سأخون ذاكرتي
رحمة المغيزوي
إهداء :-
علي
لأجلك سأخون ذاكرتي
سأكتب كل النصوص معكوسة
ذاكرة علي
(1)
ترتجف يد أمي قليلا في يدي وأنا أمسك بها لنقطع الطريق المزدحم بالسيارات ، نقف على الرصيف ، تتنفس بعمق ، تقطب ما بين عينيها تلعن السيارات المسرعة وأصحابها ، تسألني باستهجان وتوتر واضحين
- ليش كل واحد فيهم يسابق الثاني ؟!.
أخذ بيدها مازالت حرارة الحمى كبيرة في لحمها ، ومازالت هي عنيدة كما كانت ، توترها يظهر دائما بإرتجافة خفيفة في أصابعها ، أراها تشد على أرغفة الخبز المعبأة في الأكياس البلاستيكية ، فيما أمسك بكيس حبات الطماطم الصغيرة والدواء في اليد الأخرى . نهم بقطع الشارع ، توقفي على الرصيف عندما تسمع صوت إحدى السيارات ،
- تعبانه يا بنتي ، صبري شوي علي ، خلي بالك من الطريق .أسمع صوت سيارة .
أحس بوهنها وأنفاسها الملاحقة ، أمسك يدها بقوة ، بسرعة نقطع الطريق ، نصل إلى البيت ، أفلت يدها ، أفتح الباب الخارجي ، تدخل أمي بقدمها اليمين ، تسمي وتسلم على أهل البيت من الجن
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أوصلها إلى سريرها ، أعطيها شيئا من الدواء الذي صرف لها من المستشفى ، تنظر إلى بصمت ، أغطيها تعلق بصرها بالسقف ، تمسك بيدي وتدعو لي
- الله يخلي لك صحتك وكمال عقلك يا بنتي .
أشعر بشيء باردة ومريح يمس داخلي ، تغيرتْ منذ انتقلنا ، أصبحت تنسى أحيانا وتكيف نفسها . خالجني شعور بالراحة اتجاهها وأنا أطلب منها أن تنام ، ريثما أعد الغداء ، في أخر الدار يقع المطبخ ،ذاكرتي تعد الخطوات الثلاثين إليه ، أخرجتُ السمك من الثلاجة ، عدت ووضعته فيها،بعد أن تذكرت أن أمي اشتكت منه بعد أن وجدتْ عظما صغيرا في اللقمة التي كادت أن تصل إلى فمها ، وتركتْ الطعام وقالت بضيق
- ناقصني بعد أموت من عظم سمك .
استقر رأيي على إعداد الدجاج ، وقربتُ رؤوس البصل ، أشعلتُ النار، كان في النار سر لم أعرفه ، في نظري كانت النار قوية ، لأنها تحمل الضدين دائما ، جميلة ومحرقة ، أترك كل شيء . وأعود إلى نفسي .ها أنا ذا لم أتغير منذ ما يقرب العشر سنوات ، ما زالت نفس الأحداث التي شغلت ذاكرتي موجودة ومتجددة ، ذات الأحداث المتراكمة منذ سكنا القرية وذات الزيادات التي فيها بعد أن انتقلنا إلى أطراف المدينة ، قبل عام شعرتُ أنني أضيع الأحداث في الصخب الجامعي الذي بدأت أسايره ، وأنني أبدو غير ما كنتُ أعرف ، كنت أنا أستبعد لأيام كل محتوى ذاكرتي العتيقة فأشعر بالحرية ،بالفرح الذي افتقدته منذ كنتُ في العاشرة ، ولكن وجه "الأستاذ على " الذي أوقفي ذات يوم بعد محاضرته ، تفحص فيها الأسماء الطلاب ووجوههم وقبائلهم وسألني بلهفة غريبة
- سمعت عن " تجفة بنت حسن " ؟
أحسستُ أنني لم أتغير ما زلت أشعر بالتعب من بعض الأشياء دون سبب ومن الإرهاق كلما نظرتُ إلى السماء وأردتُ أن أختار لي نجمة أسمع " صوت " حسن" يرن في أذني مستبشرا
- سامية أنت ذيك النجمة البعيدة .
في أول مرة زارنا فيها "الأستاذ علي " ليتعرف علي بعض من أهله ويسأل عن " تجفة بنت حسن " كما ذكر في ذالك العام ،كنت أسمع صوته من مكاني في الطابق العلوي ، كنت قد رأيته يجلس بالقرب من أخي " راشد " وتحدثان طويلا ومن ثم سمعتُ صوت أمي تخبره بتوجيه كلامها إلى أخي وتقول
- يا راشد خبره أن قبر " تجفة بنت حسن " في وسط مقبرة الحارة عليه طرف نخيل ، خليه يروح يسألها عن "حسن " ، إحنا ما نعرف شي ، وما نعرف أحد ، كل واحد أخذ رزقه وراح .
ثم تزفر أمي بعمق وتقول بنبرة باكية
- وقوله كيف بعد ها السنين تسأل عن تجفة وأهلها .
لم ترتاح أمي أبدا إلى "الأستاذ علي " ، شكتْ في كل الكلام الذي قاله من أن جذور أسرته تنحدر من نفس المكان الذي جئنا منه ، وأن إحدى جدتيه نحمل نفس قبيلتنا ، قالت لي في أول مرة حدثتها عنه وعن علاقته ب " تجفة بنت حسن "
- هو يريد يعور قلوبنا ، إحنا ما صدقنا نبدنا ننسى . عشر سنين مرت والدنيا تغيرت . وكل طير طار بحظه . وإحنا ما نعرف جدته ، سامية خليك بعيدة عنه ، بسنا من السوالف والكلام .
حتى وأنا أغوص في الظلام ،أبدا أعود إلى ذاكرة العشر سنوات ، تحرقني الأشياء في هذه السن تحديدا ، عند منتصفها أشعر بأنني أبحث عن " حسن " ، كان الإحساس المتأصل لدي أن "حسن " مختبئ في إحدى لحظات تلك السنوات العشر ، وأنه سيطل برأسه من أحد الجدران ويبتسم ، أنه سيكتشف معي الأسرار التي بت أعرفها عن النساء مثلما اكتشفت صدفة أن " تجفة بنت حسن " ليست أمه ، وأخبرته
- حسن " تجفة بنت جسن" ما أمك . سمعت أمي تقول أمك ماتت وأنت بعدك قطعة لحم حمرا .
في يومها جري " حسن" من أمامي ، بحثت عنه ليوميين لأخبره أنني أكتشف أسرار النساء ، أشرح له عن " عويش " وكيف كانت صورة النساء المجتمعات في بيتنا الكبير في القرية ، وصورة " عويش " وهي تتوسطهن أكثر جمالا ، " عويش " القريبة من ذاكرتي الآن ، كانت تجلس في الوسط تضع طفلتها الصغيرة بين ساقييها القويتين ، تخلع بتمهل سروال الطفلة تهدئ من بكاء الطفلة وتفتح ما بين ساقيها تقترب امرأة غريبة عنا من الطفلة وفي يدها شفرة حادة تقطع شيئا من بين الساقين ، تصرخ الطفلة الصغيرة ترفع المرأة قطنه ملوثة بالدم وبيدها ، عندما تراني أمي تنهرني ابتعد عن الحلقة النساء ، يزيد اللغط والضحكات وهن يرددن للطقلة
- طار الشر يا بنية .
تضحك " عويش " ، ضحكتها تعيد لي اكتشاف الأشياء الأولى ، الأصوات من حولها تزيد
- علشان خاطرنا يا عويش .
أنظر من بعيد تقف " عويش " في وسط الحلقة ثم تعود وتجلس ، ستحثها الأصوات مرة أخرى بضحك متكبر ، تقف من جديد ، تهم بالرقص ، تحاصرها الأصوات معترضة ، ويقطع صوت إحدى النساء الاحتجاج
- عويش ، إحنا نريد نعرف كيف رفعت ذاك .
وتشير إلى ثديي " عويش " الصلبين ، تجلس " عويش " في حياء ، تستحثها الأصوات ، تتمنع " عويش " في خجل ، تقترب أيدي النساء إليها وينزل ثوبها من أعلى كتفها ، ينظر باستغراب للقماش الذي يلف صدرها ، فيما تزيد ضحكات " عويش " في أذني .
