 |
قسم قصص متنوعة الجدة فاطمة |
الجدة فاطمة
عند الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم ،كانت الجدة "فاطمة " توضع على فراشها الملتصق بالأرض تقريبا ، كانت أسرتها قد تحلقت حولها ،كل منهم أحاطها برعايته فقد كان ابنها البكر يسوي رأسها على الوسادة التي ظلت تنام عليها لأكثر من عشر سنوات ، فيما كان حفيدها يدلك قدميها برفق ، وانشغلت ابنتها الوحيدة بتسوية ملابسها وستر أعضاء جسدها التي انكشفت بفعل الرفع والخفض ، دارت الشعر الذي اشتعل شيبا في غطاء الرأس الأسود أولا ، ومن ثم عدلت من وضعية الجسد النحيل .
صدرت آه صغيرة من فم الجدة " فاطمة " وأعقبتها بتنهيدة متألمة ، سألها ابنها البكر - كيف صحتك ألحين الوالدة ؟
ردت وعيناها المطفأة أكثر بروزا من عينها الصحيحة
- على آخر العمر ، خان بي ظهري يا ولدي ! .
بقي جسد الجدة " فاطمة " مسمرا إلى الفراش وجامدا حتى منتصف ذلك اليوم عندما سمعت قرعا متواصلا على باب دارها وصوت استئذان مألوف لديها ، كان الصوت القادم إليها صوت الجد "علي " أرادت "الجدة "فاطمة " أن تنهض لاستقباله كما اعتادت ، ولكن ألم ظهرها أعادها إلى الفراش ، دخل الجد "علي " نادى عليها بصوت جهوري وقوي
- فاطمة ... يا فاطمة .وينك ؟
- تعال يا علي ، قرب أكثر .
كالطفل جلس قريبا من رأسها ، كادت أن تشتكي كمن عرف أن نهايته قريبة ، أحس الجد "علي " بصمتها تحركت الغضون في وجهه وقال
- من يوم يومك يا " فاطمة " وأنت متعثرة في حياتك من طيحة لطيحة .
بتمهل وباستخدام أصابع يدها عدت له الجدة "فاطمة " بصوت واهن المرات العديدة التي سقطت فيها وتعثرت ومن ثم قامت منها كالحجر الصلد الذي لا ينكسر بسهولة ، لم يجبها الجد " علي" إلا بالصمت الطويل.
وبنظرة جانبية إليه ، أحست بإمعان أن معدن هذا الرجل طيب أكثر مما خبرته في السنوات الماضية ، وداخلها شعور غريب بالخطأ والذنب العظيمين اتجاهه، خالت في - تلك اللحظة - وهي ترى بخيالها السماء من وراء حجب الغرفة أن عيني الجد " علي " ممتلئتان بالدموع وأن هنالك حشرجة ما في صوته تمنعه من الكلام .
كان الجد "علي " يدخل لأول مرة إلى غرفة "الجدة "فاطمة " ،ففي زياراته شبه اليومية لها كانت تستقبله والجدة " سليمة " تحت المظلة الأمامية للبيت ولم يشعر أن هنالك داع لأن يرى ما هو أكثر من ذلك في تلك الدار ، إذ كان دخوله الأول إلى بيت الجدة " فاطمة " جاء بعد أصبح يمشي على ثلاث وقد أكل الشيب سنوات النضج والاكتمال في جسده .
باستثناء الضوء الخافت الذي تسرب بخفر من النافذة الخشبية كانت غرفة الجدة " فاطمة" شبه باردة وكئيبة ، وعندما رفع الجد " علي " عينيه إلى خشب السقف وجده مخترقا بثقوب النمل ، كانت نخالة الخشب تملأ الغرفة والأنوف ، وعندما جاس في أركن الغرفة بعينيه التعبتين وجدت أن الجدران عارية من إلا من أثر طلاء قديم ، بينما بقيت " الروزنة " الشيء المبهج الوحيد في الغرفة وظهرت منها أدوات زينة " الجدة فاطمة البسيطة من الكحل والعطر والصندل وزيت الشعر والمشط الخشبي .
