناثره في الفضاء ، ونصرخ عليها باصواتنا التي كنا نحسبها عاليه فيرتد صداها مثل هديل يمام بري في قفر بعيد وكانت ثمة روائح من الحبق تجوس عبر انفه الذي بدا مزركش بالتجاعيد فأشتمها بعمق وابتسم 00
وظل يثابر كل يوم على احتساء قهوته الصباحيه منذ كان ابن الثلاثين رغم جوائح الفقد والفاجعات التي رافقته في بحره الهادر بالنواح ، ولم تتكسر اشرعته الا حين اقترب من الضفاف ، تحت ظل النخل الباقي له من تلك الشجيرات التي كانت ذات وقت يداعبها الهواء والعصافير فومض في ذاكرته برق متقصف اعاد اليه حنين موجع يشبه توغل جرح قديم في القلب نحو العصاري التي كان يقضيها تحت شجرة الجوافا وظلال المانجا بقرب الجدار واخته تحمل له الشاي والقهوة وتتركها تحت الظل الوراف بالنحيب وزوجته تناظره من النافذه ترفع يديها اليه وبسمة صاخبة تملء وجهها كسماء تبعثر بروقها في الليل الحزين 00 يالهذا الرعد الذي يقصف الظهر ويبكي الجبابره من وحشة الحنين ويظل يسامر الوجع حتى يفرقعه بالبكاء 00 ثم تغيب عنه وهى ضاحكه خلف الحجرات ، كأنه يلمسها بيديه مثل زجاج متكسر في الدم يضمه اليه فلا يرى الا النزيف ، ويصرخ اليها ان تعود لكنها مضت غير آبهة بندائه وتوسلاته كمن يزعق في بحر بعيد من موج يقصيه في الغرق 00 يالهذه المرأه كلما اطلقت ندائي اليها لتعود اوغلت في الغياب وهي التي كانت تأتمر له بمجرد النظر، ثم واصل النداء لاخته التي اتعبها الحزن المنحوت في الجسد كالدمع في مقلة العين ، اذا كانت امرأته لا تسمع النداء فلما لا تجيب اخته وهو يناديها بلوعة تغرق في الدموع ، لماذ لا تعود اليه اخته ؟ وهى التي قاسمته صرخة الرحم والجراح 00 ويظل يسافر في الاقاصي البعيده وحيدا نائيا عن كل شيء كحريق يفتت الكبد، ثم قال متوجعا ليته لم يجرح احدا و كف عن الصراخ وتمنى لو ان السقف يسقط ويريحه من هذا العذاب، ليس ماهو اثقل نكبة على القلب من عذاب الذكريات ، وبيده كتابه الذي قرأه على حبيبته قبل ان تلفها الايام في مثواها الاخير ، دائما يركن على زاوية من البيت وقد قارب على التسعين بعكازه وقدمه العرجاء كوشم من طفولة النقص 00 مااشبه اليوم بالبارحة ، زفر بها وهو يمشى على عصاه والتجاعيد الكثيره التي غزت وجهه كمستقر يلامسها بيده اليمنى متذكرا جيرانه الذين كان يسامرهم بعذوبة في أماسي الليل الذي ترك عتماته في الجبل مثل كهوف تعوي فيها الكلاب والريح 00 وامتد خيط ضوء من الشمس تفجر من غيمة وانسكب على عينيه فنهض بتثاقل ونظر الى السماء فالفاها متخثرة بالسحب وارسل تنهيدة حارقة وقال : هل حدث كل هذا حقا ام انني كنت في حلم وايقظنى الفراغ وتدحرجت من عينيه دمعتان حارتان كأنما غطست في لهب حين تذكر زوجته واخته اللتان كانتا تثيران صالة البيت ضجيج من الضحك والمزاح واختفى الزمن الجميل مع اول العتمة القادمة في قافلة الموت 0
بيته الذي كان يفخر به فيما مضى بدأ متهالك ومتقصف مثل عجوز شمطاء أرهقها الدهر وتقعر اللون المزنر به كنهر ابيض والصبغ الزعفراني انهار حتى اختلط بالاثاث ، حتى النوافد المعتمة استحالت الى مايشبه مستنقع من السواد كغربان تنعق في الخراب تناثرت حولها مزابل العناكب و الزجاج وابرقت في مخيلته ارائك قزحية اللون تسقط عليه من عل كما صخور خضراء جلبها في الصاله ذات زمن انسحق في المغيب اخ له سافر في القافله منذ اكثر من ثلاثين سنه ولم يعد يتذكر منه الا بعض شجارات حمقاء قطعت الصلة بينهما لسنين عديده واصبح يزوره في المنام ويرافقه في البلدة التي كستها ملامح الطفوله لباس الدم والحنين ، لقد تفرق احباؤه وفروا مع الطير الذي يقيل في الاشجار البعيده ولا يصل اليه سوى الهديل الباكي ، كأن هذه العائله التي نحتها على جبل صلد كما يظن ابت الا ان تترك الصور محفورة في السماء و الجدران والليل والقلب والجسد وترحل خلف القمر 00 تركوه وحيدا وأمسى لا تزوره الا الاشباح في الليل ؟ ، جيرانه نعتوه بالجنون ، هذا العجوز الخرف يكلم نفسه حين يقبل الليل في سرادق الغسق 00
وظلت الشمس تشرق كما كانت منذ اول الربيع حتى ذلك الخريف الذي ينتظر بقاياه فيكنسه مع القافله التي تأخرت كثيرا وهو الذي كان ينتظرها قبل أحباء كثر غادروه ، وكان ثمة قطرات من مطر وردي قد بدأ يهطل مشتعلا بالغروب و يتدفق في الجدار 0
*السووان 00 لقب العائلة
|