Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/init.inc.php on line 55

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/init.inc.php on line 56

Deprecated: Function split() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 268

Deprecated: Function split() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 271

Deprecated: Function split() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 271

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/members.php on line 227

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29
المجموعات القصصية للسلطنة الأدبية
  
 

قسم قصص متنوعة
القايمة
تاريخ الإضافة: 03/10/2009 رشح | إهداء

القايمة

في ذلك العام تحديدا  

 قالت لهم "  طماشة "  جميعا -وأحس أنها وجهت الكلام إليه - :-  

  • البيت اللي يموت راعيه يبكيه ، ويموت من بعده  ، خليك أنت من أن البيوت مصنوعة من الطابوق أو من غيره ، ترا حتى الطابوق يحن ويشتاق ، لليد اللي رصدته فوق بعضه البعض ، ويشتاق بعد للنفس اللي دخل وطلع فيه .
 

تذكر " ساعد ولد غلام " في ذهنه ذلك عندما سار في سكك سوق الظلام ، كانت المحلات الجديدة من حوله تلتمع بالمعروضات الجديدة وواجهات الزجاج الملونة ، تدعو المتسوقين بصمت ناطق إلى الدخول لتجربة الأحذية والملابس وكل ما يحتاجونه   ، كانت أقدام النساء بوجه خاصة تدق على أرض السوق  بشدة حتى تأكد لدى " ساعد " أن لا محل يخلو من وجود امرأة فيه ، في ذلك الوقت تحديدا بدا له أن السوق الذي عاشره طويلا قد أصبح غريبا عليه ،لا يعرفه و لا يمت حتى لخطواته الكثيرة التي زرعها فيه بصلة ، تمعن في جموع السائرين من حوله وهَم لأكثر من مرة بمناداة شخص باسمه إلا إنه عاد وتراجع بعد أنه داخله الشك أنه ليس الشخص الذي يحتفظ  بصورته في عقله ، كان إحساسه يتعاظم أن الأماكن التي  استوطنها تكاد أن تناساه وهو ما يزال يستند بثقل جسده على عصا غليظة ،  ولكن " طماشة "  لا تكذب ،ولا تقدم في الأشياء أو تأخر ، إنها تتحدث بالواقع وخبرة من جرب ووصل بتجربته حدود اليقين الذي لا يقبل الشك والحقيقة التي لا تقبل الجدال ، فإذا كانت "طماشة " قد قالت أن المكان الذي يُقلب الإنسان فيه أيامه و سنينه لا ينكر صاحبه بل يحتفظ به كذكرى حتى بعد أن يفارقه ،فإنها صادقة ولا يحتمل كلامها أي ادعاء ، ولكن " ساعد " في أيامه تلك كان يشعر بشيء جديد لم يألفه من قبل ،ولم يستطع أن يفسره تفسيرا يرتاح إليه ، كما لم يجد في كلمات " طماشة " ملاذا تركن إليها شتات روحه ، بينه وبين نفسه اعترف إنه يشعر بالخوف  ، بالقلق الذي بدأ يأكل داخله ، منذ مات " مصبح "   لم تعد نفسه منبسطة  ليستقبل الناس بالمناشدات المطولة حول أحوالهم وشؤونهم كما كان سابقا .

 بقيت نفسه حائرة ، بعد ذلك اليوم ، كتم الأشياء في دخيلته ، لم يصرح عنها ل"حميد " رغم أحاديثهم المطولة معا ، أصبح يسمع حديثه حول تغير "دلال " عليه  بأذن غير واعية تماما للجرح الذي يشعر به ، ، ولم يخبر"  خميس "  الذي كان وجه يلاصق وجهه أغلب ساعات يومه ،فكر بعمق ربما أخبر "طماشة " ذات يوم ليستريح ويعود إليه شيء من أمنه الداخلي . 

عاد للسؤال الذي كرره في داخله مرارا ، لقد شهد من الموت الكثير ورأى بنفسه كيف أمكنه أن يوسد أمه ومن ثم زوجته التراب ، وكيف أن بكاء "طماشة " نفسه أقلقه عليها بعد أن دفنت أبنها الثالث ودفعه أن يطرق باب بيتها صباحا ليجلس في موجهتها وهي وخميس ويسري عنهما ،بل واستطاع أن يقول لهما ما معناه 

  • هذا نصيبه من الدنيا ، وهذي حكمة الله .
 

ومع مرور الأيام  ردا له الموقف حين ماتت زوجته ، حين قامت "طماشة " بمهنتها التي تتقنها جيدا ، واهتمت بالنساء المعزيات ، فيما وقام " خميس " على الرجال ، وسهرا معه في أيامها حتى وقت متأخر ، وحاولت طماشة  إضحاكه  قائلة : 

  • ويش تقول يا ساعد ، أدورك حرمة ؟ ، ترا الرجل ما زين يبات بلا حرمة في بيته .
 

حاول الابتسام :-

- انقضى العمر ، باقي ندور لنا أيام نعيشها ، يا الله بحسن الخاتمة .  

في تلك الأيام كان يمتلك روحا متينة ، تقاوم الموت والفقد الذي جربه حين ابتعد أولاده عنه وسكنوا أماكن متفرقة عنه ولم يعد يراهم إلا في المناسبات الشحيحة ، اشتهاؤه للحياة في وقتها كان ما زال ينمو مع كل صباح ، ويضمه معه عندما ينام ،كان يملك زمام تحريك الأشياء من حوله  لبعث الأمل من وجوه الناس ورائحة الأماكن التي اعتاد على ارتيادها ، استطاع أن يكسر وحدته التي فرضها الزمان عليه بارتياد دكانه العتيق ، والجلوس مساء في بيت "خميس يوما ، وعند " حميد " في أيام أخرى . الآن وبعد أن مات "مصبح" لم يعد يملك إلا يدا خالية من الدنيا ، وكأنه نفض غبار الدنيا العالق في أطراف أصابعه كليا ، شعر بخوف لم يجربه  سابقا ، وعندما وسد " مصبح " التراب ، شعر دون إدراك منه أن جزء منه قد دفن في القبر ، هل أخذ " مصبح شيئا من كل ترب من أترابه ؟ هل يفقد الإنسان شيئا من روحه مع كل شخص يموت في مثل عمره ؟ ، حتى عندما قرب إليه " حميد بو تيلة " صحن الأرز وقال له :-  

  • كل يا ساعد من وحشة " مصبح " ، كل وادعي له الله يخفف عنه في قبره .

لم تطاوعه يده على الأكل وبقي الدعاء غصة في صدره وتضاعف لديه شعور أن شيئا مات منه .

