 |
قسم مجموعة متنوعة الثقوب السوداء |
الثقوب السوداء
بقلم - عادل الكلباني :
خرجت من غرفة النوم ، احسست بكآبة لا قبل لي بها في هذا الظلام ، تحسست الباب وخرجت متجها صوب حجرة اخرى من البيت تاركا الزوجه تغط في السبات ، أنرت المصباح فانقشع الضياء يسبر اغوار الحجرة ويضيء معالمها كانت فائضة في البيت اقعد فيها للهروب من صقيع الداخل ، جلست على كرسي ملصقا جنب الحائط وبزغت ذاكرة الحنين والذكريات والوجع والبكاء ، تهاوت هذه الذكرى التلقائية من اصقاع بعيدة كالحتوف لكن تعاود سيرتها كما لو كانت بدايتها تتشكل امامي تفصيلا خارق للعادة هذا السر الكئيب لما يعاود بعثه الآن هذا المستنقع الغارق في الدم لما يطفو هذه الليلة ، هذا الزمن التيه والتناقضات والمرارة والغربة والجنون لما استعيده بعد ثلاثين عاما من الهروب في كل منافي النفس والامكنه مشطورا بازمنة الغياب و النسيان ، هذه الحزمة من الجمر والحطب تبدأ اليوم اوارها الموجع لقد تقت منذ زمن الى الانتحار وحاولت مرارا وفشلت كانت الاطياف العابره حولى وفي كل الجهات تشدني الى النسيم الذي حاولت كبته كان هذا عزائي الوحيد من هذا الحزن الازرق كالبحر المحيط بي بامواجه لا يتركني أهدأ او ابتسم او حتى انام ، كل كابوس ينهش جثتي كالجارح وعندما استيقظ مخضبا بالرعاف ، احاول قذف نفسي من النافذه ، اني اريد ان اكسر هذا الالم هذا النهش البغيض يكفي ما انا فيه من المرارة والندم ، كل شيء اتذوقه او اشربه اتقيأه راشحا كالسعير ، البارحة فقط عدت من المشفى الذي كنت اتعالج فيه ، الاطباء اوثوقوني على السرير عندما حاولت خبط رأسي على الحيطان ثم تمر علي ايام اهدأ فيها من هذا التيه والهذيان ، لا ابدا لم انس هذا الشر الذي يولغ في العروق ويتجمد في الشرايين نبضات حارقة عصية على الهجر ، اجتاحتني قشعريرة الفرح تلك الليلة وانا اقترب من الطفلة التي قضيت عمرا في البحث عنها ، كانت المأوى الذي الوذ به من صخب العمر الذي اهرقته في الغفلة والتسيب ، تلك الليلة التي ما زالت تقض مضجعي ، تحرق عظمى لذكراها محاولا قذفها من وراء النوافذ لكن تنهض بازغة كالضياء المتفجر الذي يسحق بالهلاك والعمى من لا يتعمد بالضوء ولا يعرف معنى الطهارة ، انا المقنطر بين تلك الذاكرة الغارقة في الحريق الذي يشعل جوفي وبين مقدمات الجنون التي بدأت اسفارها منذ تلك الليله في ذلك الحر القاسي ، كان انتهاكا صارخا لكل الاعراف والديانات ، اتساءل الآن بعد كل هذه السنين ان كنت في كامل الوعي ربما او حالة من التخبط النفسي والتدمير الذاتي لا ادري ، انعكست وحشيته على من حولي ، ساعدني يا الله على النسيان او اقذفني بالموت اني اريد الخلاص من هذا العذاب دعني جريئا بما فيه الكفاية كي اتجرع السم لوحدى .