يخرجني صوت أمي من الذاكرة ، أجري إليها ، اترك كل ما عرفت في سن العاشرة ، وجدتها شاحبة وصفراء ، بدت لي شبيهة " بتجفة بنت حسن " الآن ،العينان الغائرتان دون معنى محدد ، الشعيرات البيضاء التي خرجت من تحت غطاء الرأس ، ذلك الانكسار الذي صحبها في السنة الأخيرة التي عاشتها ، نادت أمي علي بصوت واهن
- أريد أشرب . حلقي يابس ، الله يلعن الشيطان وسوالفه .
كانت أمنية " تجفة بنت حسن " التي أسرتها لي وأنا أقترب من سريرها الملاصق وأسألها بجزع
- أمي " تجفة " أنت مريضة ؟.
- حسن . وين ولدي حسن ؟
أتحرك من جانبها لأنادي أمي لها ، ولكنها تنادي علي بتوسل
- ما أريد أحد ، بس عطيني ثوب حسن . خليني أشم دمه وريحته .
تسعل أمي بشدة ، أقترب منها وفي يدي زجاجة الدواء ، ترفض وتزيح وجهها جانبا
- بسني تعبت من كل ها الدنيا ، متى الله بريحني من كل شيء . ويفكك من كل ها التعب .
صامتة أتركها في الغرفة ، كنت أعرف أنها سترتاح عندما تكون وحيدة ، ربما تبكي ، أمي دائما تبكي وحدها ،حتى عندما مات أبي ،و قرر أخي "راشد " أن يسكن هو زوجته بعيدا عنا ،أغلقت على نفسها الباب ولم تسمح لنا بالحديث معها ، عندها تشعر بالضعف وتتذكر أن العالم كله ضدها ، تعلمت أن أغلق عليها الغرفة ، تبقى تشتم المرض وتلعن نفسها ، إلى أن اسمع صوتها يرتفع بالاستغفار والتوبة ، ومن بعدها تخرج لتصلي ركعتين وأسمعها وهي تبكي ،بعدها تخرج إلي بنفس راضية وتقول باعتذار مبطن
- الإنسان ويش غير لسان ، واللسان ما في عظم ، يتكلم بدون ما يحس .
كانت مثل تلك الحالة تشتد عليها في الليل ، تخاف أن تنام فلا تصحو ، تقترب مني لتتأكد من انتظام أنفاسي ،فأسمعها تسب أجدادها وكل من كان سببا في وجودها في الحياة ، وفي بعض الأحيان تعود إلي بعد أن تطوف بأرجاء البيت وتفتح الغرف التي لم نعد نستخدمها ، تدور فيها ومن ثم تغلقها ، وتعود لتجلس بجانبي
- من تزوج راشد خلا ها البيت ، وما بقالك غير هذه العجوز اللي مصدعة راسك .
في وقتها يتغير كل شيء في البيت ، تمد يدها بصحن الطعام الذي تحضره من المطبخ ، تمد لي كسرة من الخبز وشيئا من التفاح ، تضع شيئا من الطعام في فمها وتنظر إلى الدواء وتقول :-
- صحيح اللي يقولونه في المستشفى ، أنا ما مريضة ، أنا بس محتاجة أرتاح و أترك الشك من قلبي .
تنتظر ردة فعل مني ، ألوذ بالصمت
- أنا أعرف أنك في هذي الأيام ما تاكلين ، كلي حبيبتي ، أنا أقول راح أصلي ركعتين في كل ليلة وربي راح يسعدني وأنسي الوسواس ، أن وراشد كلهم بخير ، ما فيكم غير العافية ، ويش رايك ؟
(2)
بعد شهر من سفره تذكرني " الأستاذ علي " وكتب لي في ايميل طويل
(سأخون ذاكرتي ، في لحظة خطر لي أن هذا العنوان ، فجأة فكرت أن يكون عنوان مدونتي،.. على غرار سأخون وطني لجمال الغيطاني.. وأنا هنا سأخون ذاكرتي بدعوى قضية النسيان التي أثارتها أحلام مستغانمي، التي تخاطب فيها النساء قائلةً:"أحبيه كما لم تحب امرأة، وانسيه كما ينسى الرجال" مختزلة قضية الخيانة في
الحب في جنس الرجال دون النساء، متناسية ثرثرة المرأة في الشكوى من البعد
والفراق، وصمت الرجل حين يتلاشى احتراقا .
إن فلسفتي في الحب قائمة على تلك المسافة التي يقطعها الرجل وهو في طريقه إلى قلب المرأة بين الروح والجسد، فكلما بقيت هذه المسافة باقية سيبقى الحب، وكلما تقلصت المسافة ووصل إلى تخوم الجسد، سيبدأ هو بالبحث عن مسافة أخرى يقطعها في قلب امرأة أخرى، وستبدأ هي تعدوا ركضا محاولة الإمساك به دون جدوى وهنا يكمن الفرق سيدتي.
لكن ماذا لو أبقت المرأة على هذه المسافة متأججة؟ ، هي انتحار بطبيعة الحال لكنها السبيل الوحيد والملاذ، وهنا سيصعب على الرجل النسيان حتى وإن رحلت هي، ومن هنا سيدتي ستبدأ الحكاية، وأي حكاية، حكاية تقفز من أعلى شرفة في برج حب مجهولة معالمه، برج تعددت نوافذه، واستلبتني مفاتيح أبوابه، وأضحت عليَ عصية
أسراره.
رحيل بلا قبلة وداع ذاك الذي آلمني.. رحيل إلى المجهول كان أقرب للضياع.. لم أكن لأتوسلها الرجوع فعزة نفسي كانت تأبى التوسل لمن باع الوداد، غير أني سرعان ما اكتشفت أن لا عزة للنفس في الوجد، لكنه شيء يسافر دون حقائب وبدون زوج حذاء
.كان يومها لنا عالمنا الخاص الذي استمتعنا به على طريقتنا، ثم أصبح ذلك العالم مجرد ذكرى أحاول حتى الموت كي لا أخون تلك الذكرى، صحيح أن الزمن لا يعود، وإن عاد بشيء من ذكرياته فبطريقة مختلفة لن تتشابه مع ما سبقها من ذكريات، فهي إما طيف من خيال، أو حلم من واقع محال. لحظات ربما هي أعذب اللحظات التي مررت بها في حياتي، لحظات رغم جماليتها إلا أنها كانت ممزوجة بالخوف والألم، خوف مصدره ما بعد ذلك، وألم كان يولده قلق مستمر من عاطفة تجتاح العقل ليمضي إلى غير ذات وجهة.. كانت حالتي أشبه بالتيه بحثا عن حلم خلف سراب.لحظات لا أدري إن كنت أتحدى فيها الضمير الأخلاقي، وأتخطى فيها القيم والأعراف والقوانين أياً كان شكلها ومضمونها، وسؤالا دائما يتكرر كالرنين المغناطيسي في عقلي.. هل يحدُ الحب قيم وأعراف وقوانين؟... إن كل ما كنت أستوعبه حينها هو ذلك الكم من المتناقضات الذي كنت أمارسه طواعية على نفسي بوعي أو دون وعي أحيانا.
همس العيون.. أريج العطر.. الشال الفستقي.. وأشياء أخرى كانت تؤسس في ذاتي أيقونات، تتجذَر كل يوم لتصل إلى أعمق أعماقي، وتأبى أن تفارق أفكاري، وكلما ذهبت لألقي بها في الشاطئ الذي تعودت الجلوس عليه، وما أن أقذف بها حتى يعيدها الموج لي مرة أخرى أكثر عنفوانا وأشد تطرفا.. فماذا عساني أسمي ذلك؟!! حب.. عشق.. هيام.. جنون، أجل إنه الجنون العاطفي الجارف الذي بدأ يجتاحني عنوة دون سابق إنذار، ومتلازمة الصمت كانت هي الأشد وقعا على نفسي يومها إذ كنت أخشى الاعتراف وأعتبره ضعفا، أو لنقل خشيت أن أردّ فينكسر قلبي الأبيض المعتوه.)
