حب ....خرافة ....بحر
رحمة المغيزوي
لا يسعني مهما دارت الأيام أن أنسى بيتها الذي كان يقع على أطراف الحي الذي كان تقطنه أسرتي عندما كنا صغارا ،وما يذكرني بها أكثر أن فص ذاكرتي القديمة مازال يتوهج بضوء صغير لأتأكد أن ملمس التراب في فناء الدار يشبه ملمس الحرير وأن رائحة القهوة التي تعبق بالمكان كان لذيذا وملتصقا بطفولتي وأنني لم أشم مثلها طوال تلك السنوات .
في بيتها كنا نحلم بالمطر والشمس الكبيرة والحياة الطويلة ، نتسلق على متن السحب البيضاء دون خوف من السقوط ،ونعرف شخوصا لم نكن نعرفهم من قبل وتضم وسائد نومنا وجوها وأحداثا تزداد ألقا مع كل حلم يصل إلينا ، هذا ما اكتشفته عندما سارت بنا الأيام وافترقت جماعة الأطفال التي كانت أجسادها تلتصق يبعضها وتنظر بإحكام إلى وجه الجدة " فضيلة " منتظرين أن تهب لنا من لسانها حلما يبدأ قبل أن تغمض جفوننا ونسافر في ظلام دامس . كلما كبرت استزدت قناعة أن الخرافات التي نسجت في ذلك العمر كانت وقودا مناسبة للسير الآمن عبر مراحل العمر بعقل لا يستجيب لأرض الواقع إلا لماما ،وأن الأفكار التي تولد من الجلسات المسائية كانت صافية ومبدعة . كما أكتشف أن الأطفال يحبون الخرافة لأنها تحقق شيئا من آمالهم ورغباتهم النفسية والجسدية في جو خيالي ، فهم يجدون فيها عجائب وغرائب تغذي طرق التفكير التي غالبا ما تكون محفزة للظهور عند أول حرة نبدأها الجدة " فضيلة" وهذا بدوره ساعد على استنهاض تلك الخرافات ممتزجة مع النفس البشرية كل على حدة .
وقبل الحديث عن الخرافة علينا أن فهم أن أولئك الذين يعيشون أجواء الخرافة ويظنون ظنا لا ريب فيه أنها تسير حياتهم لا يجعلون ميزان العلم مقياسا وفيصلا في الأمر ولا يلقون بالا إلى التعريف الموجز للخرافة من أنها ( اعتقاد راسخ أو فكرة قائمة على مجرد تخيلات دون وجود سبب عقلي أو منطقي مبني على العلم والمعرفة ) وإنما يتخطون ذلك إلى مدى بعيد فالخرافة عندهم مثل الحب والبحر تسري كنبع من الدم الذي يمدهم بالحياة المطمئنة ، وتجدر الإشارة هنا أن الخرافة ومن منظورها الشعبي البحت تصبح إرثا عزيزا يحاول الآباء نقله إلى الأبناء كما ينقلون الدين واللغة والعادات والتقاليد وصفاتهم الوراثية ، ومن هنا يكون ذلك الفلكلور الشعبي المتوارث بمثابة القوى القادرة على حمايتنا ضد كل ما نجهله ونخشاه . فنحن نتوقع دائما أن هنالك شرخا في الروح لا يرتقه إلا قوى خارجية نزداد ارتباطا بها كلما مررنا بحالة من العجز المستطير .
ومن جهة أخرى فأن الخرافة تعمل كمعول ردم للخوف الذي يستوطن الذات الإنسانية من الأزل ، فعندما نؤمن بأسطورة من الأساطير المنتشرة في المجتمع مثل أسطورة (بو شريع ، بو رول ، الغول ، الهام ، حمارة القايلة ، كبش الجن ) - وهي في المجمل كائنات أسطورية لها صفات خارقة وتحمل طابع الشر- فنحن في شكل من الأشكال نجسد خوفنا من المجهول الذي بقي مستعصيا علينا بالفهم لتجسيده على عدة أشكال مخيفة مستنبطة من تركيبة عدة مخلوقات ونعطيها قوى أكبر من قواها ثم نوجد لها نقطة ضعف تمكننا من قهره أو مسايرته وهذا ما يحدث في خرافات أهل البحر – كنموذج – إذ كثيرا ما نمت العديدة من الخرافات حول جبروت البحر والمجهول الذي يرونه يغير بين فينة و أخرى شكل وجهه الهادئ وينتصب كمارد لا يقوون إلا على محاباته طوال العام فإذا كان يوم عاشوراء وقف الأطفال بإيعاز من أهلهم أمام البحر وقسموا ما جمعوه من الأرز في تلك الليلة بينهم وبين البحر ، فلا يأكل الأطفال والكبار على السواء إلا إذا أكل البحر في تلك الليلة ، ويبدو الأمر من الوهلة الأولى وكأن حبات الأرز تلك المشفوعة غالبا بالأدعية وبعض الأصداف البحرية المحبوكة في خيط أشبع بالعطر ر