***
زوجي الذي سعدت معه ايام طوال ، العمر الذي كان وانقضى – اقول انقضى – لانه ما عاد ابدا ذلك الرجل السوي الخلوق الرجل الهادئ الذي يزن القول في داخله قبل النطق المحترم الذي يعج دمه بالمقدسات ، تلك النسيمات المغسولة برذاذ المطر العابره امامنا تحت الشجر- ايام كانت النسمة تملأ خياشيمها بالعواصف - استعيدها الآن ذكريات موصدة بالجرح والحنين هذا الفقدان والغياب الذي آل اليه كأنما اجتاحنا اعصار زلزل كل الاركان التي كنا نظنها راسخة كالبنيان لقد قوضها في خطف البصر وحولها الى انقاض ، لم اكن اعلم بتلك الشخصية التي تخفى الانهيارات في الداخل وانه على مرور الزمن لم يكن زوجي الا فزاعة حقل قصمتها اول ريح في حقل قاحل تراءى لي سامقا بالنضارة ولم يكن غير سراب معفر بالظمأ والتراب ، لا استطيع وصفه بالجنون ، هل كنت متزوجة من مجنون مؤقت كل تلك الايام ، اشعر بالرهبة والرعب والخوف حين اتذكر ه هذا المقلوب عكس عقارب الساعة ، لقد حدث هذا الشيء المفاجئ بعد موت طفلته مباشرة اذ ينهض كل فجر بصراخاته ( انا القاتل خذوني الى حبل المشنقه انا القاتل انا القاتل انا000 ) يضرب صدره بعنف كانت هذه الهستريا تنتابه تقريبا كل يوم واحاول تهدئته بالله ثم الصبر والصلاة ، لكنه ينهرني بالفاظه النابيه شاتما الدين واجداده ثم ينحدر في نحيب مرير فأجلس بقربه مأخوذة بهذا الحزن الفاجع متذكرة طفلتي التي انتهت دون انذار وانخرط معه في البكاء .
***
كنت الوحيد الذي يرتاح له هذا الرجل وفي كل جلساته يعيد لي حكاية الطفلة التي قتلها بيديه ، فعل ذلك لسبب لا يدريه حسب قوله ومعتقده ولكن مع تكرار علاجه احسست أن الرجل يهذي وانه ربما تلك الصدمة التي حدثت له فجأة من موت طفلته دون مقدمات افقدته توازنه مع انني يعاودني الشك فيه ماذا لو كان ما يقوله صحيحا ففي حالات غياب العقل والانقياد بما تقوله النفس حتى لو كان مزاحا من ارتكاب خطيئة او قتل ربما انساق وراء فكرة جهنمية فلم يدر وإلا وقد انقضى الامر لكني اعود من هذه التخمينات بأن رجل في مثل سنه وثقافته وعلمه الذي اصبح مضرب المثل قبل هذا الاجتياح الغريب الذي حل به ، من غير الممكن ان يفعل ذلك فهو رجل مستقيم الخلق ، بحثت في ملفه الشخصي وسألت عن علاقاته في محيط اسرته وعمله فلم اجد شيئا له سوابق من شأنه ان يقود لمثل هذا الفعل المشين في حقه كإنسان ، لا ادري الى الآن فهذه اول حالة تتعبني استقصاء معالمها منذ فتحت هذه العيادة النفسية ، لدرجة ان حالته اصبحت هوس بالنسبة لي ، عاودت قراءة كل كتب علم النفس فلم اجد شرحا لمرضه ارتاح له واجعله مقصدا لعلاجه ، أسقيه بعض المهدئات ، وأسأله عن حياته ايام كان صبيا فلم يرشدني الى خيط ولو بسيط جدا يقودني الى مغالطات او اخطاء او قسوة او اهمال بكراهية او حقد مثلا من اهله كي ابني له مفهوم للعلاج من اقاصي طفولته ، حاولت معه تكرارا ومرارا ألا يخفى شيء وان يلقي بخجله وراء الباب ويشرح لي مالاقاه من مشقة ومعاناة وعراقيل في حياته مسلطا الضوء بكثافة على صباه ، فلم اتلق شرحا يشفي غليلي عن حالته ، لقد ارتفع ضغطي في احدى جلساته وكدت ان الطمه واركله واخبطه على الحائط فهو كأنه يكرر كلام محفوظ ولا استنبط منه اية اهمية او جدوى ، وكدت ان اطرده من عيادتي فالعيادة ليست ملجأ للمحزونين ومعذوبي الضمير ولكنها لعلاج الحالات النفسية كي تعود الى استقامتها بعد شفائها من امراض نفسية تخلصت منها بوصولها الى نقطة فهم واستيعاب منطقي لما حدث سابقا والقت بها في المهملات بعد ان كانت تؤرقها وتقض مضجعها ، فعاد اكثرهم الى حياتهم الطبيعية مستقرين بعد ان تخلصوا من شوائب اتعبتهم في الماضي ورأوا ان المستقبل اكثر اشراقا مماعهدوه ، ولكني حين انظر الى عينيه احس بفشلي وانني الى الآن لست بذلك الطبيب النفسي الذي يقوده بحثه العلمي الى فروض يبني عليها تجاربه كي يصل الى الحقيقة ، انهيت آخر جلسة معه باعادة نصحه مرة اخرى ، عليه ان يتخلى عن العواطف والمقدسات ويسرد علي طفولته الحقيقية اذا اراد الشفاء ، نهض بتثاقل نظر الي بعينيه الزائغتين احسست برعب لاول مره احس بقشعريرة خوف من مريض اعالجه ، شكرني ببرود هبد الباب وراءه وغيبه الزحام .
