Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/init.inc.php on line 55

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/init.inc.php on line 56

Deprecated: Function split() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 268

Deprecated: Function split() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 271

Deprecated: Function split() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 271

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/members.php on line 227

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29
المجموعات القصصية للسلطنة الأدبية
  
 

قسم قصص متنوعة
بيت البرزنجي
تاريخ الإضافة: 24/08/2009 رشح | إهداء

بيت البرزنجي

في فجر ذلك اليوم
الثاني عشر من ربيع الأول 
كان " سيف بن هاشل " قد نهض كعادته مبكرا وحتى قبل أن يحمي " خاطر ولد عثمان " حنجرته ويسمعه يكح لمرة واحدة ومن بعدها يرفع الآذان بصوته الندي والجميل مع سكون الفجر الأول ، كانت امتداد صوته في الشهادتين يكاد يزلزل الكون ويوقظ كل القلوب الراقدة في أكنان النوم ، شعر " سيف بن هاشل " أن ذلك الصوت يتعانق مع إطلالة الحياة الجديدة التي بعثت بعد الموتة الصغرى ، تنفس بعمق وتقلب فوق فراشه قليلا ، كان قد عد بترتيب مقنن كل ما يجب أن يتم من الأمور في هذا اليوم العظيم  ، ابتسم وكأن الملائكة كانت تناغيه في "أحلامه ونومه الخفيف في تلك الليلة ، تمتم بصوت منغم وبمثل استرجاع الروح " أبدأ باسم الله الرحمن الرحيم دائم الإحسان ، فالحمد لله القديم الأول ، الآخر الباقي بلا تحول ، ثم الصلاة والسلام سمعدا على النبي خير من وحدا " "1"

أسبغ الوضوء على أعضائه وعندما خرج من باب الحمام كانت قطرات الماء ما تزال عالقة في لحيته البيضاء المشذبة ، تمتم بالاستغفار خفي ، مسح حبات الماء عن وجه وأعاد كمه إلى مستوى ساعده السابق ، كانت غرف أبنائه المجاورة لغرفته ما تزال مغلقة ، قدر بحدسه الذي اعتمد عليه طيلة حياته بأنه سيراهم في أداء صلاة الفجر حاضرة ، وأطمئن إلى ذلك ،عندها نظر إلى غرفة ابنه " محمد " وجد أن النور قد أضيء وأن حركة خفيفة بدأت تدب فيها ، بينما كانت زوجته ما تزال تغط في نوم عميق متوسدة ساعدها الأيمن ، كادت أطراف أصابعه أن تتحرك وتيقظها بلطف ولكنه تراجع وأشفق عليها من العمل الشاق في هذا اليوم ، نظر إليها بإمعان كان قد قدر تلك المرأة كثيرا منذ عاشرها منذ ما يقارب الثلاثين عاما  ، وقدرها أكثر عندما وجدها تشابهه في حالة اليتم المبكر التي حلت بهما ، وعندما اقترن بها أحس أن من واجبه أن يكون لها أبا بعد وفاة والدها ، فيما أصبحت تلك الفتاة الناحلة الخجولة  ذات الأربع عشر ربيعا تعويضا له عن جزء لم تستطع أمه المعلمة " لهية بنت ساعد " أن تملأه أو تشبعه فيه كرجل أحس بأنه ينحت في صخر الأيام بيد لا تملك إلا  كتابا هجره  وكاد  أن ينساه في عام قحط  مزمن ، وزاد من مودته لها حكمتها في تحمل تقلب مزاجه في أوقات عديدة ، فهي تعرف ما يريده من النظرة الأولى دون كلام كثير بينهما .
استبدل ثوب نومه بثوب أبيض  معلق على الجدار ، فاحت منه رائحة اللبان وغمرت أرجاء الغرفة .