في مساء ذلك اليوم كانت الجدة " سليمة " تزورها ، جلست بمحاذاة صدرها ، بعد أن تحسست المكان بيدها وحددت موضعا لعصاها الطويلة ، شخص يصرها المعطوب نحو الفراغ الذي يملأ الغرفة ، قالت بصوت خافت
- صبري " فاطمة " باكر تقومين مثل الحصان وأحسن .
- بس على آخر الزمان ما يكون الكلام لي يا " سليمة " ؟! يكون شوري في يد غيري ؟!
كانت الجدة " فاطمة " قد سردت لها بهدوء وتأني عن فعل أبنائها بعد انقضاء زيارة الجد "علي " ، فقد تغيرت وجوههم جميعا ، وان كانت ابنتها قد جاءتها متعثرة بثيابها والخجل يلون وجهها فإن حفيدها كان أجرأ الجميع وأخبرها بصرامة لا شك فيها أن زيارة الجد " على " ودخوله غرفتها ورؤيته لها وهي بتلك الوضعية غير مقبول أبدا . وتروي الجدة "فاطمة " بالنص جملته التي أنهى بها الكلام الكثير والذي سانده فيه البقية بهز الرؤوس أو إضافة تبرير أو علة .
- حرام ، يا جدتي ، حرام ، الرجل غريب وحرام يشوفك وأنت بهذي الحالة .
تهدج صوت الجدة " فاطمة " وانقطع حبل الكلام من لسانها ، أخبرت الجدة " سليمة " أنها ولم ترد عليهم في وقتها الا بإدارة رأسها إلى الجانب الآخر مولية لهم خدها الأيمن . عازمة في داخلها أن تضع لكل منهم حجمه ومكانه في هذه الدار ، في حضرت الجدة " سليمة " تجرعت ريقها بصوت مسموع وقالت
- الولد يعلمني على شيبي الحرام والحلال . شفت الدنيا يا " سليمة" ؟!
في صباح اليوم التالي بدأت الجدة " فاطمة " كلامها
- ذاك " الروع " ، تتذكره يا "علي " ، "الروع " الصغير ؟
كان الجدة "علي" والجدة "سليمة" قد افترشا الحصير القديمة في دهليز غرفة الجدة " فاطمة "، و كان الجد " علي " قد أمسك بعصا " القدو "وهو ستند بظهره إلى الجدار ،سحب الدخان وأحدث به صوتا في الماء ، أخرج الدخان من فمه وكح مرتين ، أمسك يد الجدة " سليمة " وناولها عصا " القدو " ، من جهتها وضعت الجدة " سليمة " قاعدة القدو بين قدميها وسوت رأسه ، أعادت سحب الدخان منه بقوة .
للمرة الثانية قالت الجدة " فاطمة " :-
- تسمعني يا علي ، الروع ما أحد غيره ، اللي كان معنا وإحنا وصغار .
كان الجد " علي " يتذكر ذلك اليوم بشكل جيد ، ففي سقطت الجدة " فاطمة " وهي في شطر الشباب الأول في البئر العميقة المحفورة في وسط القرية وكان هو منقذها ، أخرجها بين يديه مبللة ومرتجفة من شيء قالت أنه ظلام يتحول من صورة إلى أخرى دفعها إلى البئر ، تعلقت هي بساعديه ورقبته حتى أدمتهما بأظافرها ، وتعلق قلبه بها منذ ذلك الحين .
همهمت الجدة " سليمة " بكلمة واثنتين وهي تسحب دخانا جديدا من رأس "القدو " ، سألتها الجدة " فاطمة " في استغراب
- كيف ما تصدقين يا " سليمة " ؟! وحق الله كان نفس الروع .
كانت الجدة فاطمة قد حكت مطولا لكل من زارها عن دهماء فاجأتها وهي في الحمام ، أخذت تدور وتتغير إلى أشكال غريبة وفي النهاية تحولت إلي صابون رطب ولزج جعلها تسقط وتكسر عظم ظهرها ولكنها في دخيلة نفسها ظلت محتفظة باسم تلك الدهماء ولم تذكره اسم ذلك الجني الأسطوري إلا أمام رفاق عمرها .