وعندما قدم إليه الماء والسدر بعد مرور ثلاثة أيام من العزاء وطلب منه ومن جميع أتراب " مصبح" - بحكم العادة - أن تغتسلوا قبل غيرهم  من القائمين على العزاء شعر " ساعد " أن تلك العادة مقيتة  وليس لها إلا هدف واحد ،هو إشعار الإنسان أن الموت يتغلغل في داخله، ورفض بإصرار أن يقرأ نية الاغتسال بعلانية كما فعل البقية إنما ضم شفتيه  بإحكام فيما سمع الآخرون يقولون  

  • نويت الطهارة عن روح مصبح بن حمامة .
 

يومئذ فكر مصبح أن يعود إلى بيته ودكانه ويتلمس الجدران ويحدثها ويسألها - ليعرف مدى صدق " طماشة " من مبالغتها -  

  • كيف يا الجدار بتذكرني من أغيب الغيبة الطويلة ؟ !
 

.................................................... 

سال العرق منحدرا من ساعدي "طماشة بنت عبيد " الأسمرين العاريين إلى أن وصل إلى مشط  يدها ، ومن على جبينها جففت العرق بإصبع السبابة الذي سحبته به ، اقتربت من النار وبعود الحطب في يدها حركت الحطب الموضوع تحت القدر وخفت من اشتعاله تحتها ، أمام ناظريها كان الخشب الأسمر ذو الرائحة العطنة يتلظى بالنار ـ، فكرت " طماشة " أن الحطب يعشق ذلك التلظي ، الذي يحوله إلى مادة أخرى حمراء ومحرقة ومن ثم يحوله إلى رماد يتناثر في كل اتجاه ،دون أن يستطيع أحد جمعه ليعيده إلى حطب من جديد ، حدثت " طماشة " نفسها وهي تقلب الرماد  

  • صدق من قال ، النار ما تولد إلا الرماد ، بس الرماد .
 

بالنسبية ل "طماشة"  كانت هذه الأيام  مثل بذر الحمير لا أكثر ، عقيمة ، لا تنبت إلى السراب في أي تربة تزرع فيها ،و لا ينمو فيها ولا يكبر إلا  المشاحنات بينها وبين زوجها "خميس " ،ولا يكثر فيها إلا التذمر من الحياة وكل ما جادت به طوال تلك السنوات ، وكأنها و" خميس " وكل من تعرفهم من حولها وجدوا أنفسهم  دون زاد  يقويهم على متابعة ما بقي لهم من صمت الليالي القادمة ، نظرت " طماشة " إلى العروق في يدها النافرة ، لاحظت أنها أصبحت أكثر بروزا من ذي قبل ، كانت مؤمنة أن تلك العروق التي كانت تغذي جسدها بالحياة فيما مضى ، أصبحت تطل برأسها من جميع أعضائها لتأخذ الحياة معها دون أن تعود . فكرت طماشة للحظة  وحدثت نفسها

  • هذي العروق مثل ذاك الحطب ، في الأخير كل شي يصير رماد .
 

كسرت "طماشة "  كل أفكارها السابقة وعادت إلى قطعة الجريد في يدها ، حركت "الدبس " الذي بدأ يغلي ومن ثم أضافت إليه حبات الفلفل الأسود و الهال ، من ثم تركته وانتحت بعيدا ، اطرق رأسها وعندما رفعته كانت عينا " صفية بنت حمود " تراقبها  اقتربت منها وقالت بابتسامة ودود

  • تعبت يا طماشة ؟ هذه "لقمة العذاب " تريد صاحبها حالها وبس .
 

رفعت طماشة رأسها إليها وهي تجرع من كأس ماء في يدها  

- تعرفي يا أم حمد ، لقمة العذاب مثل الحرمة ، تحب اللي يدلعها ، ويقرب منها حتى ولو احترق بنارها .  

بابتسامة كبيرة ردت عليها " صفية بنت حمود "  

  • في الحكي ما أحد يقدر عليك يا " طماشة " ، بس أنا أقولك لك يا طماشة إذا الحر يضايقك بخلي الشغالة تساعدك .
 

وقفت " طماشة " بكامل جسدها القصير الممتلئ وقالت

 

  • تراني بزعل منك يا أم حمد ، اسألي لقمة العذاب في قدرها ،بتقولك  تراها ما تستحلي غير يد أهلها إلا تعرفهم ويعرفونها زين .
  • برايك يا طماشة ما حد رايح يقولك لا .
 

      غادرت " صفية بنت حمود " مطبخ دارها العتيق بتمهل ، بينما تكدر وجه " طماشة بنت عبيد " بعدما أحست رجفة في يدها اليمنى ، قربت يدها من وجهها ، وشدت عليها باليد الأخرى .  

      منذ عرفت " طماشة " صفية بيت بنت حمود " هما ما تزال صغيرتان كان شعورها اتجاه تلك الفتاة ذات الجدائل الناعمة محايدا لم تحبها ولم تكرهها ولكنها حسدتها في أكثر من موضع ، كانت "صفية " في نظر" طماشة" تملك أشياء أكثر مما ينبغي  لها ،وأنها من نوعية النساء التي لا يزورها الحزن كما يحدث للناس ،في أيام شبابها الأول كانت " طماشة " تسأل أمها  كلما خرجتا من بيت " حمود بن طالب "  

  • حظ " صفية" أنها ما عندها شيء يزعلها ، كل شيء عندها ، حلوة وعندها ، الفلوس والأهل والملابس ،خاطري في يوم من الأيام أشوفها تبكي .

تأملتها أمها طويلا ردت عليها .  

  • ما شي إنسان ما يزعل في هذي الدنيا ، بعدك ما عرفتيها ، هذي الدنيا تبكي الصغير والكبير ، والرجل والحرمة ، والناس مستورة بثيابها .
 

  لم يزول ذلك الشعور إلا عندما عجنتهما الأحداث معا وتبين أن ما تملكه " صفية" لم تختزنه لنفسها وإنما كانت دائما تمد يدها إلى الناس وشاركت " طماشة " بشكل خاصة في بذلك وأوكلتها بتوزيع عيدية العيد لكل محتاج تعرفه ، وعاتب نفسها على أمنيتها السابقة عندما رأت " صفية" تبكي وهي تسمع الرجال الذين خرجوا  للبحث عن أختها "ثريا " يقولون لوالدها  

  • دورنا في كل بقعة من البر وحدود البحر وما  لقيناها .
 

.................................................... 

تحدى " خميس الأصم " نفسه و"طماشة بنت عبيد " ووقف على الرصيف الطريق ، نظر في جميع الاتجاهات الأخرى ، قطع الشارع المغطى بالإسفلت ، سارت خطوتين ومن ثم جلس مستريحا تحت شجرة السدر الوحيدة هناك .قراره الذي احتفظ به دون نسيان كبير،أنه سيكسب المال لبيته ، سيعود الأمر كما كان سابقا ، هو من يتكلم وهي من تسمع ،الآن هو من سيفعل وهي من سيطيع ، سيضع النقود في يدها ويعدها قطعة ، قطعة ويقول لها بصوت صارم :-  

  • أنا بعدني ما مت ، خذي هذي الفلوس ، ولا طلعي من بيتك ، تشوفيني ؟! بعدني حي أقدر أكفيك عن كل إنسان .
 