ظلت " زوينة بنت خلفان " تتقلب على فراشها حتى بعد أدائها فريضة الفجر ، كانت غرفتها أكبر الغرف في البيت ، أطبقت بارتياح على الجفنين  وأغلقت مقلتين  زينتا بالكحل العماني في ذهنها كانت مطمئنة إلى أن كل الأمور ستسير بخير في هذا اليوم المبارك ، استوت جالسة على الفراش ومدت جذعها إلى الأمام وبأصابع زحفت عليها سنون الأربعين تفقدت المفتاح المربوط في حبل صغير حول عنقها ، كان فخرا غير ممنون أظهرته لزوجها عندما علق المفتاح الأبيض اللون وردد بجدية كبيرة
- هذي أمانة .

عندها كانت كلما دخلت غرفتها أو خرجت منها وكلما تحرك المفتاح مصدرا رنينا لاحتكاكه بعقد الذهب  في رقبتها انطلقت بفضول متزايد إلى المندوس الصغير وتلمست الخشب المزخرف بإتقان ومن بعدها تشتم رائحة العود العابقة فيه .
 واتتها الشجاعة ذات يوم وفتحت غطاء المندوس ومن بعده فتحت الكتاب الأحمر ، تأملته ، ومرت بأصابعها عليه  ثم ثنت  ذلك  بفتح الكتاب الأخضر ،حدقت فيهما مليا  لم تر إلا الأوراق الصفراء والحبر الأسود المراق بانتظام في كل صفحة ، كانت حسرتها كبيرة بأن لا تعرف أي حرف فيه ، أكلت الحرقة جوفها وهي تعيد الكتابين إلى المندوس وتغلقهما على سر لم تفكه منذ أن أصبحت امرأة هذا البيت .

وحده " سيف بن هاشل " كان يقرأ تلك الكتب ووحده كانت تتغير حاله من حال إلى حال آخر فيستبشر وينير قلبه ويضحك سنه ويكاد من يراه أن يقسم أن شعر رأسه  يقف ويزيد علي ذلك كله  أن يذكر المعلمة " لهية بنت ساعد " ، المرأة التي كلما تذكرها أمامها تعمد أن  تعطيه ظهرها ولولا أنها تعرفها وتعترف  بفضلها  عليه في بداية حياته وتطلب لها الرحمة والمغفرة للعالم الذي انتقلت إليه  في أوقات كهذا اليوم لتوقعت أن تكون امرأة أخرى تنافسها في زوجها كونها تحتل مكان الصدارة في كلامه .
وتذكرت" زوينة بنت خلفان "  في بداية حياتهما كيف جاءها زوجها فرحا مثل طفل يكاد أن يجثو الأرض ، فتح أمامها  ورقا ، كانت ريش نعام بين يديه مذهلا وراجفا وتكاد نمنمات اللون فيه  أن تتكلم  ، أقعدها بجانبه وفتح المندوس ، وبقدسية قَلب  " كتاب " البرزنجي " الأحمر ووضع أكبر الريشتين فيه وبعده وضع الريشة الأصغر في"  كتاب البدري " ، كلمها كأستاذ يحوي علوم الأرض أن ريش النعام ينمو في بطون الكتب الطاهرة أكثر حتى نموه على ظهور أمهاته ، لم يسعها بعدها ألا أن تصمت وتراقب زوجها وهو يفتح المندوس ويغذي  تلك الريشتين بمسحوق "  البودر " الأبيض المعطر ومن بعدها تتأمل  تدرج الألوان الخلابة الريش وقد تحرك العطر فيها وملأ أنفها برائحة زكية ، سكن الريش بطن الكتب وأصبح " سيف بن هاشل"  لا يخرجه في العام إلا مرة واحدة في قراءة " البرزنجي"  أو لتقديم " البدري " عندما يحدثه قلبه  بالشوق إلى أهل بدر الأطهار . 