كانت صورته المرفقة بالايميل صغيرة لم أشاهد من منها إلا جمال الذقن الحليق في كل مرة التقينا فيها ، العينان السوداوان المشعتان بضوء النجوم ،ثم هي صورة التشابه التي أفكها بينه وبين " حسن " كنت قد قررت ضمنا أننا نمر بنفس المنحنى ‘إن كان بطريقة مختلفة في الشكل ، كان هو يتذكر ليبقي الأحداث حية ، وكنت أتذكر لأنسي.
في ذلك المساء الذي اتصل بي قبل سفره، كان الفضول الذي شمل أول لقاء بيننا هو ما دفعني إلى الرد عليه ، كان صوته قويا وكأن المساء بهدوئه لم يمس شيئا من طبقاته ، نقل إلي توجسه الأول قال بشيء من الخوف أن التفاصيل تضيع منه وأن العطب يصل إليها منذ شعر أن عاما قد مر على أخر ابتسامة رآها تملأ وجهها
-أريد الحديث عنها حتى لا تندثر وأنسي شيئا منها .
يبدو لي أ ن الكلام مثل الكتابة وحدهما قادران على رفو الحرف مع الحرف وصياغة شيئا من الوجود الإنساني ،كان قد خاف هذا المساء أن ينسي أدق التفاصيل وجهها وكيف كانت تتعرق وتحزن وتمشي وتقبل ، القضية كلها كانت قضية وجود ،تلك الومضة التي حركت حياته ونسي كل الوجوه وتذكرها هي عندما رأى وجهي ،في أول لقاء قال لي
- فيك شيء ما أعرفه من تجفة . يمكن طيبتها .
كنت في وقتها ممتلئة بالمساء ، السكون الذي مارسته مع نفسي لفترة زادت عن الساعتين متواصلتين شكل قشرة سميكة لم يستطع " الأستاذ علي " على حدة صوته أن يكسرها ، لم أشعر أنني أشبه أحدا حتى ولو من بعيد . أجبته وأنا ساهية كليا بأننا سنتلقى في الصباح .
في المساء أكون قد جربت بهدوء ذلك ، أغمضت عيني ، شعرت بالهدوء الذي يقترب من السماء ، تذكرت وجه " الأستاذ على " ، تصورت أني أجادله ، كما كنت أفعل قبل سقره ، قلت له العبارة الوحيدة التي لم أقلها له عندما طلب مني أن أحلل له كل ما مر به في ذلك العام ، قلت له :-
- اعتقد أو لا تفعل عندما تحب شخصا فأننا نحبه خالصا هو لا غيره ، يكون محتلا للقلب ، وعندما نفكر في شخص آخر غيره يمكن أن يشاركه في قلوبنا فان النقص يكون قد حدث فينا أو فيه بحيث لم يعد يملأ فراغ قلوبنا ، عندها لا نعود نحبه وإنما يصبح الحب خاضعا لأمور أخرى تفرضها الحياة .
كنت أرد عليه بنفس أسلوبه اللغوي الذي آمن به دائما ، لأن
- الكلمة صنعت العالم .
كما قال دائما في تلك الجلسات التي اكتشفنا أننا بدأناها متأخرا ،وأن سفره بات على بعد خطوتين أو أقل ، ذات يوم سألته بأسلوب مباغت
- هل تأكدت أنك أحببتها في يوم ؟
لم يجبني " علي عن السؤال في وقتها ، انشغل بالأوراق في يده ، تحرك في كل اتجاه في المكتب ، أعطى تعليمات كثيرة للطلبة ، وتجاهلني ، عندما عدت إلى البيت كان السؤال قد غاب عن بالي تماما ، عدت إلى نفسي وألم الرأس الذي شعرت به في الصباح ، جربت أن أتمدد في سريري وأنام في اللحظة التي أرسل " الأستاذ علي" فيها
-( سؤالك كان قضية أخرى ، في أحيان أشعر أنني لم أحبها لأنها تتحول إلى طيف لا أعرف مدى صحته أشعر ولكنها تمثلت في صورة من أحببتها فأحببتها ، أنه أمر غريب أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة " ليس لي إلا الذكرى ولمس الحروف والصمت " تلك العبارة وجدتها الآن في دفتر كنت أسجل فيه الرسائل حيث كنت أمسحها حتى لا تجدها زوجتي التي أحبها ، أي تناقض هذا .)
كان المهم بالنسبة لي في ذلك اليوم تحديدا أنني مررت بالتجربة التي بحث عنها طويلا ، سأكتب كل شيء ، ومن ثم سأمحو كل شيء ، سأؤرخ ذاكرة بيضاء جديدة ، يحدث ذلك عندما يحين المساء ، أتخذ تلك الوضعية دائما ، أجلس في زاوية من الغرفة ، أختلط بالظلام ، اسند ظهري إلى الجدار ، أضع صفحة بيضاء أمامي ، أكتب فيها ، أعود إلى ذاكرة الأيام التي أرهقتني طويلا ، أرسم في ذهني صورة إنسان أقوم بكتابها ،أمزقها أرمها بها من أعلى شرفتي ، بدأت فترة أشعر أن ذلك الإنسان تحول إلى شيء آخر ، ذاكرة جميلة ، مرتبة حسب إمكانياتي للفهم لدي ، وربما ذلك كله كان يكمن أن أمي ما عادت تلاحقني بصوتها وتنادي علي لأنزل و لا أبقى وحيدة في وقت سكنت فيه كل الأرواح ونامت الموتة الصغرى ، بدأت من نهاية الحكايا الصغيرة التي انتهت إليها ذاكرتي ، التذكر العكسي كان يريحني في البداية .
وفي الجلسات المتقدمة كانت الأشياء والوجوه تمتزج فتصير شيئا واحدا لا أجد فارقا فيما بينها ، في الليلة الأولي كتبت وأنا أغوص طويلا في داخلي ، أصبحت روحا دون جسد .
في الأسبوع الذي سبق سفره أرسل لي " الأستاذ على " تلك الرسائل القصيرة التي احتفظت بها لعام في ذاكرة هاتفي .
- ( في المكتب آخذ كتبي تمهيدا للسفر ، لدي ثلاثة أمكنة للكتب ، مكتبي ، غرفتي في الخوض ، مكتبتي في البيت ، لذا أواجه مشكلة كبيرة بالأمكنة ، انظر للكتب ستكون يتيمة حبيسة الرفوف والعلب الكرتونية .)
- (سأذهب تاركا أشياء كثيرة خلفي ، هذه الفترة أمر بمرحلة انتقالية في حياتي ، بنيت بيتا جديدا لعائلتي وقبل أيام انتقلنا إليه تاركين بيتنا القديم الذي عشت فيه وشهدت توسعاته بين فترة وأخرى ، لذا أصبحت مشتتا بين القديم والحديث بل إن والدي لا يستطيع أن يعيش معنا ، يُصر أن يبقى في بيته الذي يحتفظ فيه بآثار بعض الحجارة التي حملها بيديه وبنى فيه أساسه .)
-( أما قصة البيت الجديد فلم تنتهي بعد ولا يزال يتطلب المزيد من الاحتياجات التي لم أستطيع توفيرها من الناحية المادية وكذلك الوقت الذي لم يسعفني حتى لغرس بضعة شجيرات وأراقب نموها . )
- ( ارتباطي بالمكتب حكاية هو الآخر ، كتب وأبحاث الطلاب وامتحاناتهم والهدايا التذكارية حيث كنت مشرفا على الأنشطة الطلابية وقصاصات من الكلمات وأبيات الشعر على لوحة الإعلانات تحمل ذكريات عدد من السنوات ، سأذهب لأنقض شيئا من غبار الماضي . )
كل ذلك البحث المستمر عن كل شيء و الذي لازم رسائل " الأستاذ علي " تلك ذكرتني ب" تجفة بنت حسن " بشكل مباغت ، فقبل سنوات من رحيلنا كانت تفتح فمها وتظهر أسنانها المتآكلة أمام أمي وتشير إلى أحد أسنانها الأمامية وتقول بجزع
- أنا شفته يطيح في الحلم .
ثم حرك رأسها وأضافت
- كنت أصرخ ، والدم ينزل من ضرسي في كل مكان .
وعندما ربت أمي على ظهرها وقالت
- لا تخافي ، وقولي خير اللهم اجعله خير.
ردت عليها " تجفة" بنزق
- أنت ما تعرفي شيء في الأحلام ، نشوفي النجوم فوقك ، باكر راح يطيح واحد منها .