في هذا العام لاحظ وتغاضى أن يد  "طماشة " لم تعقد تساعدها على العمل الكثير . كانت تخفيها تحت ثوبها كلما ارتجفت .  

في الصباح كان قد تشاجر مع زوجته ، في وقتها كانت قد أنهت أعمالها في المطبخ وقربت إليه إفطاره ، خرج إليها وقد لبس " دشداشته " وحمل الخيزران والمصر في يده ، قطبت جبينها وسألته

  • هاه خميس ، على وين ؟
 

لم يلتفت إليها ، جلس إلى صينية الفطور أمامه ، أخذ بين يديه قطعة خبز وقربها من فمه ، اقتربت منه أكثر ورفعت نبرة صوتها

  • خميس ، لابس دشداشتك ، وما خذ الخيزران ، وين ساير من صباح الله خير ؟

صمت ، أرجع قطعة الخبز إلى مكانها وأدار وجهه ،قائلا

  • رايح أشوف رزقي وحالي ومالي .

من بين يديه سحبت المصر والخيزران ، ورفضت أن تعطيه إياهما ، رأى " خميس وجهها قد تقلب

  • أنت وحدك حالتك حالة ، وتريد تطلع ، أكيد تريد تذبحني وتذبح نفسك .

في سيارة الأجرة تأكد " خميس " أن صاحب السيارة سأله للمرة الثانية على التوالي :-  

  • على وين دربك يا الوالد ؟

سكت خميس وهو ينظر إلى الطريق

  • السوق يا ولدي رايحين نقلط رزقنا .
 

قرب " خميس " رأسه من مقعد السائق أكثر ليسمع أي كلمة تصدر منه ، قدر أنه سيسأله بأي مكان سينزل عندما يصل السوق ، عندها كان " خميس " يحضر للإجابة

  • نزلني بأي مكان في السوق وأنا راح أعرف طريقي ، أنا ولد السوق وأعرف سككه ودروبه وأهله وناسه .
 

لا يعرف " خميس الأصم " كيف خذلته وده الدائم لزوجته ورفع عصاه عليها بينما ظلت عينها الصحيحة وحدها تدور غير مصدقة في محجرها ، أنزل يده المرفوعة وقال :-

  • اللهم أخزيك يا شيطان .

عندما عاد إلي "طماشة " إدراك حواسها المشلولة من المفاجأة ، ردت عليه كان صوتها عاليا لدرجة شعر أن أذنه عادت صحيحة  

- ما فيك مذهب ولا تعرف الأصول وأنا أشتغل عليك مع اللي يسوى وما يسوى ، و أنت

لم سيعقها الكلام في لحظتها فصمتت ودارت وجهها عنه ، ودخلت غرفتهما ، انتبه"  خميس " هو في السيارة   إلى أن أعضائه بدأت تخونه دون أن يشعر، في البداية خانته الذاكرة فأصبح ينسى أشياء كثيرة ، ومن ثم  خانه السمع فما عادت الأصوات واضحة كما كانت سابقا . ولم يكن يصدق ذلك حتى أتاها اليوم الذي نسي فيه موقع داره وظل يبحث عنه لفترة حتى رأى طماشة تفتح الدار وتدلف إليها ، عندها تعلم أن يختبر نفسه بإعادة تذكر أشياؤه وأسماء الناس الذين يعرفهم . 

قدر خوفها غليه ، ولكنه أحس أن ذاته يصيبها التآكل وهو ما يزال على حيا ، صفحة رأسه بيضاء وكأن الستين عاما التي عاشها مرت عليها رياح عاتية واقتلعت كل ما عايشه وتركت ذاكرته أرضا جرداء ، كانت الأشياء الأكثر ضمورا في ذاكرته أسماء الناس ، هاله أن يجد نفسه ينسى لساعات اسم المرأة التي نامت بجانبه ما يزيد عن الأربعين عاما ، أخذ ينظر إليها ببلاهة . نتف الذاكرة التي بقيت له تسعفه أحيانا في تذكر أمور جذرية تخصه ثم تعود العتمة إليها . فتخرج دون ترابط بينها .

في بداية حياتهما أخذها صغيرة من بيت أبيها ، كان إحساسه في تلك الفترة أنهما ينموان كشجرتين من ماء الأيام التي انسابت بينهما بيسر ، كان وجهها دائما وجه السعد بالنسبة إليه ، أصبح الخضار الفاكهة والخضار القليلة التي يبيعها بجانب دكان " ساعد ولد غلوم "  مصدر رزق مبارك سترهما من ذل الحاجة التي كثيرا ما كان " خميس " يخاف منها ،مما دفعه للوقوف في وجه أمها قائلا  

  • عمتي صبيحة ، طماشة ماراح تشتغل قايمة ولا غيرها قي بيت أي إنسان ، أنا زوجها واللي راح أكله راح تاكله ، واللي راح أشربه راح تشربه حتى لو ناكل التراب ونشرب من البحر .
 

عرف مع الأيام أن معدن " طماشة" أصيل ولا تطغى عليه الظروف ، حتى بعد أن أخبرت المعلمة التي كشفت عليها في شبابها وقالت لها  

  • دم زوجك فاسد ، ما شي حل ، غير إنه كل واحد فيكم يروح لحال سبيله حتى يكون لك أولاد .

ردت عليها طماشة بدموع كثيرة

  • أنا " خميس" عندي عن ألف ولد وبنت ، كافني عن الغريب والقريب ، وقدمني حتى عن نفسه ، الله الرازق وأنا موكلة أمري من سنين حاله .
 

في منتصف الطريق الذي سلكه " تذكر " خميس أن يداه خاليات إلا من العصا في يده ، تذكر أن عليه العودة إلى السوق الخارجي ليشتري الخضار بالجملة ليبيعها بسوق الظلام مفرقة ، عاد دون هدى في الطرق ، كان مطرق الرأس ،  وحك رأسه في محاولة لتذكر أي اتجاه يسير ، سمع أصوات كثيرة ومتداخلة تصرخ في وجه قبل أن يعبر الطريق .  

.................................................... 

في بداية العام ، تشتت كل الهواجس التي كانت في نفس " حميد بو تيلة " ، استطاع أن أخيرا يحلم "بدلال" كيف ما شاء ، سيدخل بيتها في كل وقت وسيجرب أن يكون سيدا للبيت بعد كل ذلك العمر الذي قضاه مستبعدا فكرة الزواج إلا من البحر ، سيغلق السؤال الذي ظل يتكرر من كل الألسنة ،

  • متى ، حميد ، متى تنوي .ترا السالفة طولت ؟

ويرد عليهم متلعثما

- قريب، إن شا الله قريب .