من على السرير المرتفع نسبيا  عن أرض الغرفة  أنزلت " زوينة بنت خلفان " ساقين غطاهما سروال أحمر موشى بخيوط فضية محاكة بدقة ، سارت خطوات ونظرت إلى المرآة الصغيرة في غرفتها لبست الثوب الكبير لنساء الباطنة  فوق  دشداشتها الخضراء ، وضعت طيبا  على صدرها  وسوت غطاء رأسها الأسود وخرجت .

ستكون الرؤيا قديمة في هذا البيت ومع ذلك كان الجيل الحالي سيذكرها كنقش النار على الجسد بل وسيشمها على بعد تلك السنين ف" سيف بن هاشل " كان قد حكاها كاملة بعد أن أحس أن أعمار أبنائه مهيأة لتقدير مثل تلك الأمور ومن ثم أعاد سردها كمقاطع بين فينة وأخرى لتذكريهم بفخر تلك الأسرة ، والحكاية التي أطرق لها رأس " سيف بن هاشل " تجليلا وإعظاما  كانت تدور حول جدهم الأكبر " ولد الأصم " من أنه رأي في الليلة التي أقام بها "البرزنجي " في عام حزن لم تطفئه مواساة الناس ولا  مرور الليالي الطويلة أن رجالا قد أتوه وهو نائم وأقعدوه وكان بينهم رجل لم تبين " لولد الأصم"  إلا النور الذي يغمره ويحيط به إلا أنه كان جليا له أن الرجل جميل التقاسيم  بهي الطلعة  يوقره أصحابه ويقدمونه وأن ذلك الرجل نظر برضا إلى " ولد الأصم " ، وأن " ولد الأصم " شعر بريح طيبة تجتاح نفسه ،تبعثر همه ،  وتبعث فيه السكينة التي افتقدها  ذلك العام  بين جوانحه ،وتلهيه عن الدنيا وكل ما فيها ،  وأن ذلك الرجل المبارك  كاد أن يغادر هو وأصحابه لولا أن " ولد الأصم " سأل أحد مرافقيه من يكون هذا الرجل الزكي ؟ !، فقال الرجل بنص يحفظه " ولد الأصم " ويرويه لكل من يسأله

- الم تعرفه ؟ ! هذا رسول الله صلى عليه وسلم .

يصف " سيف بن هاشل " الفرح الذي غمر جده " ولد الأصم " وكيف أنه نسي عام ترح لم يتكرر في حياته وكيف  شعر فيه أن نخر الموت بدأ يدب في أوصاله منذ رأى "المميان " وتعامل معه بقسوة تفطر الفؤاد الشجاع .

 ويكمل " سيف بن هاشل " لأبنائه أن جده سمع وهو بين اليقظة والنوم أن كرامته ستكون في قدميه ولم تطلع شمس الصباح إلا و" ولد الأصم " مخلوق جديد كمن ولدته  أمه من جديد وأن ساقيه بدتا ساقي شاب يطرق أبواب الشباب في أول أوانه  ، وأن إلهامه هداه إلى أن أي شخص يعاني من التواء ساقه أو تشنج مؤلم بها سيكون دواؤه الناجع  أن يدوس عليها " ولد الأصم " ثم لا يمر اليوم أو اليومان على أقصى تقدير وإلا يكون قد شفي تماما ، يسكت " سيف بن هاشل " كمن يستنشق هواء الأيام السابقة في وقتها  كانت طوابير الناس تحج إلى بيت جده لأبيه وتذكر كيف أنه رأى البشارة تطفر من الوجوه التي تعود بالهدايا الثمينة  التي يرفضها " ولد الأصم " بالإجمال ماعدا الطعام الذي علم لاحقا أنه يوزعه كصدقة جارية لمن جاوره من الفقراء ، ويقطع " سيف بن هاشل " كلامه ويقول لأبنائه باعتزاز لمن يلاحظوه يظهر في وجه حتى وهو يعد بينهم  المال الوفير الذي يجنيه من تجارته الرابحة

- احنا بيتنا تشرف بزيارة الحبيب الرسول .