توجست أمي وهي تنظر إلينا ، كانت تعدنا يعيينها الخائفتين ،تصرخ في وجه "تجفة "
- فال الله ولا فالك .
بعدها تخونني الذاكرة وأنسى الوقت ، لا أتذكر إلا رائحة " حسن " العابقة في المكان ،يربكني أن أرى " دشداشته " التي أشتراها من " سعيد الطارش " ، وقربها من يد " تجفة بنت حسن " وقال
- ماه ، أريدها .
أنسي ، أكاد أن أخرج ، أسمع سعال " تجفة بنت حسن " ، رياح خفيفة شعرت بها تأتي من البيت، تذكرت كيف كان "حسن " يركض "، أجد نفسي في عجلة من أمري شعرت عندما استيقظت أن الحلم الذي راودني يحمل أشارة أو بشارة لن يعلمها إلا " تجفة بنت حسن " ، عامدة قصدت دارها في ذلك اليوم ، جلست بجانبها كانت ما تزال قادرة على تمييز الوجوه ، أخذت تمرر أصابعها على وجهي ، أخذت يدها ووضعتها في يدي ،ضغطت عليها وقبلتها، أخبرتها أنني رأيت في الحلم إحدى الإبل تجري خلفي دون توقف ، صمت طويلا ، شعرت بأنها تعود إلى ذاكرة النسيان التي بدأت تتمسك بها منذ شعرت ب " حسن " يركض لآخر مرة ، سكتت أشاحت بوجهها ، تركتها ،استقبلت الباب كنت أحتاج إلى ذاكرتها في ذلك الوقت ، من وراء ظهري سمعت صوتها الضعيف
- ذيك الدنيا ، بعدها تريدك ، أنا ما أريدها ، الدنيا ناقة تركض ورا الإنسان .
رجعت وقبلت رأسها ، دائما أحببت " تجفة بنت حسن " أحببتها منذ كانت تركض ورائي وحسن لتعيدنا إلى بيتها ، ، أتذكر وجهها الباسم ، حتى بعد أن أصبحت قامة " حسن" تطول ، قالي حسن :-
- تذكرين سعيد الطارش ..... أشتاق له وايد .
أغوص مع " حسن وأتذكر ، "الطارش " ، الرجل الذي اشترت لي منه " تجفة " مشطي الخاص بي بعد أن كانت أمي تستخدم مشطا واحدا لكل من في البيت ، تحسسته بأصابعها الطويلة وقالت
- المشط لك يا سامية .
أما "حسن " فكان وصول " سعيد الطارش " موسم عيد يشتري منه كل ما يريد من الملابس .تقف لدي الذاكرة ، أتذكر " سعيد الطارش " وهو ينظر إلى " حسن " ويخبر أمي القريبة منه
- قلبي يقول ها الصبي ما من أولاد الدنيا .
تحرك أمي فمها بكلام كثيرة وتختمه
- الله يخليه لجدته .
(3)
الآن
وفي أشهر الله الباردة أقرأ رسائل " الأستاذ علي " القصيرة ، أصدقه عندما يقسم بأن البعد عن الوطن يشكل ذاكرة أخرى لها رائحة تربة جديدة ، وأنه يحز في النفس خطا عميقا حتى ولو كان بداعي إكمال دراسة ، أقرأ ما كتبه قبل أسبوع سفره
-( ذاكرتي مزحومة كأدراج مكتبي ،طبيعتي السيئة جعلتني أحتفظ بكل شيء أعجبني يوما بما فيها الأوراق لذا لا زلت أحتفظ بأوراق المحاضرات منذ كنت في البكالوريوس فضلا عن الماجستير وكل ما له علاقة بالعمل . )
-( ارتباطي بالمكان ليس عضويا فحسب وإنما هو ارتباط روحي يختلط فيه الفرح بالحزن وأشياء أخرى لا يمكن تفسيرها . )
- (شدني اليوم في لوحة الإعلانات خلف مكتبي لوحة لبدوي عربي في الصحراء مع جهاز حاسوب محمول صورة تعبر عن الحياة الصحراء لا تحول دون الأخذ بأسباب التقدم الحضاري ، ولكن الأكثر إثارة في الموضوع هو من رسم الصورة فقد كان المرحوم ابن أخي الذي توفي منذ فترة قريبة ، كان رساما هاويا أتذكر أني قد طلبت منه إعادة رسمها لي منذ سنوات بعد أن ووجدتها في إحدى المقالات لمجلة العربي التي أحبها وأحرص على شرائها عند صدور أي العدد منذ عام 1989يومها كنت في المرحلة الثانوية ، تأملت الصورة رجوت لأبن أخي الرحمة . )
- ( شيء آخر شدني كنت أعلم أنه موجود في درج مكتبي الأخير ، جهة اليسار ولكني تعمدت تجاهله حيث فيه أحدى النشرات، وبتلك النشرة صورة من كانت حبيبتي ، في يومها كانت رغبة خفية جعلتني أحرص على الاحتفاظ بها رغم انقطاع العلاقة بيننا ربما وفاء وربما شوقا وحنينا ، وربما ذكرى مؤلمة لا أدري بالضبط ، أخذت النشرة دون أن أفتحها مع جملة أشياء أخرى وضعتها في غلبة كرتونية كبيرة وحملتها إلى صندوق السيارة ، شعرت أني أحمل سنوات ثقيلة من الشتات ، ذلك الانقسام الذي شعرت به في غيابها كانت يشبه التشظي حيث لا تعود الأشياء إلى كانت إليه سابقا ، ترى لماذا نخاف إظهار من نحب عل الملأ ؟ )
- ( قالت لي مرة في رسالة نصية "جميل أن أراك من زوايا مختلفة " أستاذ ، عاشق ،كاتب ، أب ، زوج ، في الأجمل أنت تحبني " .)
أثقب ذاكرتي من منتصف نسيانها ، وأتذكر كل ذلك ، كنت أتذكر لأنسي ،أنسى لأبنى ذاكرة جديدة ، وأزرع لي نجما بين النجوم كما كان " حسن " يحلم في كل ليلة ، أغير من جلستي و وأحد بصري جهة الظلام الذي بدأ يتسلل مختفيا بين الشجيرات في حديقة دارنا ، الظلام في هذا الليل كان عظيما ، شعرت يه يتخلل الزوايا الضعيفة في نفسي ،يطغى على ظلال النخيل البعيدة لمزرعة " تجفة بنت حسن " ، ويخفي طيفا كان قريبا مني ، لا ريب أن "الأستاذ علي " كان ممتلئا بالغربة وهو يعتلي سلم الطائرة ومن ثم يلتفت إلى الفضاء الواسع أمامه ويرى صورة الوطن ويزفر هواء ثقيلا من رئتيه ويكتب لي نصا يشبه تلك الرسائل القصيرة التي أرادها أن تكون جسرا للتواصل المكتوب بيننا
- ( سبق وجربت الغربتين ، غربة الروح عن الجسد ، وغربة الجسد عن الوطن ، وانتظر ماذا بعد ؟)
في جلستي تلك لم أشعر بالشوق إلا إلى البحر الذي أصبح بعيدا بعد انتقالنا عنه ، كنت أود أن أفتح له صدري وأن أختزنه في أعضائي الداخلية ، فأشعر بالملح يشمعني من الداخل ، يغذيني بالطهارة التي تكلم عنها أهل البخر دائما ، يغسل كل ما راكمته تلك السنوات التي أصبحت جدباء الآن
- البحر طاهر ، وذاك الطهر يوصل حتى إلى العروق .
أشعر للحظة أن البحر اله ، اله في مده ، اله في جزره ، وبين الإلهين اتفاق مسبق على وجود قلب كبير ينبض بالحب لكل تلك السواعد والسيقان السمر التي شمرت عن الأيادي النعاس ورفعت صوتها قائلة
- يا الله ، يا بحر .