كان قد بت في الأمر حتى قبل أن يدخل بيت " خميس " ويسأل عن " طماشة " التي وجدها الأقرب بين نساء القرية التي يمكنها أن تخطب له دلال ، نظرت إليه " طماشة" بارتياب كبير وقالت له

  • أنا ما أقدر أرد لك طلب يا "حميد" ، بس ما كأن تأخرت وايد . لا تكون السالفة ، وحدة من سوالفك الكثيرة ، قول بلا فعل .

ابتسم "حميد " بارتباك وقال :-

  • أنا أعرف مقامي ومنزلتي عند دلال ، لو بطلب عيونها ما راح تقصر . بسنا عاد يا طماشة، وأنا أشهد "خميس " أن ها الموضوع ما فيه مزاح .
  • بعض الناس قلوبهم سبب تعبهم بها الدنيا ، تلقى قلوبهم مثل ترفرف مثل قلوب الطير ، لو تغيب حصى في بيتها تزعل وتضايق ، ودلال من ها الناس ، حتى تكسبها قرب من قلبها . أخذ ها الحرمة  بالكلمة الطيبة وراح تكون طوع أمرك .

كانت الفكرة قد تبلوت بجمتلها في صباح اليوم الذي زار فيه " حميد " السوق وجلس إلى دكان " ساعد " وسلم على " خميس الذي " صف خضاره القليلة عند الدكان بادره ساعد قائلا

  • كيف حال أهل البحر ، والبحر أشوفهم زايرنا ها اليوم ؟
  • البحر ها الأيام صار مثل ثور مناطح ، إذا قربت منه تخاف ياكلك .
  • والسمك ؟.
  • الله يعطيك إحنا أهل البحر ما نشوفه غير في الثلاجات .
 

سكت حميد بو تيلة " عندما اقتربت امرأة من الدكان ، وطلب من "ساعد " الخيلة والسركى صالح " نظر إلى الدكان العتيق الذي أصر " ساعد أن يحفظ به ، كما أصر هو أن يحتفظ بالبحر ،حتى كادت طبقة الملح أن تطفو  داخله ، انتبه إلى أن المرأة حملت كل ما طلبت ورحلت ،غاب " حميد عنه العالم للحظة ، كان وجه دلال حاضرا ، لم يكبر كما قيل له ، كانت دلال التي تعلق بها قبل أن تتزوج ، وعندما ارتبطت بغيره عاش بأمل أن تعود إليه ، وعندما عادت إليه أرملة ، وقف دون يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من علاقتهما ، يعترف أنه أرادها لنفسه ،ولكن لم يؤمن أن هذا الاقتراب يعنى في  
أحد معانيه الزواج ، ربما لأن الناس اعتقدوا أن بيت "دلال " كانت بيتا للسهر وسماع الغناء ولا يمكن أن تتم فيه الأمور الكبيرة في عرفهم مثل الزواج ؟ ربما لأن دلال فتحت له بابها واسعا دون شرط مسبق لو كانت صدته ربما لأصبحت مثل البحر  لقاومها ثم رضخ  لكل ما تريد ؟ ربما لأنه رآها امرأة قوية تسكب رزقها دون مساعدته ، كانت تقرر ثم تخبره لم تشاوره في أمر ما ، حتى عندما فاتحته بأمر الزواج منذ عام توقع أن هذا أمرا ، فرفض في عقله تماما ،في أيامها فكر بعمق وهو يطالع البحر ، كان ل"دلال" حياة بعيدة عنه وهو له حياة بعيدة عنها ولكنهما يلتقيا عند حدود نقطة يصيبه الفزع من فقدان ذلك الالتقاء ، عندما زار السوق في ذلك اليوم كان الحمل على صدره قد كبر ، ولم يجد غير " ساعد " ليبث له همه ، نبه صوت " ساعد "

  • علامك يا حميد ، ما شفتك تسكت غير اليوم ؟

كاد أن يبكي لحظتها ، اكتشف أنه هش جدا وأن كلام ساعد كانت النقطة الفاصل لانهيار مقاومته

  • دلال يا ساعد ، دلال .
  • علامها دلال ،؟
  • الحرمة متغيرة علي ؟
  • متغيرة كيف؟
  • مثل ما قلت لك من  قبل ، ولد بنت حمود بعده يسير معها ، الصبي يسير صوب بيتها في وقت القايلة وما يخاف أحد .
  • الصبي بعده الشعر ما نبت في لحيته زين ، ويش بنشوف فيه دلال لأزيد منك .
  • أخاف يعطيها الصبي شيء ما أقدر أعطيها إياه مع الشعر الأبيض وها الجسد .

سكت لحظة ثم عاد يسأله

  • برايك يا ساعد أن حرمة مثل دلال صرفت عليها اللي ما صرفه رجل على حرمة تقدري تودرني وتشوف ولد من دور ولأولاها ، وها الصبي ويش راح يلقى فيها ، جلد على عظم ومثل هذا .

ورفع إزاره إلى منتصف ساقه .

  • والله يا ساعد جلدها ناشف مثل جلدي .

- تزوجها واشتري عمرك " يا " حميد " ، بتصير مجنون إذا كنت راح تفكر فيها دايما وفي كل لحظة . 

سكت " حميد " ، ردد الكلمة  بهدوء

- أتزوجها ؟

- تزوجها ، بسك عايش مثل غراب القيظ من نخلة لنخلة ، يوم تصير حرمتك تقدر تحكمها وتتحكم في الداخل والطالع عليها ، ويش رايك تشوف طماشة ، بخليها تكلمها ، الحرمة تعرف ماي نفس الحرمة مثلها وتقرأ أسرارها من غير ما تتكلم .  
 

.................................................... 
 

تشاغلت "دلال" قليلا عن الرد عن سؤال " طماشة" رفعت السيجارة في يدها وقالت وهي تنظر إلى إحدى البنات اللاتي تعمل معها

  • البنت في ذمتنا وصار لازم نلقالها رجل ولد حلال  يا "طماشة" . صدقيني الزواج ستر للحرمة ولو كان الرجل شينه شين زمانه وما يسوى التراب اللي يسير عليه .
 

ثم عادت إلى سؤال " طماشة " عن صحتها وقالت

  • أن بخير من الله .

كانت طماشة في ذلك اليوم قد تركت بيت " صفية بنت حمود " لتزور دلال وعندما بدأت تنظر إلى السيجارة في يد دلال ـ،

  • ما تشوفيني بنص عين يا طماشة .

ثم هزت السيجارة في يها وقالت

  • هذي أحسن من منية الناس ، تعبت كل ساعة أقول فلان بكر القدو ، وفلانة شبي النار ، هذي أحسن يا "طماشة" حبة كبريت وحدة وانتهت السالفة . 

صمتت دلال قليلا واستأذنت"  طماشة "  في قضاء حاجة لها ، وبقيت " طماشة " لوحدها ، كانت تلك المرأة طول سنين لا تعرفها ،مصدر تحذير دائم من أمها وتذكر " طماشة " أن أمهما عندما مرت بها في السوق أسرت إلى طماشة

  • هذي الحرمة فتنة وشر ، الحرمة إذا فسخت الحيا من وجهها ما بقى لها شيء تخاف عليه .
 