وعندما يصل إلى النقطة الحاسمة تكون " زوينة بنت خلفان " قد انضمت إلى حلقة أسرتها الصغيرة ، وضعت حبات الرطب ودلة القهوة فوق الحصير الملون النظيف ، تقلب بصرها بينهم وهي التي أنجبت الذكور دون يكتب لها القدر أن تزين فتاة من رحمها بقطع الذهب الكثيرة معها أو تخيط لها ثوبا من قطع القماش الكثيرة  التي خزنتها في انتظار صياح فتاة مع  كل مخاض تحس به ورغم أنها دفنت سبعة بطون من العشرة التي حبلت بها إلا أنها ظلت راضية ولم تظهر افتقادها لابنة تراعيها في شيخوختها ، في الوقت الذي رددت فيه في نفسها

- الحمد لله.

كان زوجها يمد ساقا مكسوة بالشعر الكثيف ويخبر أبناؤه أن تلك الكرامة أصبحت متوارثة بكرامة رؤية النبي المصطفى في هذا البيت و انتقلت إلى تلك الساق الممدودة ومن يأتي من صلب صاحبها .
 

في السنة الماضية وفي مثل هذا اليوم تحديدا دخل " سيف بن هاشل "  غرفته لينام ، كانت " زوينة بنت خلفان " موقنة أن زوجها لن يغمض له جفن في نهار مثل هذا اليوم وكانت قبل أن تدخل غرفتها تعرف تمام المعرفة أنه سينقل بصره بين المندوس الصغير تارة ويعلقهما في سقف الغرفة وكأنما ينتظر من السماء شيء حلم به دائما تارة أخرى ، يومها سألته وهما في منتصف كلام دار بينهما

- سيف أنت بعدك تصدق المميان ؟

دحجها بنظرة مطولة ورادعة ، غضت طرفها عن مدى عينيه الواسعتين السوداوين ، كانت تعرف أن ذلك الجزء من تاريخ عائلته محمي عن الخوض فيه ،فبقدر ما هو مؤلم ومحزن بالقدر الذي يكون فيها مقدسا ولا يجوز المساس به أو التشكيك به ، تركها لوحدها فوق السرير الواسع وخرج .

عادت " زوينة " لنفسها قليلا ، ما يحكيه زوجها كان أشبه بالحلم بالنسبة إليها حيث كثيرا ما فتحت عينيها وأغمضتهما بقوة لتعرف أن ما تسمعه لم يكن محض صوت منبعث من حنجرة زوجها وإنما هو فوق ذلك أحداث مؤرخة في ذاكرة الأجيال السابقة واللاحقة على السواء أدت بالرغم من صعوبتها إلى الرؤيا الحق التي رآها " ولد الأصم " وهي وأن أنست الاحتفاء ب" البرزنجي"  و"البدري " في بيتها طوال تلك السنوات المنصرمة  وحيث أصبحت السمة التي يعرف بها الناس هذا البيت ، فكانوا  يدعونه "  ببيت البرزنجي " وأن نادوا زوجها بلقب يحبه ويسهل عليهم محادثته ومناقشته في موضوع يهمهم قالوا له 

- يا راعي  البدري .

ألا أن " المميان " كان الأمر الذي بقيت تنازع فيه نفسها بين مصدقة حد الخوف ومكذبة وواصفة الأمر كله لا يعدو أ ن يكون أوهام في عقول الناس الذين لم يشهدوه وإنما عجنته خيالهم المترف ، ولكنها تعيد كافة حساباتها إذا أتي ذكره على لسان أحد أبنائها ، وعندها تنصاع داخليا وتقر من  أن " المميان" ارتبط بأهل هذا البيت كما يرتبط النهار بالشمس .