البحر ينسيني كل الرجال الذين عرفتهم في حياتي ولا يبقى إلا صورة جدي ، الرجل الذي حرك بساعديه مركب البوم إلى وسط القرية وابتسم بملأ وجهه لهم ، قال " عمي " أن أهل البحر اطمئنوا و شعروا أن لهم كبيرا ، يستطيع أن يسبح بطول البحر وعرضه دون أن يشعر بالخوف ، كانوا قد نسوا كل ما اختزنته ذاكرتهم عن غضب البحر وغدره ، شاهدوه رجل منهم يسبح فيه ، بل ويتمادى في ترويضه بأن ينكس رأسه إلى أعماق الأمواج ويرفع ساقيه النحيلتين إلى الفراغ الذي يفصل بين البحر والسماء ، عندها عرف أهل البحر أن البحر كإحدى دوابهم يمكنهم أن يسيروه كيف شاء وفي أي وقت أرادوا .
في نهاية الفصل الدراسي وقبل أن ينهي " الأستاذ علي " محاضراته طلب منا أن نكتب له عن أي شخصية خيالية تمس التاريخ الخرافي للولايات والمناطق التي جئنا منها ، كان يهوى أن تعرف على شخصياتنا من خلال ما نفكر به ، نظر في ختام المحاضرة وقال
- الشخصيات الخرافية جزء من حياة كل واحد فيكم .
ثم أضاف
- إذا يريد أي شخص يكتشف عن نفسه ، يكتب عن أي شخصية معكم في الولايات .
.وكنت في أوج تصميمي لا أنسي كل ذاكرة عتيقة ترتبط بالماضي ،كانت نفسي معطوبة وأحتاج أن أرممها الآن ، كانت كل تجفة بنت حسن ، وحسن وأمي وحتى أنا نفسي ،في لحظة ما من تفكيري أقرب إلى شخصيات الخيال التي بت أنسى أبعادها الحقيقية ، صممت أن لا أقدم له أي شيء ، إلا أن استدعاني ذات يوم إلى مكتبه وسألني بتصميم
- تقريرك ما وصل ؟!.
كنت أكثر من صريحة عند " الأستاذ علي " أخبرته بشكل واضح أن علاقتنا بكل من في القرية قد انتهت منذ أن قررنا الاستقرار هنا ،و أنني أمي لا نريد أن نعود إلى تلك المواطن لنذكر كل من افتقدناهم ، ليس لي قرية أو اعتقاد سمعته سابقا ، يمكنه أن يسألني عن اليوم ، عن الذاكرة الطازجة التي أسعى إليها .
في بداية كل اللقاءات يسألني فيها عن تجفة بنت حسن " ، أخبره لأقطع ذاكرة الاسترسال عنه لأحداث الرحلة القديمة التي قام إلى تجفة بنت حسن لتقوم تجبير كسر في يده
- أمي تجفة ماتت من ست سنوات .
يهز رأسه متأسفا وترحم عليها
- هذي الحرمة تدخل قلوب الناس بسرعة .
جلس خلف مكتبه ، فيما كنت واقفة ، تنفس بعمق وصوت مسموع ، تأملت المكان ، الكتب والأوراق التي تملأ ، المكتبة التي كانت خلفه ، التاريخ الذي كان مخزنا في فيها ، العالم كله من بداية الخليقة إلى اليوم الذي كان فيه الأستاذ ينكس رأسه عبارة عن ورق و حبر ، إذا مزق وألقي من مكان مرتفع ستموت ذاكرة العالم سنعود لنسطر تاريخا جديدا دون ألم ، نبهني صوته ،
- تشبهك .
درت انفعالي وأعدت
-أستاذ ، أمي تجفة ماتت من زمان .
من درج مكتبه الأيسر أخرجه نشرة قديمة قدمها لي مفتوحة على الصفحة بعينها ،
- هذه المرأة تشبهك .
تأملت الصورة ، الابتسامة الكبيرة ،ـ النظرة نحو البعيد ، الجبين الأبيض هو أكثر التصاقا بوجهي ، حدقت فيها أكثر ، صوته نبهني كنت قد جلست مقابلة له كان فنجان القهوة نصف ممتلئ على الطاولة ، بقيا قصصات الورق المسطرة باللون الأحمر ، كلمات وملاحظات كثيرة مكتوبة بخط يديه الرشيق . سمعت صوته يخرج مجروحا
- رحلت ، ما موجودة .
في سفره أرسل للأستاذ "علي " ايميلي الوحيد
" مرة أشارت " تجفة بنت حسن " إلى رأسها وقالت ، للنسوة الحاضرات في بيتنا الكبير
- لو ما ها الراس ، وما كان تعب إنسان . لو كل وجه وصورة لحرمة أو رجل يدخل فيه يموت وما يرجع أبدا كان كل ولد آدم بخير .
كان السر فيه يومه الذي يتحدث عنه هو الحزن الذي ستوطن النفوس ، الشعور الذي لم أجربه أو أنقله إلى "حسن " لأني شعرت أنه وجهه الباسم لا يعرفه أو أن جدته " تجفة " لن تسمح له بأن يجربه .تكاثرت الهمسات ولكن جدتي " تجفة " أكملت
- أنا أشوف الغم مثل " حمارة القايلة " تدوس الصغار وتاكلهم وما تبقي غير صياحهم ودموعهم . شيء يحفر فينا من داخل ولو نسنا يبقى مثل النخر في قلوبنا .
ردت عليها إحدى الجالسات
- غصة القلب ما تحتاج تكون مثل " حمارة القايلة" وبس ، غصة القلب ممكن تقتل حتى الشباب . وتخلي الإنسان تغير يصير غير الإنسان اللي كان قبل . الموت أكبر غصة في القلب .
- يعنى الغم يكون حمارة القايلة ، وأم المجز اللي تذبح الشباب بعد . تعذب أهلهم بموتهم
ابتسمت " عويش" التي وجدت نفسها في جو لا يشبهها
- يا جماعة ، الله بعد خلق في الراس شيء يخلينا ننسى ، مات اللي مات وراح اللي راح والدنيا ما ننتظر أحد ما صح يا أمي " تجفة " ؟
لم ترد عليها جدتي " تجفة " في وقتها ، نظرت " عويش " إلى أمي مستنجدة بها فتحدث أمي كاسرة الوجوم الذي خيم على المجلس
- اذكروا الله ،وطلبن الرحمة لموتانا وخلينا نسمع سوالف تريح القلب .استعذن بالله حمارة القايلة وأم المجز وغيرهن .
في حينها ترك النسوة ، وجدت حسن يجلس في على غصن شجرة ينظر إلى السماء ويبحث عن النجوم التي اختفت في نور الشمس .
مازلت مبهورة في عامي الجامعي الأول بذلك التصنيف الذي وضعه " بلوم " للذاكرة ، القواعد الست التي تصل من خلالها بالحدث إلى أعلى مستويات حفظ ما يمر بها الإنسان . فنحن نتذكر ومن نفهم ونطبق ونحلل وبركب ويقوم تصور أنك تحرق الأشياء قبل أن تصل إلى عقلك ،لا تدخلها في ذاكرة التذكر، عندها لن تحتاج إلى تركب الأحداث لا يتعبك أي شيء ، تعود صفحة خالية من أي دنس للأيام ، جدتي " تجفة " كانت تريد ذلك ، أمي الآن تريد ذلك ،أما أنا فأمارس ذلك بشكل متواصل ، سأحتاج أن أقوم بكنس ذاكرتي لكل لحظة لأبقى حية ، وقادرة على مواجهة الأيام القادمة.
ملاحظة /لا أريد أن أرى مزيدا من الصور ، كل الذين أحبهم أحتفظ بصورهم حسب ذاكرتي أن ، أشكل وجوههم وابتساماتهم
في هذه الليلة تنام أمي باكرا ،أتمدد بقربها ، كانت تئن ، تتكلم في نومها ، وتتقلب في كل اتجاه ، أفتح هاتفي أقرأ آخر الرسائل التي بعثها " الأستاذ علي " إلي قبل أن يسافر، أشم فيها نفس الرائحة التي كنت أحسها وأنا أتذكر "حسن " أنها رائحة تشبه رائحة عناق المطر للأرض بعد انقطاع طويل ،في لحظتها أشتاق تلك الوجوه كلها ،فالغائبون يكون حضورهم أقوى وأكثر وقعا من الحاضرين أحيانا .
-( متعب هذا الوداع ، أشعر بأني أودعها لأول مرة من عساني أودع قلوبا عرفتها أو أمكنة ألفتها أو طرقا سلكتها ذهابا وإيابا فالاستقرار المكاني كان هاجسي وأمنية من أمنياتي حيث أن جزءا كبيرا من حياتي عشته متنقلا .)