ولكن طماشة عادت واكتشفت في "دلال " - في الأيام التي غنت فيها هي وفرقتها إحياء لعرس حسنة بنت صفية- أن تلك المرأة تشبهها أكثر من أي امرأة أخرى تعرفها ، فعندما ولت لهما الأيام ظهرها وعادت الحاجة إلى العمل كحكة شديدة في راحة اليد ، حملت "دلال " طبلها ودارت من مناسبة إلى أخرى مع بعض الفتيات والرجال فيما عجز جسد " طماشة " أن يمنحها لامتياز الذي وجدته دلال في طول قامتها وبياض وجهها ووجدت نفسها تعمل على "قايمة " على من تضع حديثا من النساء أو من بها مرض مزمن ، أو من ألحقا المنون به مصيبة في أهله.

عندما عادت "دلال" واقتربت من طماشة

  • أبشرك يا طماشة خلاص .

ثم أشارت إلى نفسها

  • أختك بتعرس من جديد .
 

وعندما هزت طماشة رأسها باستغراب  

  • صدقي يا طماشة ، صدقي ، كيف هذي الدنيا غريبة ، بعد كل ها السنين صار براسي عقل بعرس .

بابتسامة متواضعة زادت  

  • شفت يا طماشة ، يوم تغيب شمس إنسان  صار عندي ولد كامل ومكمل ، بيني وبينك أنا بكون له مثل أم وأكثر .

سألتها طماشة بفزع

  • لا يكون حمد ؟
  • من حمد ؟ أنا ما أوصل ل " لصفية بنت حمود " وما أخلي راسي براسها .
  • وحميد ؟
  • حميد شيعت من سوالفه ،تعبت من السوالف و الحكي والضحك ،خاطري صدق برجل من لحم ودم ، أخلي راسي على صدره وأنام براحة ، من مات زوجي وأنا أدور رجل يقول بسك من ها الشغلة وبسك من ها التعب ، قعدي في البيت وأنا بكفيك عن الدهر والناس ، حميد يدور عن راحته ، حرمة يقضي معها الليل ويشكيلها اللي بقبله ، انتظرته سنة سنتين ألحين كملنا الخمس ، دست على نفسي ونزلت مقامي وطلبت منه الزواج ، وقال لي أجلي الموضوع كم شهر ، وأنا ما صغيرة يا طماشة ، ما صغيرة عمري انقضى شبابه ، صار الشعر الأبيض ياكل راسي كل يوم من جانب ، ، باكر بطيح بمرض وأريد ألقي أحد عن راسي ، حتى ولو كان رجل قد ولدي ، المهم واحد محسوب علي .الناس ها الأيام " يا بنت عبيد " صاروا عيون تتشاوف وقلوب تتلاعن.

 

  • - أبشرك  يا دلال ، خميس طرشني أخطبك حاله .

 

نهضت " دلال"  بعصبية واضحة وأعطت طماشة ظهرها  

- ردي عليه ، دلال اللي تعرفها ما صارت تعطي لحمها للكلاب تنهش فيه حتى العظام ، دلال بتزوج وراح توصلك عزيمة العرس قريب .  
 
 

.................................................... 
 
 

      أمام مرآة الدولاب في غرفة أمها وقفت " حسنة " ، شد تجسدها إلى الأعلى أخذت شهيقا عميقا وتحسست جسدها نظرت إلى انعكاس بتمعن ، مررت اليدين على ثدييها الممتلئين بالحليب ، انكمش وجهها عندما شاهدت أثر الحليب على ثوبها ،مررت يدها على بطنها ، كان منتفخا لم يعد إلى وضعه المستوي كما كان ، بكلتا يديها مررت على الردفين زفرات بشدة وأخرجت الهواء المكتوم في صدرها ، سمعت بكاء الطفل نادت  

  • خالتي طماشة ، خالتي طماشة ، شوفي الولد .
 

سكن صوت الطفل ، عادت "حسنة" إلى المرآة ، قربت وجهها منها أكثر تأملا العينين وبشرتها ، نظرت إليها طماشة من فرجة الموارب ، تذكرت عندما كانت في عمرها ، نظرت إلى قطعة المرآة المكسورة في يدها تأكد لها ما كانت تقوله البنات لها وهي صغيرة   

- طماشة أم عيون عورا ووجه أسود .

في أيامها جمعت طماشة ليف النخيل الخشن وحكت به وجهها حتى أدمته ، بكت طماشة عندما نظرت إلى المرآة ووجدت أن ذلك لا يفلح في إزالة السواد وإعادة عينها المغلقة .

عندما انتهت حسنة من استعراض جسدها نادت عليها طماشة

  • يا حسنة ، تعالي قبل لا تبرد الحصاة .
 

تمددت حسنة على فراشها ووضعت " طماشة " فوق بطنها قطعة من القماش السميك ومن ثم وضعت عليه حجر متوسط الحجم كانت قد أحمته في الرماد الساخن وقالت

  • الله يعطيك الصحة والعافية .
 

أغمضت "حسنة" عينيها وسألت "طماشة بنت عبيد " وكأنها تحلم

  • خالتي طماشة ،هو الرجل ويش يحب في الحرمة غير جسدها وأنها تجيبه الأولاد ؟

صمتت " طماشة " أحست أن " حسنة " تشبهها في التفاصيل الصغيرة في حياتها التي كانت ،استوعبت "طماشة " أن حياتها تشبه جزء من حياة البشر الذين تعيش معهم ،وربما تشبه حياة كل البشر مجتمعين ، حياتها تشبه حياة " حميد بو تيلة " طلما حلمت أن تركب البحر أو الريح وتولي لهما وجهها وحتى تأخذها لأي مكان تريد دون أن تبقي لها على أثر ، كما كان يروق لها تكون " مثل صفية " خالية البال لا تؤمن بقضاء الأشياء دون أن تعترض ولو حتى بكلمة ، حياة البشر تشبه الدوائر المكررة والمغموسة ، كلهم  يكملوا  بعضهم  أو يشبهوا  بعضهم ، لا يختلفون إلا في تخطيهم  لحالة حزن أو تعاطيهم لحالة الفرح .

لا تعرف طماشة " لماذا ألمها في تلك اللحظة أنها ستموت كما قالت لها أمها

- الإنسان بدون أولاد مثل النخلة المقلوعة من عروقها ، ويش تلقين في حفرة نخلة مقلوعة من عروقها ؟ شفت تحتها حياة أو عرق حية ؟ ، تصير حياة الإنسان كأنه نخلة زرعنا وقلعناه بموته .  
 
 
 
 

      .................................................... 
 