وكل قصة في البيت يربطها " سيف بن هاشل "  من بعيد أو قريب  بأمه المعلمة " لهية بنت ساعد" إذ بعد أن ماتت أمه – وحل المميان بعمه – وهو بذرة النسب الكبيرة  للأسرة بعد غرق والده في بحر هادر - كفله جده إليها وأعطى المرأة التي تحفظ كتاب الله وسنة رسوله عن ظهر قلب تفويضا في تربيته دون أن يناقشها في أي شيء ،  وأجرى لها معاشا يفيض عن احتياجات امرأة ووحيدة ومسنة ووعدها بعهد صادق لا ينفك من رجل مثل " ولد الأصم " أن يبقى لها الأجر إذا ما لحق هو بالرفيق الأعلى وبقيت هي تدب من بعده على الأرض .

ما شغل " زوينة بنت خلفان " أكثر  ليس ما حدث وتداول بين أجيال العائلة وإنما خوفها سيكون نابعا من الليالي الطويلة المظلمة ، تلك الليالي التي رأت فيها ثوران أسودان يهاجمان أبنها " محمد " ولا يتركناه إلى أن ترى بقع الدم تغطي وجهها ، عندها لا يعود قلبها إلى هدوئه الأول إلا إذا دخلت غرفة " محمد " ورأته مستغرقا في النوم ووجه الأبيض يحاكي القمر جمالا وإشراقا ،وفي مرات غير قليلة أمسكت بساعد النحيل وطبعت قبلة شعرت من خلالها أن جريان الدم في أوصاله فيها ما يزال يضج بالحياة  .

غُسلت القدور الكبير وقربت الحصر وزادت الضوضاء  في بيت " سيف بن هاشل" في ضحى ذلك اليوم ، كان هو قد عقد صوما لهذا اليوم قربة وطاعة لله ،و قف مع ابنه "على " ليشرفا على ذبح الخرفان ،وإذ أنه ومع  انقضاء صلاة الفجر كان "علي"  ينتظر والده بصبر كاد أن ينفذ ، بينما كان " سيف بن هاشل " قد أمسك في حنان  يد " خاطر ولد عثمان " ليذكره ويدعوه للمرة الثانية في هذا الأسبوع لحضور " البرزنجي " ، واسر له بكلام همس مقدما بيده الأخرى ابنه " محمد "  لم يجيبه عنه " خاطر " إلا بهز الرأس علامة الموافق ، بقي " محمد " مع " خاطر " قي المسجد ، فيما سارع " علي " إلى أبيه بخطوات واسعة ، كان " سيف بن هاشل "   يعرف أبنه هذا جيدا فهو يرسم له خريطة للأعمال الكثيرة التي سيقوم بها  في هذا اليوم أخبره في البداية أن يعاين معه الخرفان التي يريد أن يذبحها كما تحدث عن كمية ونوع الفواكه التي سيشتريها ، كانت نفس " " سيف بن هاشل " مرتاحة لهذا اليوم ، ففيما كان أبنه البكر " هاشل "  يتابع الأمور بصمته المؤثر الذي يحبه ،  تحرك " علي " ليوقف بحضنه اندفاع ابنه الصغير ومن ثم يرفعه ليضعه بين يدي جده .

تحركت " زوينة بنت خلفان " في اتجاهات كثيرة من البيت وأعطت تعليماتها المقتضبة والباسمة إلى النساء المجتهدات في إعداد عشاء  " البرزنجي " واستفردت بنفسها  في وضع البهارات وحددت نساء بأسماهن للإعداد " العصيدة " و"الخبيصة " أخذت زاوية تشرف على فناء الدار كاملة لاحظت زوجها ، كان يكلم الجميع مستبشرا  ومن ثم يعود إلى " محمد " ويسر له شيئا ويبتسم وهو ممسك بكتف الطفل الذي شب عن الطوق سريعا.