-( حتى بعض الوجوه التي اعتدت عليها هي الأخرى ، ماذا عساني سأحمل معي من سنين قد رحلت ؟ حتى كوب القهوة التي اعتدت تحضيرها مع كل صباح وعند الظهيرة لها ذكريات لا تنسى . )
- (وجدت في مكتبي أيضا قمصانا بيضاء عليها شعار جماعة الآداب التي كنت مشرفا عليها ، أخذت أحدى لأني فكرت بارتدائه في السفر كذكرى مادية أحملها معي مع كوب عليه شعار الكلية أتناول فيه الشاي . أفكر أن آخذ أعدادا من النشرة الأدبية التي كنت أنشر بها عددا من مقالاتي لأنه تجمعني بها علاقة حميمة . )
- (خالجني شعور أن ستسأل عني في اللحظات الأخيرة ستلقاني في المطر وأمام الناس ، ستمد لي يدها ، عندها سأعصرها برفق ، سأحتضنها بعدد سنوات الفراق ، سأعوض شوقي لها ،صدقيني شعرت في حضنها بحنان أمي ، فالمرأة التي تعطيك دون مقابل أو قيود تلامس خيال أمك .)
2- ذاكرة حسن
(1)
بعد سنوات عديدة كنا سنذكر تحديدا ذك اليوم الذي ركض فيه " حسن " طويلا دون توقف وبدون هدف يفهمه الحاضرون إلا ليمنعنا من رؤية الدموع الكثيرة التي ملأت عينيه ، شعرنا للحظة أنه يسابق الريح وأنه يمنح السراب كل ذلك الحزن المتراكم في قلبه والذي غالبا ما ظهر في التماعة العينين الواسعتين ، كان يمد يده إلى الأمام ،إلى الفضاء والسماء المعلقة فوق رأسه ، كنا سنتذكر يومها أيضا أمنا "تجفة بنت حسن " وحبات النوى اليابسة في كف يدها ، علنا كانت تدور بظهر منحني على النخيل القليلة المتبقية لها في الأرض اليابسة وتجمع حبات النوى ، وفي كل مرة سألها أحدنا عن الجدوى من جمع النوى اليابس والميت ، كانت توجه وجهها جهة السائل وترفع حبة النوى في اتجاهه وتقول
- أنت ما تعرف ؟ ! من ها النوى ، راح تتطلع حياة ، ما سمعت " يخرج الحي من الميت ؟!.
وفي نلك الفترة تحديدا كان النمل قد حفر ثقبا صغيرا في الجفن الأسفل من عينها اليمنى ، ارتاع " حسن " عندما رآه ،في البداية كان قد جلس بجانب سريرها المبسوط على الأرض ، اتكأ إلى الجدار القريب منها ، رفع عينيه إلى سقف الغربة وأخذ يتحدث إليها كعادته عن كل أمر طرأ على باله ، وكانت هي ترد عليه بصوت ضعيف تشعره به أنها
مصغية له ،انتظر أن تنتظم أنفاسها وتنام ككل ليلة ، ولكنه شعر أنها غيرت من وضعيتها وأصبحت أنفاسها قريبة ، قرب وجهه منها ، رآها ، كانت نملة واحدة حمراء ، تسلقت دون أن يلاحظها من حبات النوى إلى الجفن ، قتلها "حسن " بين أصابعه ، بعدها بأيام رأى ثقبا جديدا في العين الأخرى ، وعندما قرر " حسن " الحضور إلى دار أمي وأخبارها بالأمر كان الحفر الصغيرة تحت الجفنين قد اتسعت ، وفي الغرفة المتواضعة ثقل على أمي أن تعاين تلك الحفر دون تشعر بانقباض في صدرها جعل يديها ترجف وهي تشاهد وكانت " أمنا " تجفة بنت حسن " قد بدأت تشعر أن في عينيها عطب آخر غير العمى الذي أصابها مبكرا ، وفي أوقات متباعدة أخذت تشتكي من حرقة العينين والأحلام الكثيرة التي بدأت الشياطين تزورها فيها ، وتضجر من الماء الذي بدأ "حسن" يستخدمه بكثرة على ثقوب النمل .
في قرارة نفسي كنت أحس بدافع "حسن " ، - الولد الذي كبر فجأة متخطيا أترابه في الجسامة والطول- ، في الجري المتواصل كانت سمرته الحلوة وصمته الذي قد يمتد طوال اليوم أكثر ما يجعل الآخرين يظنون أنه فقد شيئا ما في ذات يوم من أيام عمره ،شيئا لم يعوضه إلا السهر الطويل الذي يقضيه في غرفة جدته " تجفة بنت حسن " ،كنا موقنين أن هنالك سرا أكبر من علاقة الجدة بحفيدها تربط حسن ب" تجفة بنت حسن " ، كانت العلاقة علاقة وجود وحياة ، كل منهما مرتبط بآخر بحبل سري قوته مرور كل تلك السنوات ، التي خرجت فيها أمنا " تجفة " بصحن في يدها تبحث عن لقمة الطعام ل" حسن " في وقت كان عوده ما يزال طريا وغضا .
فجأة انبثقت طاقة من نور وكادت ذاكرة أمي الشحيحة بالأخبار أن تحل كل الألغاز التي أردت معرفتها عن " حسن " ، أمسكت يد حسن الذي كان يحملق في وجه جدته وقالت له بتصميم غريب
- تجفة بنت حسن كانت تربيك حتى برموش عينها لا تخليها وحدها ألحين .
تحرك يد " حسن " في يد أمي وكاد أن يركض ليعطي للفراغ أمامه كل الحزن المختزن فيها ولكنها شدت عليه أكثر وقالت بغصة دمع في حلقها
- والله أنا شفتها تاخذك قطعة لحمة حمراء وطوف بك بيت حتى تلقى من يرضعك .
في حين كانت أمي تتحدث عن " تجفة بنت حسن " وكيف وقفت سابقا بباب " شيخة بنت سليمان " وقالت وهي ترفع أحد ثدييها أمامها
- يا شيخة هذا صاير يابس ، ما فيه غير جلد وعروق ميتة ، ارحمي ها اليتيم .
كان " حسن " يجري وهو يحدق إلى السماء ، أما أنا فقد كنت أعرف أن "حسن " سيكون شجرة بلا أي غصن يمده إلى الحياة أو أي جذر يربطه بأرض ثابتة إذا ما فارقت أمنا " تجفة " هذه الحياة . لا أعرف لماذا ضعفت تلك الذاكرة فجأة ، كان انطفأ غريبا ، شعرت أن الخرف يأكل الجزء الخاص ب" حسن " وأن كل ما يرتبط به أصبح في منطقة ضبابية ، وأن له ألم يشبه وخز الحسك الجاف في الحلق . حتى عندما سألني الأستاذ علي " عنه ذات يوم ، لم أستطع أنه أخبره الحقيقة ،صمت برهة أضاف هو
- الولد يشبه جدته ، أكيد هو من أحسن الشباب ألحين .
قررت سأخون ذاكرتي تدريجيا ، الأسلوب الذي أنتقل به من الأشياء المهمة إلى الأشياء الأقل أهمية هو أن أحدث شقا وجرفت في اتجاه العرض ومن بعده ينمو فيه حاجزا طريا .
لا أنكر بعد شهر من التحضيرات للزواج المرتقب في الأسرة أني أنني كنت أجزم أن ما سأفعله سيكون مسجلا لي وحدي ، إن كان هنالك من سيشاركني تلك الأشياء فستكون ذاكرتي البيضاء تماما ، عندما جلست في شرفة بيتي ووضعت رأسي بين يدي وتكورت شعرت أني لدي الحق كل الحق بأن أملك ذاكرة لم تدنس بعد تلك الوجوه والأصوات الأحداث التي عشتها في ظرف العشرين عاما الماضية ، إلى هنا وكل الأمور يجب أن توضع لها نقطة نهاية كبيرة ، استمعت إلى " علي " طويلا حتى بت أرسم ملامح العنينين الحوراوين اللتان تغزل بهما في كل مرة تحدث فيها عنها ، وسرت على الطريق الذي لعبت مع " حسن " ، نسيت برغبة ملحة مني صورته ونحن نضع ماء البحر في كفوفنا الصغيرة ثم نفتح أصابعنا ونراه يتساقط قطرات وعندما نتحسسه باللسان كان "جسن " يقلدني فيقذه البصاق من فمه فيصرخ
- مر .