***
لم اره ابدا بعد الانفصال ، هل كان ذلك الحلم الشاسع النضر الذي بنيناه معا ، اسسنا بنيانه بصدق وواقعية ، لم نرتكب خطيئة قبل الزواج عدا بعض القبلات التي كانت تحدث غالبا بين المحبين ولكنها لم توغل في شيء آخر ، كان معي وامام عيني يكبرحبه مجتاحا النفس والشرايين ، ربما لم تكن بيننا صلة قرابة ولكني عرفته ايام الجامعة ذلك الشاب المثقف الانيق الوسيم الذي يقرأ كثيرا ويناقش في كل شيء ، كم كنت فخورة به امام صديقاتي لم اسمع عنه ما يسيئ الذكر ، لقد كان لي ظل وارف احسست بأن العالم ملك يدي ، كانت تجمعنا انا واياه في كلية الآداب مستقبل وطموح ، حلمه الوحيد أن يكون اديبا معروف بمبادئه التي اقسم بألا يحيد عنها مهما كلفه الامر ، كانت كل نقاشاته حول ازمة العرب التي يمرون بها ، ازمة فكر وفهم ، محاولا صياغة افق جديد لعالم في خياله لم يتحقق ، انقضت سنوات الدراسة ، وعرفته حق المعرفة لم تكن مجرد لحظات للانس والسمر ولكنها عشرة عمر ، لم الحظ فيها يوما شيئا غريبا او تصرفا مريبا انما كان تلميذا مجتهدا ومتفوقا في بحوثه اثناء اجتماع الطلبه في الجامعة او حتى في تلك الرحلات التي تقيمها الجامعة بحضور الاساتذة الذين كانوا يشيدون به وبتطلعاته وفكره وطموحه ، اتذكر احد هؤلاء الاساتذة الذي هنأني حينمّا اعلنا خطبتنا في آخر سنة دراسية في الجامعه ، لقد ناداني على انفراد وقال لي بالحرف الواحد ما زلت اذكره كأنه يحدثني الآن ( هنيئا لك بهذا الطيب ) ، تزوجنا كان مثاليا في تعاملاته ، حاول ان يجسد ثقافته التي هضمها كي يبني منها صورة اخرى لرجل متسامح لا يهضم حق المرأة ولها حق الرأي والمشورة و في اكثر الاحيان عندما اكون فيها مزاجية ومستبدة في مواقفي يتساهل معي ويخضع ببساطة لما اقوله ليس بمعنى ان يكون تابعا لي فهو ذو شخصية قوية ومتزنة ولكنه يغير رأيه بعد نقاش معي اذا اقتنع بأن ما اقوله اكثر صوابا من موقفه بالمنطق والحجة والبرهان ، هذا الرجل النادر في عالم اليوم لم تكتمل دورة حياته الطبيعية وبدأ انهياره وقسوته وصراخه وشتائمه بعد وفاة طفلته الاولى ، هل يعقل ان هذا الرجل كان مملوأا بقش وان ما كان بداخله هو انكسارات وحطام وان فكره متهافت حتى يتخبط وينهار امام موت صغيرته وهو الذي كان يسخر من الذين لا يصمدون على احزان وجراح الايام ناعتا اياهم بالجبناء يتهشمون بمصير ضيق لان نفوسهم كالزجاج قابلة للكسر عند سقوطها الاول ، لقد كان معتقا بالمقدسات ، ليس متدينا بمافي هذه الكلمة من معنى ولكنه كان يحترم الاخلاقيات التي يأمر بها الدين ، متأثرا بها في حياته ، هل كنت اعيش مع فراغ لم تملئه الطبيعة الا بالعتمة والهشيم فبان الوجه الى اقصاه وتناثرت الخيبات من مستنقع كان راكدا بالوحل والجراثيم فطفا الى السطح ما كان غائبا وبان في صورته الجلية التي لا حياد من الوصول اليها ذات يوم ولو امتدت عشرتنا عمرا طويلا كي تصل الى هذا الحال من رعب الفجيعة والظلام . .
|
|
|
| | |