مرة واحدة  نهرت " زوينة بنت خلفان " زوجها وأظهرت له وجه الخوف القابع في داخلها ، في يومها كان " محمد" لم يجاوز العاشرة من عمرة ، كان والده قد وضع رأسه في حجره ، وبدأ  قصة تعرف " زوينة بنت خلفان " خبايا و خانها الحظ  إذ لم تصل إلا والطفل يعرف نهايتها بكل تفاصيلها الدقيقة ، وعندما تحدثت مع " سيف بن هاشل "  بصوت عالي كان وجه الطفل قد تغير ، سُمع صراخها في أنحاء البيت مهددة زوجها للمرة الأولى منذ اقترنت به أن تأخذ أبنائها معها وتخرج من بيته  إذا أعاد تلك السيرة مرة أخرى ، وفي أيامها امتنعت عن الكلام والأكل مع البيت كله ولم يرضها إلا  أن يقبل زوجها رأسها  يقسم بالمصحف و بيمين مغلظة أن لا يذكر مثل تلك الأشياء مرة أخرى  أمام  " محمد " حتى تأذن له هي بذلك .

عند انتصاف شمس نهار ذلك اليوم كانت " سليمة بنت خمسين " تفترش أحدى الحصر العديدة في بيت " سيف بن هاشل " بادرته قائلة بندم

- تراها كثرت الذنوب يا ولد هاشل .

أعطى  " سيف بن هاشل " جل اهتمامه ، ونظر إلى المرأة التي أثارت إعجابه بشكل خاص بين كل النساء في القرية وقال لها

- صفي نيتك يا سليمة وتكوني بخير

جلست " زوينة بنت خلفان " بجانب " سليمة " واضعة لها طبق الغداء ، إذ اعتاد من في البيت على  "بنت خمسين " ضيفة مرحب بها في أي وقت ، وان كانت أكثر ترحيبا في يوم مبارك مثل هذا ، كفت " " سليمة بنت خمسين " عن الكلام ومدت قدما متورمة إلى " سيف بن هاشل " ، بنظرة إلى الوجه المنهك قدر هو أن التغيير الذي طرأ على "بنت خمسين " خلال السنوات الماضية بلغ مداه الآن ساوره شك أن الجالسة أمامه ليست إلا صورة مشوهة بفعل فاعل متوحش للمرأة التي عرفها عن قرب ، ففي طفولتهما كانت تحفظ بمعية المعلمة " لهية بنت ساعد " سور القرآن وشعر " البرزنجي"  ونثره حتى لكأن الكلمات قد ولدت على لسانها ويذكر " هاشل بن سيف " أن المعلمة لم تقارنه بأحد مثلما قارنته ب " بنت الخمسين " ، وأنه  حاول أن يكيد لها حتى تكون أقل حفظا منه ولكنه عاد بإعجاب كبير بعد أن رأى تصميمها في الحفظ والاستظهار، ولا شيء يبقى كغصة في حلق " سيف بن هاشل " إلا كلام المعلمة  " لهية بنت ساعد " التي دعته ذات يوم وقدمت له كتابي " البرزنجي و "البدري " ملفوفين في قماش نظيف ومعطر وقالت بكلام غير من طعم حلاوة الهدية التي حلم بها

- لو ما " " سليمة بنت خمسين " حرمة وتمر بها أوقات تكون ما قادرة تفتح الكتب الطاهرة ، كانت الكتب من نصيبها .

وضع " هاشل بن سيف " قدمه على قدم " بنت الخمسين " بسمل وحوقل واستعاذ وكرر ذلك لثلاث  مرات ، أبقيت" بنت الخمسين "  ساقها ممدودة على طولها فوق الحصير فيما بدأت تأكل بشراهة الطعام الذي وضع أمامها