وأضحك
- مالح .
وأنهيت في داخلي كل الجدل الذي أثاره حضور وغياب " تجفة بنت حسن " ،بصوتها الضعيف وهي تخرج من حجرتها وتصرخ في الناس .
- لا تخلون " حسن " يسافر ، حسن بعده صغير ، حسن بعده يتيم ، واليتيم ما يقهر . لا تخلونه يسافر .
في لحظة الذاكرة البيضاء تلك كنت سأخبر حتى " راشد " أنني سأقيل ذاكرتي من حمى الثرثرة التي كنا نمارسها معا كنوع من التذكر العكسي للأحداث التي تؤرقنا وتدفعنا إلى نذرفها كدمع في نهاية بعض الأيام التي عشناها ، ربما سأغفر له كل ذلك الإهمال الذي كان منه اتجاهي واتجاه أمي الأهم أنني سأغادر إلى النسيان ، فإذا كانت الأشياء لا تبقى إلا بالتذكر فان النسيان محو كل أثار التذكر سيحيلها إلى سراب ، سأنسي وتصبح الأشياء في الذاكرة كظل كالعدم ، في قرارة نفسي كنت قد وفيت بالنذر وشعرت بالراحة التي صرحت بها أمي وهي تضع يدها على كتفي وتنظر إلى أخي " راشد " وهو يختال فرحا بين أصحابه في ليلة زفافه ، اعتصرت بأصابعها الطويلة اللحم القليل على كتفي وقالت بدموع
- خلصت من الدنيا كلها ،راشد ألحين متزوج ، وباقي أنت .
(2)
سأحرق تلك الورقة طويلا ، ربما احتجت إلى أن أكتبها أكثر من مرة ، وأن أمزقها مرة وأعرضها لسر النار مرة أخرى ، الآن وبعد سفر" الأستاذ علي" كان حضور أيام حسن قويا ، شعرت بارتداد نحو الماضي ، كان كلام الأستاذ يبقيني في دائرة الاستماع إليه ومعرفة قصته وتجاهل ما حدث معي ، أخبرني أنها رحلت دون سبب يفهمه وذالك ما أبقى حية في داخله أما الآن " حسن " موجود تحت وسادتي ، وتجفة بنت حسن أمامي ، أراها في أكثر الأيام تعلقا في ذاكرتي ،عندما تسمع صوتي تنادي علي بحنان وهي في وسط النساء
- سامية بنتي تعالي .
تتحسس أمامها الأطباق الموضوع ، تناولني منها قرصين من الخبز بالعسل ،أشعر بها تراقبني وأنا أكلها بهدوء وأتطلع في وجه النسوة ، تمسك بيدي برفق ، وعندما أنتهي من الأكل تضع رأسي الصغير على فخذها ، تمرر أصابعها على شعري ، تهمس لي
- باكر من تكبري راح تكوني زوجه لحسن .
- وباكر من تكبرين راح تشوفين من "حسن " اللي ما شفته حرمة من رجل .
أقلت منها ، تنادي على أمي وهي تضحك
- سمعتي يا أم راشد " ترا سامية من تكبر أريدها تكون حال ولدي حسن .
تضحك النسوة من خلفها ، أسمع صوت " عويش "
- تجهيز العروس وحناها على " عويش " وهذا نذر علي .
أفلت من جلسة النساء ، أخبئ نفسي في البيت بعيدا عن "حسن " ، أتصور أن "حسن " يمكن أن يأخذني من بيتنا دون أعلم خاصة وأن أمي رفعت رأسها موافقة على كلام " جدتي تجفة " وقالت
- ما راح ألقى أحسن من ولد بنتك لسامية .
عندما عدت من الجامعة مررت بالسوق ، كانت نفسي منشرحة فاشتريت ، كل ما كانت أمي تريده من الخبز والبيض والخضار ، وقبل أن أفتح الباب كنت ألوم نفسي وأشعر أني أعاتبها بنظراتي عن ما حدث ، قررت أن أسامحها ، أن آخذ بيدها كي لا تخاف وتشك وأن تعود كما كانت ، دخلت كان الهدوء مطبقا على البيت ، قدرت أنها نائمة ، سرت بهدوء إلى غرفة النوم ، كان السرير مرتبا كما تركته في الصباح ، عرجت إلى المطبخ ووضعت الأغراض ، لسنوات كنت متأكدة أن أمي لم تكن السبب ، ربما النجوم ، ربما الجدران ، ربما "حسن ذاته ، ولكن أمي كانت بعيدة ومع ذلك حملناها كلنا بعلم أو بدون علم ما حدث ذلك اليوم ، خرجت من المطبخ ،خلعت عباءتي ناديت عليها بالاسم الذي تحبه
- يا أم راشد وينك ؟ .
فتحت باب غرفتها ،ـ شممت رائحة البخور التي اعتادت ضعها في الغرفة حتى بعد أن مات أبي قبل عامين ، لم أجدها ، صعدت إلى الأعلى كان الطابق العلوي موضوعا لراشد ولأبنائه القادمون ولكن راشد تركنا ليسكن في بيت بعيد عنا ، بهدوء فتحت باب الغرفة ، كانت أمي جالسة في الظلام تبكي ، كانت الدماء تملأ وجهها والجدار المواجه لها وعندما رأتني ، أعدت ما كانت تفعله ، ضربت رأسها بالجدار ، منعتها وحضنتها بقوة ، قاومتني وصرخت
- خليني أموت ، لولاي ما كان حسن مات ، أنا السبب . أمي " تجفة " ما راح تسامحني لا دنيا ولا آخرة . أمه وهي حامل فيه وصتني به خير وأنا قتلته ، أنا ركضت وراه ، وهو تعثر وطاح على طابوق .
بكيت معها وقلت
- حسن مات موتة ربه ، ما أحد السبب لا أنا ولا أنت .
بقيت أمي تشهق في حضني وقتا طويلا ،رفضت كل شيء حتى أن تستقبل " راشد " الذي وقف على بابها غرفتها .
عندما كنت في سن العاشرة مات "حسن" ، هذا ما أذكره الآن في شرفة البيت ،لم أدرك ما هو الموت ولكني كنت أحس بالغصة التي تبقى في القلوب والتي تحدثت عنها النساء في جلستهن ، كان داخلي خاليا تماما إلا من الهواء الذي يحرك صوت أو صورة " حسن " في داخلي ، كان كما وصفته " عوبش بعد شهر من موته
- ذاك الولد ذهب ، ما شيء مثله في أولاد الحارة . يا الله يا موت كيف تاخذ "حسن " وهو بعده في عمر البدر .
و قبل أن يموت بأسبوع كانت "تجفة بنت حسن " ترد على أسئلة نحن الاثنين ، قالت قبل أن أنام في بيتها
- النجوم كبيرة ها الليلة في السما .
سألتها
- أمي تجفة كيف شفتي النجوم وأنت ما تشوفي ؟
- أنا أشوف بقلبي يا بنتي .
تمددت بيني بيني وبين حسن وقالت
- والحين ناموا والله ترا " مصبح ولد سلايم " راح ياكلكم .
سألها "حسن "
- ماه ، هو " مصبح ولد سلايم " ليش كبير؟!
- يقولون أنه يوم كانت صغير ماتت أمه وما لاقى أحد يرضعه ، وكان يرضع من الكلبة اللي كان أبوه مربنها في بيتهم .
سألتها بفضول
- ماه يعني اللي يشرب من حليب الكلاب يصير كبير وايد مثل " " مصبح ولد سلايم ".
- اللي يشرب بعد من حليب الحمير يصير كبيير وايد ومجنون .
سكت " حسن " قليلا ثم سأل بحزن
- يعني " مصبح ولد سلايم " مثلي ، أنا يتيم وهو يتيم .
لم تجب أمي " تجفة " عن السؤال ،قعد "حسن " مستويا ، سألها باهتمام
- ماه ، من تشبه أمي اللي ماتت ؟
نهضت أمي "تجفة " مكانها وأعادت "حسن " إلى نومه الأول
- نام يا ولدي الله يهديك .