وروائح البخور كعهد وميثاق يمنى أهل البحر أن لا ينفض بينهم وبين البحر ، وفي أوقات من العام يعودون إلى البحر إذا شح الرزق من البحر ويحضرون عجوزا من أهل الحي ويختارونها بصفات خلقية كبيرة ويدفنونها بالقرب من البحر ويبقون رأسها ينظر إلى البحر وينشدوا بصوت واحد معددين فضل الأسماك التي اصطادوها منه والخير العميم الذي أبعد عنهم شبح الفقر والفاقة فقالوا بصوت واحد ( واصيدنا ، واصيدنا ، ردوا علينا صيدنا ، واصيدنا من الكنعد وفلوسه ما تنعد ، واصيدنا من العومة وفلوسها مضمومة ، واصيدنا من البربر وفلوسه ما تعبر ، واصيدنا من كل صيد ردوا علينا صيدنا ) ومن المناجاة السابقة يفهم أن البحر في أذهان من جاوره كائن عاقل وسيد مطاع يعطي ويمنع، وأنه يملك قدرة مستمدة مما يحويه من الكائنات الغريبة على إسباغ النعم عليهم أو منعهم منها ، ومن هنا انتشرت الخرافة حول تقديس الأجساد التي يجدونها بالقرب من الشاطئ و فغالبا ما بني أهل الساحل مقبرة بجانب البحر إذا ما وجدوا جسد الإنسان لفظه البحر وزادوا عليه شيئي أولهما تقديم النذور والعطايا لصاحب ذلك القبر وثانيهما التبرك بدفن من مات منهم بالقرب من ذلك القبر حتى يكون البحر شاهدا على تكريمه له . وزادوا على ذلك بأن ألصقوا للبحر قدرات شفائية من أمراض مختلفة فنجدهم يذبحون أمام أمواجه ويدفنون مرضاهم في ترابه الرطب معتقدين أن ذلك أنجع دواء .
من حيث لا ندري تكون الخرافة بكافة مضامينها وريدا يغذي إحساسنا كجماعة لها تاريخ طويل على أرض مشتركة كما أنها تربطنا برابط خفي لا يسعنا إلا الرضوخ له بكافة مدركتنا الحسية وغير الحسية .
العام المنصرم كانت ذكرى جدتنا " فضيلة " كبيرة وممتزجة بما قرأته في مقال حول الخرافة ومميزاتها وأثرها في الشعوب فعندما قرأت ما كتبته ماكسيم غوركي ( قدرة واضعي الخرافة أخبرتنا عن السجادة الطائرة قبل اكتشاف الطائرة بمئات السنين وأخبرتنا عن السرعة الفائقة في الفضاء قبل اختراع القاطرة أو الدراجة النارية ) تذكرت الخرافة التي قالتها " الجدة " فضيلة " التي خرجت بها من طور حكاية الكائنات الخرافية إلى طور الخرافة المتعلقة بالإنسان الخارق ،- وقد كنت آسفة جدا على ضياع أجزاء كبيرة منها- ومضمون تلك الخرافة يحاكي بل ويتفوق في أحيان أخرى على قصص الخيال العلمي المعروفة في وقتنا الحالي وان كانت في أحداثها تحمل عنصري التشويق الهامين لكل حكاية وهما الحب والشجاعة في مغامرة من قبل شاب عماني للفوز بقلب أميرة بارعة الجمال ،وهو يمر للوصل إليها باختبارات كثيرة ومصاعب تكاد أن تقضي على حياته لكنه وفي كل مغامرة يخرج أكثر قوة وأكثر إصرار ا على إثبات حبه وإخلاصه لتلك الأميرة .
وفي اعتقادي أن هذه النوعية من الخرافات والتي تشمل على وجود شخصيات تملك قوى خارقة تتغلب فيها على قوى الطبيعة من النار الريح وغيرهما تقرب الخرافة المولودة في المجتمع العماني من الخرافات التي تشكلت في المجتمعات القديمة والحضارات ما قبل التاريخ مثل حضارات في بلا ما بين النهرين . وهذا يعطي بعدا للغنى والثراء الذي كان متأصلا في العقلية العمانية للخروج بتفاسير مختلفة لما يعايشه الإنسان في حياته ومحاولة تفسيره بأسلوب مغاير قد يسكن التساؤلات التي كثيرا ما أطلقها الإنسان عبر مسيرته الطويلة . ونجد أن تلك الخرافة تقلبت على ثلاث مستويات شمل المستوى الأول ما يتصل بالكائنات الخرافية وكان المستوى الثاني يركز على الإنسان الخارق و تحدث المستوى الثالث على الحيوانات المتكلمة ومغامرتها . واستناد إلى ذلك فان الخرافة تمثل جانبا لا يمكن إغفاله في ثقافة وفكر أي حضارة من الحضارات بل ربما يكون الحفاظ عليه يعتبر من باب فرض العين . لا يجوز تركه أو إهماله .
|