 

رفعت " صفية بنت جمود " رأسها عندما شعرت بخطوات أقدام تقترب من غرفتها ، وعندما لاح لها وجه " طماشة " ،عادت إلى وضعيتها السابقة ، كانت رأسها بين بيديها ، بادرت إليها بالقول

  • تعبت ، خلاص تعبت يا طماشة .
  • خير يا أم حمد .
  • أم حمد ، تعبها من حمد وأفعاله .

لم تتحدث " طماشة " وانتظرت أن تخرج "صفية " كل ما في قلبها .  

  • تصوري يا طماشة ، أمس زارتني "دلال " وقالت لي " أنت على العين والراس ، بس كفي أذى ولدك عني " ، ويوم كلمته كأني أكلم  جدار ، لا يشوف ولا يسمع .
 

كان " حمد " مثل ضوء حد السيف الجديد ، جميل ترتاح له العيون ،  وكأنه بعث جديد  لصورة " حمود بن طالب " ، لا تعرف " طماشة " كيف كانت عينه تلاحق دلال  من مكان لأخر ولكنها تعرف أن "دلال" منعته من دخول دارها وأخبرت "طماشة "  أن تبلغ أمه  أن ابنها يتسبب لها بالأذية . كلمت "طماشة " صفية قائلة :-  

- برد زمانه يا أم حمد ، حمد بعده بأول عمره ،بذر صغير ما قوى عوده ، باكر يكبر ويعقل ، ويعرف الدنيا وطريقه فيها . باكر يعقل مثل حسنة .  

  • حسنة ! كلهم يا "بنت عبيد " أخوان بعض ، حمد وحسنة عوار راس ، خاطري أصد صوب واحد منهم ويبرد قلبي .
 

رفعت " صفية بنت حمود " رأسها  وحدقت في فراغ الغرفة

  • حسنة يا طماشة ، تحسب أن أمها عند فلوس قارون وتريد منها تصرف على زوجها اللي ترك شغله ،كل يوم تكلمني بسالفة  وتأخذ مني وتعطيه ، ما تعرف أنه اللي كان عندهم الفلوس بها البيت ذكرهم ربهم ، ما أقسى ها الدهر يا طماشة " بيت حمود بن طالب " اللي كان أقدام الناس ما تنقطع عنه لا صبح ولا ليل ، مر عليه الدهر وصار ما يدخله الناس إلا بعد أيام متفرقة ،  ما بقى عند " صفية " لا ولد تشد به ظهرها ولا أخو تستند عليه كلمات ما هبت عليها ريح . صدق من قال

ربيت الولاد  اللي من صغري وجنوني

                                     وحسبت الولاد اللي من كبري بيغنوني

                ومن سبعة ولاد ما رموا يعشوني  

  • أفا " يا أم حمد " وين سارت "طماشة " اللي من صغرها معك ؟!
 

أحاطت " صفية بنت حمود "  كتفي  "طماشة "

  • أنت من ريحة الطبيين "يا طماشة " ، صدقيني البيت من غيرك وحش ، ما يشبع وهو ياكل أهله .
 

في تلك اللحظة خافت "طماشة " على "صفية " أكثر مما خافت عليها عندما ترملت وعادت بطفلين مربوطين  بذيل ثوبها .  
 

      فيما مضى وفي أول مرة دخلت فيها "طماشة" إلى بيت عمها " حمود بن طالب " كانت ما تزال تمسك بيد أمها وتشد عليها من الخوف ، رأت نفسها تنتقل من بيت العريش الذي خالته أنه سيسقط على رأسها على رأسها كلما هبت عليه الريح أو تكاثر سقوط المطر عليه ، إلي بيت الطابوق ، أدخلتها إلى المطبخ الكبير ، كانت القدور الكبيرة هي أول ما لفت انتباه " طماشة " ومن ثم الحركة الكثيرة للوجوه والأقدام في البيت كانت النسوة تنظف ويطبخن فيما كان الرجال يجلبون الماء ويقطعون الأخشاب ويحضرون اللحم ، وفي زاوية من البيت اجتمع فيها أطفال من مختلف الأعمار تركتها أمها في يدها كسرة خبز جافة ، وانخرطت بالعمل مع بقية النساء ، التفت طماشة جهة الباب الكبير ، رأت فتاة صغيرة مجدولة الشعر ، تبدو ملابسها نظيفة تنظر إلى طماشة من ثم تبتسم إليها ، وقفت الفتاة للحظة من ثم سارت ، شجع ذلك " طماشة وسارت وراءها ، من بعيد سمعت صوتا ينادي أمها

  • يا صبيحة ، خلي اللي في يدك وتعالي لمحمد .

كانت " طماشة " تقف  في وسط ساحة المنزل عندما مرت بها أمها ودججتها بنظرة نارية ، أخذتها من يدها ودلفتا إلى غرفة كبيرة ، كادت " طماشة " تدور حول نفسها وهي ترى اتساع الغرفة ،دخلت الطفلة الصغيرة ذات الشعر المجدول وهي تمسك بيد أمها التي قالت لها

  • قعدي يا صفية في ها المكان ولا تتحركين .

فيما أخذت أمهما من السرير طفلا جميلا ورأتها تجلس وهي تثني ساقيها ووضعت الطفل عليهما ومن ثم بدأت تناغيه

- بسم الله الرحمن الرحيم ، صليت بك عن الرسول وعين الحساد عنك تزول ، صليت بك على النبي وعين الحساد عنك تعتمي ، صليت بك على محمد وعين الحساد عنك تتجمد .  

ثم أرضعته وبدأت تغني له بصوت طالما نامت عليه " طماشة "  

محمد يا غناتي              لا ترقـــــــد في السيوح

وارقد في ظل               بارد بين الحشا والروح  

اقتربت " طماشة " من صفية وبدأت نظر إليها بينما جرؤت الطفلة وأحضرت دميتها المصنوعة من القماش وبدأت تلعب معها .  
 
 

.................................................... 
 

في ذات يوم وعندما وصلا البيت ، ظل " خميس " صامتا ، خافت أن يسألها عن اسم الرجل الذي احتضنه باكيا ، دخل غرفته وظل ساهيا  عنها ، لم يؤكد كما في كل مرة أنه عرف الناس وكل الطرقات ولكن نظره لم يسعفه

- ترا الكبر شين وايد .

في ذلك اليوم كانا يمران ببيته ، عندما رأت " طماشة " ذلك بأم عينها ، أرخت يدها من يد خميس الذي كانت تقوده واقتربت من بيت " ساعد ولد غلام " اقتربت من الباب أكثر ، كان بعض الناس قد تجمعوا حول الباب ، اقتربت " طماشة " أكثر من الباب ، لم تخطيء أذناها أنها تسمع صوت نحيب " ساعد " كان صوتا مكسورا ولا يشبه صوت الرجل الذي عرفته يطوي الدنيا تحت جناحيه ويطير بها بعيدا ، اقتربت من " خميس" الذي وقف ينظر للأمر من بعيد والكدر يملأ وجه ،دفعته إلى الباب وقالت له وهي تضع فمها على أذنه

  • خميس هذا بيت ساعد ، ساعد بن غلام  صاحبك .