أعطت أمي " تجفة " ظهرها لحسن وأبقيت أنفاسها اتجاهي ، أحسست بها تغير هيئة نومها ، إلى قامت بعد انتصاف الليلة وأخذت تحدث نفسها بهمس
- سليمة الله يرحمك ويغفرك ، ولدك كبر ، اليوم يسأل عنك ، وما أعرف ويش أقوله ؟.
بعد تلك الليلة بدأت صحتها تتدهور ، وأخذت تحتفظ بحبات النوى في يدها بعد أن كانت تجمعها في إناء في بيتها . فقدت إحساسها بالأشياء من حولها ، حتى النمل الذي ثقب عينيها ، نقلت كل إحساسها بالضعف إلى "حسن " ، قربت أمي فمها من أذن "تجفة بنت حسن " ونادت عليها
- أمي تجفة ، أمي تجفة .
ردت عليها بأنين موجع .
- أه .
أفتربت أكثر
- أمي تجفة ، أنا أم راشد ، علامك ؟
سكتت ولم ترد ، رفعت أمي رأسها ، وأمسك بيد "حسن " وقالت
- لا اله إلا الله ، أمك "تجفة " تريدك ألحين أكثر يا حسن . لا تروح عنها بعيد .
أفلت "حسن" من يد أمي وجرى دون توقف وهي تجري راؤه . ما بعد ذلك لم أراه
وصفن لي النساء ولم يسمح لي بالمشاهدة ، كانت الحلقة الكبيرة والمحكمة التي كونت حول " حسن " وأمي لم أن استطع شقها كانت الأصوات تتعالى أحد الرجال دخل مخترقا أجساد النساء وحمل الجسد الصغير ، كانت أقدام " حسن " مدلاة خلف ظهر الرجل ، والنعال الصغيرة معلقة فيها فيما جهة رأسه تقطر دما ، لا أذكر تحديدا إلا الألم الذي شعرت به ، وقفت وحيدة والناس من حولي يركضون ، لم أشعر بنفسي إلا وأنا في أحضان أمي الملوثة بالدماء الحارة .
بعد بعامين ماتت "جدتي "تجفة بنت حسن " ، أصرت أمي على أبي أن نرحل من القرية ، وعندما تجاهلها ، بدأت تبكي لفترة طويلة وتنهض من نومها وهي تهذي باسم " تجفة بنت حسن " وتضمنا إليها وتقول له
- خايفة على أولادي ، ما أريد أسكن ها الحارة . بيع ها البيت وخلينا نطلع .
قبل أن نتقل فاجأني "" مصبح ولد سلايم " عندما كنت واقفة في المكان الذي مات فيه حسن ، خفت من جسده الطويل ، تراجعت خطوتين ولكنه أمسك بحجر متثلم وكبير بين يديه
- حسن طاح على مثل ها الطابوقة . وهو من أهل الجنة ، باكر " حسن " يريد ك تكبرين وتكونين معه .
أما "عويشة " فلم تقل شيئا إنما أمسكت بي وضمنتي اليها وغالبت الدموع وقالت
- لا تنسي خالتك "عويش " ،و يوم بتعرسين ترا الحنا علي .
(3)
خطوة بعد أخرى صعدت إلى الطابق العلوي من بيتنا ، القيت نظرة على غرفة أخي "راشد " كنت قد حاولت إزالة أي أثر للدم منها ، وتركت أمي تنام بهدوء في الغرفة ، مر عام كامل منذ حاولت غسل الأشياء المؤلمة مت ذاكرتي ، بقيت على خط تماس بعيد مع الأستاذ "علي " ، يتذكرني برسالة ظل يكررها دائما
- كيف نسيت كل شيء ؟ ما يعذبني أنها لم ترسل لي رسالة تخبرني فيها لم تزوجت بابن خالها ، وهي تحبني ؟ !
في اللحظات الأخيرة ، كنت قد اقتنعت تماما أن النجوم هي ما يشكل مفترق كل الأشياء التي كانت تحوم حول ذاكرتي ، النجوم التي تغزو السماء بكثافة معلنة عن جمالها الصريح الذي لا ينتهي على مرور كل الأوقات الملتفة بالليل والعتمة ، في تلك الأيام كان يكفيني أن تدلني النجوم على موقع صورة " حسن" في ذاكرتي وهو يفترش التراب في ليالي الصيف القصيرة ومن ثم يرفع أصبعه الصغير إلى الأعلى حيث السماء البعيدة ويشير راسما خطا وهميا يشبه المسافة التي أصبحت تكبر بيننا بفعل الغربة.
عندها قال حسن كما في كل مرة
- هذا أنا وذيك الحارة .
بين النجوم كانت الحارة تبدو مشتتة بعيدة في مكانها عن مكان "حسن " ، وعندما ألح عليه وأغرس قدمي الصغيرتان في التراب البارد وأسأله
- وين نجمتي يا حسن ؟
كان يغمض عينيه ويغيب بعيدا عن السماء ، في وقتها تظهر سمرة وجهه وطول ساقيه ويشير إلى السماء
- أنت ذيك النجمة البعيدة .
في ليلتي هذه والأرق يوقظ " حسن " من سبات السنوات الفائتة شعرت بظلام الليل الذي بدا عظيما هذا المساء وهو يتخلل الزوايا الهشة في نفسي ، شعرت ب"حسن " وكيف كان ممتلئا بالغربة وهو يعتلي النخلة الطويلة ومن ثم يلتفت إلى الفضاء الواسع أمامه ويرى صور كل الذين حملهم في جيب ذاكرته البعيدة ومن ثم يزفر هواء ثقيلا من رئتيه
- تعالي يا سامية وشوفي النجوم .
بعد كل الرسائل الخفية من "حسن " كنت أشعر بالتشظي ، أعود إلى جذور الوحدة التي بدأت تسكنني بعد انتقاله وأمي " تجفة بنت حسن " إلى المقبرة الكبيرة ، كان الأمر بالنسبة له أشبه بلعبة ، يرسل دائما في اللحظات التي تتآكل فيها جوانب روحي ، ويكون بعيدا عن مدى النجوم ونورها ، . وكأنه ينقل ذاكرته بخط متوازي لذاكرتي ، فألتصق بالذاكرتين كلما احتجت إلى للحماية من التغيرات الكثيرة التي أمر بها .لم يشاطر " حسن " في حبه للنجوم إلا أمي " تجفة بنت حسن " ، في ذاكرتي رأيتها وهي تنظر للأعلى وكأنها تقرأ بين سطور الغيب ، قالت لي أنها تبحث عن نجم غائب من زمن بعيد ، وفي لحظات تنقل بصرها بين السماء وحسن وتقول له :-
- حسن مثل نجم بو ذيل ، يطلع مرة وحدة بس وبعدها يروح .
أسمع صوت أمي تنادي علي بصوتها الضعيف
- با بنتي الليل له ناس والنهار له ناس ، ما زين عليك تعالي نامي .
كانت رحلة الليل قد شارفت على النهاية و"حسن " ما يزال قابعا على أعلى مستويات ذاكرتي ، أغفو قليلا أتصور أنني تسللت إلى السرير ، ألصقت ظهري بظهر أمي ، شعرت بالأمان الأول و بأني أعود طفلة .أركض ويركض "حسن " ، يمسك بجدائلي ورائي أنزل بهدوء إلى أني أقبل جبينها ، أناولها الدواء ، تنظر إلي وتقول :
- الله يخليك يا بنتي ، وأشوف أولادك في ها البيت
أتركت أوراقي والقلم مبعثرة على طول الطاولة ،أسير خطوات .في السماء كانت هنالك نجمة صغيرة ترسل تتداخل الأصوات فلا أميزها ، صوت أمي
-- سامية ، يا سامية تعالي ، تعالي عطيني الدوا ، أحس نفسي مريضة .
صوت "حسن " يضحك بسرور ويشد علي يدي ويدعوني إلى السماء
- سامية أنت ذيك النجمة الحلوة .
أرفع قدمي على حافة الشرفة ، أشعر بالفراغ أمسك بذيل بنجمة وأطير.
______________________________________________________
_ ما بين القوسين نصوص من رسائل وصلت إلى الكاتبة
|