 |
قسم مجموعة متنوعة الوثـــن الآخــــــر |
الوثـــن الآخــــــر
عادل الكلباني :
كان لابي ثلاثة ابناء انا اكبرهم ، ولابي زوجتان وبيت كبير يحفه بستان من نخيل واشجار باسقة ، وحينما يتربع ابي على متكأه في العصاري مع زوجتيه ونجتمع حوله اطفال صغار ، كان بالكاد يرد التحية التي نلقيها علية كاملة ، وابي طويل القامة عريض الصدر له عينا قط بري وجبهة كالصخرة تعلو الجبين في اغوار وجهه يقبع حزن قديم وجراح لا تحصى مرت عليه في ازمنة بعيدة وتركت بقاياها في صدره كالوشم ، كان ابي صلف بهذا المعنى ولكنه لا يحب ان يدلق كل افراحه او احزانه دفعة واحدة فهو احمق بكل المقاييس في تزمته معنا وتأديبه الطاغي علينا ولو في رمشة العين او جلسة او كلمة نطقنا بها في لحظة مزاح ، كان ابي طاغية شكلا ومضمون ، ومستبد برأيه ، وكم كنا نتهلل فرحا اذا رحل بعيدا في مهمة عمل وغاب لبضعة ايام ، كان المرح يسود البيت ، وننطلق في ارجائه بكل رحابة صدر لدرجة ان كل منا يتمنى عدم عودته الينا لنتخلص من هذا الاذلال اليومي والاهانات التي يلحقها بنا صباح مساء ، ولكنه وللاسف الشديد كان جبان ومداهن امام اصحاب النفوذ الذين يرى ان مصلحته معهم فوق كل اعتبار ، وكان لا يحب النقد فكل مايفعله غير قابل للدحض والتمحيص فهو رب البيت ومنشأه وماعلينا سوى التهليل والحمد له كأله ، لقد ورث ابي 1400 عام من الاستبداد والجبروت والظلم التي مرت على الصحراء وخزنها في شرايينه ، اذا قال لي افعل هذا الامر فعلي السمع والطاعة واحرث واسقي واركض وراء الاغنام في الجبال ثم اعود منهكا طريح الفراش من التعب فمايبلث ابي ان ينظر الي نظرة شزراء ثم يغلق باب الحجرة ويخرج دون كلمة او بسمة وكأنني اقرأ في عينية ( أأنت رجل ؟ ) .
هكذا كنت طفل مشاكس ليس من طبيعيتي ان اخضع لاحد احاول ان اجسد حقيقتي بنفسي لكن العظام هشة وسهلة الكسر ، اتذكر في طفولتي ذات مساء كنت عائدا متأخرا قليللا من اللعب مع اطفال الحارة وكان ابي يقرضه الغضب من شيء ما ربما من مشادة سمعتها صباحا مع جار له توارت ثم عاد اوارها هذا المساء وكانت العائلة متحلقة في دروازة الدار كأن على رؤوسهم الطير وابي يدور بينهم كالمريض ودخلت ترتعش فرائسي رعبا وذهبت مباشرة لاقبل يديه والقي عليه السلام وتحية المساء لكنه قبضني بعنف حتى احسست كأن عظامي سيهشمها بقبضته الفولاذية ورفعني من جيبي الى صدره وقال لي وهو ينفث غضب حارا كالجمر لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟ لماذا لا تراعي حرمات الابوة والعودة دون تأخير-كأن هذا التأخير البسسيط ذريعة له كي يبدأ تأديبه لي - انت الوحيد الذي دائما تثير سخطي لانك ولد حقير وغير مطيع كانت كلماته وشتائمه الجارحة كهذا القبيل لا اتذكرها جميعا الآن ، وقامت زوجتاه كي تصلحا الحال طالبتان المغفرة لي هذه المرة، ولكنه زفر في وجههيما بكلمات شاتمة وامرهما الا تتحركا من مكانيهما والا فأن كلمة وحيدة ستلفظ بهما خارج الدار ، لزمتا امهاتي الصمت محذرا بأن لا يتدخل أي طرف ناقص حسب وصفه الدائم الذي اتذكره وانا ابلغ الآن عتبة الشيب ، اذ ان هذه الكلمة هي حراكه في مواجهة الآخر بأخطائه حيث الآخر دائما طرف ناقص اما ابي فهو الطرف المكتمل الذي لا يعتريه النقص ، صفعني ابي على وجهي صفعة ظل ثقلها جاثم على صدري حتى اليوم فقد آمنت بأن وجه الانسان كرمه الله ولا يجب تعذيبه واهانته بهذا الشكل السافر دونما مبرر وجيه او سبب ، واصابني امتعاض شديد واحسست بالحموضة تسري في دمي وانا ارتطم بالجدار اذ فجأة نهضت هكذا في وجهه لاول مره ارفع بصري على وجه ابي ، ماذا سيفعل هذا الاب اكثر من الضرب الذي يفعله دائما بتصرفاته وحركاته ونظراته وهاهو ذا اليوم يطبق نظريته على ضعيف مثلي تأخر قليلا من الوقت ، وعلى رغم ذلك الدوار الذي اصابني وشلل حركتي الا ان تلك الانتفاضة والزوغان الذي قادني الى