ببطء فتح " خميس"  الباب ، الرجل الذي كان مكورا على نفسه أمامه ، احتضنه بعنف وأخذ يبكي أمام الناس وهو يقول

  • بموت يا خميس ، أحس نفسي بموت ، الروح توصل إلى الحلق وترجع .

تكلمت طماشة وهي تحدق في جسد "خميس " الضئيل محتضنا  جسد " ساعد " المتين .

  • صلي على النبي ، بعدك جمل  تقدر على الدنيا وتصبر عليها .
 

ترك " ساعد " يدي خميس ونظر إلى طماشة ، وقال

  • البارحة شفت في حلمي أني ميت ، وأنت قايمة في العزا.
  • قول خير ، خير اللهم اجعله خير.
  • ما أحد بيذكرنا بعد ما تموت ، الحياة بس دين علينا نؤديه ونسافر ، ونترك كل شي ، البيوت والناس ، حتى التراب نتركه يا طماشة .
 

  كان الإحساس الغريب الذي نقله ساعد إليها ، يحمل شجاعة لم تستطع هي البوح ، في الليالي السابقة عندما كانت تصحو دون سبب معلوم كانت تحدق في الكون الساكن من حولها ، تضغط على يدها التي بدأت ارتجافها يزيد بعد كل يوم ، تمعن النظر في الأشياء من حولها ، حلمت دائما أن خميس ميت وأنها في أرض خالية تجري وحدها بينما يدها ترتجف ، ورغم أن " دلال أخبرتها أن من الأحلام تفسر بضدها وأن تكرار هذا الحلم يشير إلى أن عمر " خميس " سيطول وأنها لن تعرف الوحدة في حياتها المتبقية . إلا أن "طماشة"  ، ساورها القلق ، وأصبحت تفزع من كل حلم تراه بعد ذلك .  

        

.................................................... 

جهز " حميد بوتيلة " مركبه ، كان إحساسه يتعاظم أن الموت يعانده ، في الليالي الطويلة التي قضاها في البحر كان يتصور أن الموت يأتيه مع كل موجه بحر هائجة أو مع كل حركة رياح لم يحسب لها حسابا صحيحا ، اليوم يحرك مركبه وهو عازم أن يعود كما عاد أبيه ، مربوطا إلى لوح خشب بحبل مهتريء ، طوال تلك السنين لم يشاهد " حميد " إلا صورة والده الغارق في البحر وهو تتقاذفه الموج عاريا إلا من هشاشة لحمه الذي بلل الماء وحلل تماسكه ، اليوم ترافقه  صورة " دلال " كبيرة ومبكية ،عندما ذهب إلى بيتها بعد أن عادت إليه " طماشة " بخبر زواجها  ، لم تكلمه حتى من وراء جدار وأرسلت له إحدى بنات فرقتها لتخبره

  • عمتي دلال ، تقوله اقصر الشر وروح .

لم يصدق أن "دلال " تنسى كل تلك السنين وتصنع بينهما حاجزا كبيرا كهذا ،في ذات الوقت شد الألواح على قاربه وسحبه على التراب ، لم يصدق أن دلال  التي كانت تحكي له وهو بقربها عن الشعر الذي قالته امرأة عاشقة من أهلها

كانت تحكي له :-

  • كان لها حبيب مثل القمر ، تحبه حب ما حبته حرمة لرجل ، مرت السنين وتغير عليها وتزوج غيرها وصارت تقول فيه شعر بين الناس تحت حفظوه .

 

- ها الحرمة اللي تبرد القلب ، ويش قالت فيه ؟  

ينصت إلى دلال ، كانت صوتها شجيا وهي تغني .  

عندي حبيب أحبه واحسدوني ياه        اللي حاسدني حبيبي تحسده دنياه

  إن كان صــــــــــــغـــــــــير           صبح من الصــــــــبح متــــغير

وان كــــــــــــــان حرمـــــة             حرمها الرب معيشـــــــــــــتها

وان كــــــــــــــان رجـــــال              لا صــــــــــبح ولا مســــــــــــــا  

في بعض الليالي تزيده  فتغني

ما تــــــــوب ، ماتـــوب                لين ما أواع المحبوب

لعـــــــــلقوني شبـــــــــح                لجسمــــــوني دروب

بصنع مداري وبطلع                       للحــــــــــبيب فوق

وتكسرتبي المداري                        بت أجاســــي عوق  

كان يستطيع أن ينسي العالم بوجود "دلال " ، كان يضحك من أعماقه معها، كل التعب الذي حمله على كاهله لسنوات كان يخلعه كثوب بال في حضرتها ، كانت يسألها بدلال طفل صغير .

 

  • دلال تشاقين لي لما أكون بعيد . ؟
 

وكانت ترد عليها بوهج وجهها الأبيض .  

  • وايد ،  أنا يوم أشتاق لك بسأل عنك حتى الطير الطاير ، بنشد حتى سحاب السما عن مركبك في البحر .
 

كانت عندما تقول له ذلك يشعر أنه ملك ، لا يشبه أحد من الملوك ،  يمللك الأرض والسماء ، غاصت " قدما "حميد بو تيلة " في الماء ، أحس ببرودته ، صرخ به أحد الصيادين

  • حميد ، على وين ، صار في عقلك شيء ، ما تسمع طبول الشمال كيف رافعة موج البحر ؟!.
 

كان صورة والده تملأ الأفق أمامه .  
 

.................................................... 

تذكرت " طماشة " ، أن زوجها "خميس " لم يخذلها إلا مرة واحدة . تلك المرة كانت المرة الأولى في التي القت فيها عينا " حمود بن طالب " عن قرب بعين " طماشة بنت عبيد " كانت ما تزال يافعة ، دعاها وزوجها إلى غرفة الجلوس التي جلست فيها زوجته " هنية بنت ناصر " وبجانبها أمسكت يد أبنتها ثريا ، وحين دعا " حمود بن طالب " إلى الجلوس ، نظرت إليه بتمعن كان طويلا يجبر من يتحدث إليه إلى أن ينظر إليه يرفع رأسه إلى الأعلى ، وسيما لا يمل الشخص من التحديق إليه ، تنحنحت " هنية بنت ناصر " موجهة الكلام إلى " طماشة "

  • نحن نعرف أمك رحمة الله عليها ، هي حرمة خيرة والكلام واقف عنها .

قاطعتها طماشة دون إدراك كبير منها

  • تعيشي يا عمتي ، الله يرحمها ويرحمنا .

تكلم " حمد بن طالب "

  • وأنت على ما شفنا منك ، مثلك أمك وما عليك قصيرة في شيء أبدا ، ويوم فكرنا أنا وعمتك "هنية " ما لقينا أحسن منك .

سكت " حمود بن طالب " وأكملت بعده "زوجته  

  • ما لقينا أحسن منك يكون قايمة على ثريا .