كانت الجدة " فاطمة " موقنة – بعد حادثة سقوطها في البئر - أن هذا الجني الصغير المتقلب سيزورها يوما ليوقف ساقيها عن الحركة ، وظل ذلك الشعور ملازما لها طوال سنواتها السابقة ، ومابرحت تنتظر أمر مبهم ستأتي به الأيام ، خائفة في ذات الوقت أن يصدق حدسها الذي لم يخنها يوما ، ففي الليلة التي سبقت رؤيتها للدهماء في الحمام ، رأت فيما يرى النائم أن الجني الصغير يأخذ مكانا قصيا من عتبه دارها ويبكي نارا ودما ويقترب منها في غضب واضح ، قامت فزعت من نومها وتفلت ذات اليمين وذات اليسار ومسحت على جسدها بشيء مما تحفظه من القرآن ،وظلت تتوجس من أدني حركة في الغرفة ، وعندما انتشر ضوء الصباح الذي انكسر فيه ظهرها كانت في عجلة من أمرها وضعت "الليسو " المزركش على عاتقها ميممة وجهها بيت "أبو السرور " ارتقت عتبات البيت العتيق وحكت لأبي سرور بوجل كبير الرؤيا المفزعة ، طمأنها أبو سرور بقوله
- خير يا فاطمة خير ، دربك أخضر وحياتك سعيدة .
لا تدري الجدة فاطمة " أي خاطر طاف بخاليها فتراءت لها دار الجد "علي " وهي تمر عليها هذا الصباح غير محكمة الإغلاق وكأنها مشرعة وترحب بجميع من يدخلها، أعادها كلام "أبو سرور " إلى الأرض قائلا لها في تحذير - الروع يا فاطمة ما يحب إلا الإنسان اللي يكون وحده .
الجد " علي " كان حبة العين للجدة" فاطمة " ، وهي حبة الروح بالنسبة له ،هذا ما أدركته الجدة " فاطمة" وهي مستلقية على ظهرها ستعرض عمرها الذي انقضى ، في باكورة الشباب عندما سافر كانت تعرف من همس البنات أنه يسافر من أجلها ، سيعمل من أجل أن يدخر كل ما يحتاجه الارتباط بها وعندما طال غيابه بنى عليها أبو عيالها ، وغابت ذكرى الجد " علي " من بالها ولم تفهم أن جذوة ذلك الحب مازالت في قلبه إلا عندما ترمل كلاهما في سن تربية الأحفاد ، كان أصيلا دائما ولم يرد أن يكون منغصا في حياته امرأة أدركت أنه يفتديها بروحه لو أرادت ، ومن جهتها كانت قد قطعت في نفسه من حيث لا تدري آخر حبال الأمل في اجتماعها كما أراد في شبابه عندما مازحتها ذات يوم الجدة "سليمة " غامزة في حضوره قائلة
- فاطمة ليش ما تاخذي أجر ها المسكين علي وتتزوجيه؟
يومها لم تدرك ولم تفهم ، أن أمر الجد " علي " وتعلقه بها كان مكشوفا للجميع إلا هي ، ردت بالكلام الحاضر في فمها
- المرأة الحرة يكفيها تنكشف على رجل واحد في حياتها .
هذا الصباح كانت تنتظر الجد " علي " بشوق لتقرأ لهفته عليها ، في وجوده لن ترى "الروع " ، أنصتت سمعت قرعه على باب دارها أ سمعت صوته ينادي
- فاطمة ، يا فاطمة
في خيالها نادت عليه
- تعال ، قرب يا علي أكثر .
من على فراشها سمعت أصوتا تختلط مع أصوات الجد "علي " ، سمعت صوته يخفت عن الاستمرار في نداء اسمها ، وعندما اضمحل صوت الجد " علي " كانت صورة الدهماء قريبة من مدى نظر العين الصحيحة للجدة " فاطمة " .
|
|
|
| | |