شيء ما يشبه الجنون ومحاولة تكسير شيء من اصفاده وانا مازلت طفلا لم اتعد الرابعة عشر من عمري ، لقد اجتاحني في لحظة كل الاهانات والشتائم والضرب التي تلقى على كاهل امهاتي واخوتي وهم يبكون أمامه ويخضعون له بأسم الابوة والتبجيل والرعب والتقاليد التي سأهشمها في وجهه بعد ان هشم لي وجهي ، بصفعة رجل حمل اوزار الكبر العربي التافه ليلقي بهزائمه واخطائه وفشله على كاهل عائلة ضعيفه ومسكينة تحلم بالعيش والاحترام تحت كنف رجل تقوده اخطائه وفشله تحت قش من العظمة الفارغة التي سأقصمها له الآن ، نظرت اليه وصرخت في وجهه : انت لست الله انت متكبر وانا اكرهك ، مااتذكره الآن – اذ بعدها رحت في غيبوبة لايام ذلك ان ابي ماان سمع هذه الكلمات تتردد امامه ومن اقرب الناس اليه حتى ثار وراح يلطم وجهه بغضب ، ثم احال جحيمه في وجهي وجسدي كله واصطدمت بالجدار مرة بعد اخرى تقول امي المسكينة التي شهدت الواقعة دامعة العين بأن ابيك اسفر لاول مرة عن وحش في صورة انسان وقد نفث كل مراراته واحقاده وهزائمه وفشله واستبداده التي اورثتها اياه صحرائه القاحلة على جسدك فبجانب انه هشمك بيديه ووطأك بقدميه انكسرت فيك اكثر من عصا وعندما قمت لاحول بينك وبينه حتى لا تموت بين يديه طالني ماطالك من الضرب حتى ركعت اقبل له قدميه متوسلة منه السماح والغفران عن طفل تكلم بخطأ غير مقصود ، اخذ ابوك يرغي كالبعير : هذا ليس من صلبي مستحيل ان يكون هذا ولدي والا فكيف يتجرأ ان يرفع بصره ويلقي علي مثل هذا الكلام ... ، كان ابوك يهذي بشتائم مقذعة وحين رآك بلا حراك والدم ينث من جسدك ويلطخ ثيابك وتزهو به الحجرة رمى عصاه وخرج يلهث غير متماسك من هذه الصدمة التي قوضت هذا الجبل الذي خلناه عصي على الاختراق وبدا ان شيء ما تكسر في داخله لاول مرة ينكس رأسه ويغادر كالمهزوم من داره زائغ البصر مثل جليد انصهرت اغوارة السحيقة في بزوغ اول نهار مكتسحا كل الشوائب والاتربه .
******
حبى الله ابي بثروة كبيرة غنمها من سلالته التي يتبجح بها دائما كأنما الله لم يخلق غير هؤلاء وآلت اليه كل الثروة والاطيان بعد ان تآمر على قتل ابيه كما سمعت بعد ذلك حين تقدم بي العمر وسرت رجلا ، جدي لامي وهو ابن الثمانين رواها لي بالتفصيل الممل وحذرني منه وقال ان كل من يقف ضد مصلحته تغور به الارض ولا يسمع له ذكر ، ، قال لي جدي لامي ذات شتاء ونحن على موقد النار ساردا لي ماسمعه وربما زاد عليه من مخيتله شيء قليلا : يقولون ان جدك صاحب هذه الثروة الضخمة والمزارع لم ينجب غير ابيك وتوفت زوجته منذ زمن بعيد وتزوج وطلق ثم تزوج وطلق ولم ينجب ولا احد يدري الى الآن هل كان العقر من جدك ام من االنساء التي تزوج بهن ، سافر جدك الى افريقيا وظل هناك مايقارب السنة حيث اشترى منزل ومزرعة وكان برفقته ابوك شاب في مقتبل العمر ، وحيث انهما من سلالة عربية موغلة في الشهوات ، فقد لا يتحرج جدك اذا مرت به امرأة حسناء ان يتغزل بمفاتنها امام ولده بل وصل بهما الامر ان كانا يمارسان الرذيلة مع النساء في منزله ومزرعته كانا لا يتناهيان عن منكر يفعلانه ورغم ذلك فماأن يرتفع صوت الاذان حتى يكون جدك في الصفوف الاولى للصلاة ، في آخر رحلة عزم جدك على الزواج من حسناء كانت تحب ابن عم لها وتهواه وكانا على اقتراب ان يرتبطا معا لولا ان جدك حل عليهما كالقضاء بماله وذهبه ، تفاجأ ابوك من قرار كهذا واغتم وحزن وحاول بكل مااوتي من وسائل الاقناع الا يفعل ذلك فالنساء كثيرات وبنقوده يستطيع ان يجلب اجمل امرأة في العالم ، وان الرضوخ الى هذه المرأة له مزالق كثيرة هو في غنى عنها وانه بأمكانه ان ينالها اذا اراد دون تعقيد ولكن جدك حذره من التطاول في هذا الامر وفهم مايعنيه من أن وريثه يحاول تقييده حتى لا تضيع ثروته وتقسم بين الكثيرين وحدثت بينهما جفوة لم يردمها الزمن اذ طرد الابن ابيه من وطنه ومات غريبا .
|
|
|
| | |