التقت عينا " طماشة " بعين ثريا الباهتتين ، كانت تعرفها عندما كانت تختلس النظر اللعب مع أختها " صفية " ، كانت تركض دون اتجاه بعينه في ساحة دارهم ثم تدور إلى تسقط ، كانت صفية تخشاها تختبئ وراء طماشة مخفية جدائلها الناعمة الطويلة ، لما سألت "طماشة " أمها عن ثريا ببراءة أيام الطفولة

  • ليش ثريا تركض دايما

قالت لها يومها

  • تريا ، الطير ما خذه نص عقها وطارت به .

قاطعها صوت" هنية بنت ناصر تفكيرها

- ثريا مثل أختك ، وأنت تعرفين ؟، ،ا ثريا مريضة شوي وتحتاج قايمة عليها .

أضاف عليها " حمود بن طالب "

  • خذي مني عهد أن خيرك وميرك وكل اللي تحتاجينه ، حتى ولو كان كبر حبة التراب راح يكون من ها البيت .

أمسكت " هنية بن ناصر يد ابنتها

  • وقت الرقاد مقدور عليه ، إحنا نرقدها معنا ، بس تحتاج أحد يداريها باقي اليوم .
  • - طلبي يا طماشة اللي في خاطرك وما يردك إلا لسانك أ وإحنا جاهزين .

سكتت " طماشة " ونظرت إلى ثريا التي بدأت تعبث بشعرها بعد أن كشفت الغطاء عنه .سمعت صوت زوجها " خميس يرد عنها

  • إحنا ما لنا غنى عنك يا عمي ، ولسانا يمنعنا نرد طلبك ولو على موتنا
  • ما تقصر يا خميس ، فيك الخير دايما .
 

بعد خروجهما من بيت " حمود بن طالب "  ، عاتبته طويلا حول ما قاله ، ابتسم  لها وقال مازحا

 

- أوعدك ما راح  تقومين إلا على " ثريا " وعلي أنا .  

لم تقم "طماشة " على "ثريا " إلا شهرا ، في ذات صباح وجدت البيت الكبير هائجا ، كل من البيت كان يتحرك دون ترتيب ، استوقفت ، صفية وسألتها أجابت

  • ما لاقين ثريا ، دورنا كل مكان وما لقيناها .
 
  • الباب البيت العود بس مفتوح ، البنت مثل الملحة اللي ذابت في البحر ، ثريا ما تعرف شيء ، ولا تعرف الدروب والجارات ، كيف طلعت وين راحت ، دلونا .
 

كهذا  كانت " هنية بنت ناصر " تتحدث مع النساء ، في أيامها كانت "طماشة " تجلس واضعة يدها على رأسها ، تبكي مع كل باك في ذلك البيت ، تبحث دون ملل عن تلك الفتاة التي رأت في رعايتها لها  تعويضا عن الأطفال الذين لم يعيشوا يأخذ و من الحنان الذي ادخرته لهم .بقي الناس لشهور يجوبون القرى ويبحثون في الأماكن المهجورة ، يسألون القريب والبعيد عنها ، ، إلى أن رفع " حمود بن طالب " يده وفال للجميع  

  • بنتي إذا حية الله قادر يدرها حالي ، وإذا ماتت أنا احتسبتها عند الكريم  الرحيم .

في يومها بكت " هنية بنت ناصر " بصوت عالي وأسمعت الناس صوتها الحزين . فيما انكمشت " طماشة " على نفسها ، وأصبحت تتحاشى النظر في وجه أهل البيت الكبيرة مباشرة . 

.................................................... 

  • راح أسامحه  ، أنا  ما لي أحد غيره، وهو متعلق بها الدنيا بي .
 

قالت "طماشة " في نفسها ذلك وهي تهيئ طعام الغداء لخميس ،تتذكر وهي تبتسم كيف كان يمتدحها  

  • أنت عنبر يا " طماشة"  ومن ما يحب ريحة العنبر . 
 

كان وجود " خميس " المبكر في حياتها بمثابة الماء الذي أطفأ نار الحسد الذي بدأ يجتاح قلب "طماشة " هي ترى النعم بادية على أجساد صاحباتها ، فيما حرمت هي من نعمتي المال والجمال ، بقي يدللها  حتى أمام الناس بكلمة  

  • يا غناتي .
 

أحست "طماشة " أنها ظلمته في بعض الأوقات ، كانت تبتعد عنه بعد كل إجهاض يحدث لها ، تتذكر عند موت  طفلاها الثالث  اقترب منها أتمدد بجانبها ، فك تشابك ساعديها تحت رأسها ، توسد الساعد الأيمن  ، كانت في وقتها زاهدة الدنيا بما فيها ، وكان يمزح ، وضع يده على صدرها الفائض بالحليب ، ضحك ضحكة قصيرة ، لمح

  • طماشة ، ترا أمي فطمتني وأنا ما كملت الحولين ، خاطري ...

لم تدعه يكمل ، أجفلت منه وأعطته طهرها  

  • حليب ولدي ما أحد يشربه وهو في قبره .
 

كانت تبكي وشعرت به وهو يبكي خلفها    
 

.................................................... 
 
 

، شعرت "طماشة " بلهفة غريبة لكل شيء لم تشعر بها منذ سنوات ، انتظرت زوجها ، فكرت أن تخرج ثوبا جديدا ترديه ، في لحظتها شعرت أن "خميس " يحتاج إلى الاهتمام أكثر ، أهتم بها في صغرها ، سترد لها الاهتمام الآن ، ، ستخرج به إلى السوق ، وربما يجلسان بجانب دكان " ساعد ولد غلام " بعد أن يسترد عافيته وتزول عنه الحمى التي لازمته منذ وجدته يبكي ، وربما تأخذه إلى البحر ، وتطلب من "حميد بو تيلة " أن يأخذه بجولة قصيرة في مركبه بعد أن يبرد في قلبه حب " دلال " ، ستجلسه في باحة دار " صفية بنت حمود " وتجاذبه معها أخبار الناس ، وسترجو "دلال أن تغني له كل يوم  
أغنية في الحب والعشق ، هذا لن ينسى " خميس  من حوله ، وسيعود كما كان سابقا ، وضعت على الطعام غطاء ، فتحت باب دارها على اتساعه استقبلت الهواء والشمس والبحر ، نظرت إلى بيت " ساعد ولد غلام " وابتسمت ، نظرت إلى الطريق الفسيح الممتد أمامها ، ارتجفت يدها قليلا وهي ترى جموع من البشر تملأ المكان . 
 
 
 




قصص متنوعة

حب ....خرافة ....بحر
سأخون ذاكرتي
حكايتي اسمها مريم
القايمة
شيء من رمضان

بيت البرزنجي
سأخون ذاكرتي
حكايتي اسمها مريم
القايمة
الجدة فاطمة

الشعراء الدواوين القصائد

Powered by: kahf diwan Version 2.1.0 Copyright ©1999-2025 www.alkahf.net