كانت الأيام وحدها كفيلة بأن تغير امرأة مثل " سليمة بنت خمسين " ، منذ ما يقارب العامين عندما استدعى زوجها " سيف بن هاشل " في ليلة دهماء كانت تموء مثل القطط تتحرك في بشكل دائري  في الغرفة ممسكة حبات الأرز والنوى وتهذي بكلام غير مفهوم ، وضع " ولد هاشل " يده على رأسها وقرأ عليها شيئا من كتاب " البدري . متشفعا بأصحاب بدر  الأخيار وطالبا كرامتهم في امرأة مثل " بنت الخمسين"  ، وعندما هدأت

سمع زوجها يقول

- سليمة لبسها جني كافر وتغيرت ، ماشي فايدة منها

سابقا كان قد سمعها تصرخ  و رآها تتقلب فوق التراب فجأة في حضرة المعلمة " لهية بنت ساعد "  لم تعد الطفلة إلى حالها المعتاد إلا بعد  تلت المعلمة بالهمس في أذنها بمقاطع من قصيدة البصيري المباركة 

هو الحبيب الذي ترجى شفاعته      لكل هول من الأهوال مقتحم

دعا إلى الله فالمستمسكون به  مستمسكون بحبل غير منفصم

أبقى " سيف بن هاشل " سر " بنت الخمسين " في صدره .

 
الدم

هو ما بعث كوامن الخوف في نفس " زوينة بنت خلفان " ، الدم الذي تراه في أحلامها ,الدم الذي أخذ يقطر بتمهل بغيض من رأس عم زوجها ، - أخبروها في يومها أن إحساس " ولد الأصم " قد تضاعف ذلك الصباح  بأن إنجاب الذكور الذي افتخر به في شبابه كان خيط غير متين ستنتهي به فردا - ، كان  العم كما قال لها زوجها ونقل ذلك عن جده من جهة وأكملته أمه المعلمة " لهية بنت ساعد " من أبناء الآخرة وسيما ، قوي البينان ، أكمل عامه العشرين وقد ازداد طولا ، وعافية ،لم تنبئ اللحظات الأخيرة لموته أهل القرية عن تغير في تصرفاته  خرج ككل يوم ومثلما يفعل شباب القرية  في بعض أوقاتهم إلى  المرعى غير البعيد عنهم ، ولم تنم القرية في اليوم الذي وجدوه معلقا في شجرة غاف وقد نزعت أعضائه الداخلية وحشي بالملح الكثير ، هالهم أن يروا داخلهم بكل ذلك الاتساع  والصفاء اللامحدود  ، أصر " سيف بن هاشل " أن هذا من فعل المميان رجال الخفاء الذين لا يراهم إلا من وقع عليه اختيارهم والمسألة التي شرحها زوجها بعد سنوات بقيت تطن في رأسها ومن أصحاب المميان يختارون من أهل القرى من يرونه بمثل صفات عمه الجسدية  ويعمدون إلى قتله  بضربة متقنة ووفي موضع معروف في الرأس ومن ثم يعلقونه كالشاة الجاهزة للسلخ ويتركونه حتى يتصفى الدم منه نهائيا ، وغالبا ما يأكلون أكباد من يقعون عليه ويصنعون منه بعد معالجات أدوية تباع بأسعار مرتفعة ، وكلما ذكرها زوجها بقوله

- أنا أشبه عمي و" محمد" يشبهني .

تركت له المكان كله ، وانكمشت على نفسها و أحست بنصل خنجره يحفر في موضع القلب منها ، في يومها تتذكر المعلمة " لهية بنت ساعد " أن " ولد الأصم "  ثبت واستمسك بالعروة الوثقى ورفع عينين جافتين إلى السماء وقال

- " أبدأ باسم الله الرحمن الرحيم دائم الإحسان ، فالحمد لله القديم الأول ، الآخر الباقي بلا تحول ، ثم الصلاة والسلام سمعدا على النبي خير من وحدا "  .

فيما أمسكت زوجته حبات التراب بين يدها وبقيت لأيام تنبش الأرض ، وتلوك حفنا من أديمها ،حتى فارقت الحياة.

بعد صلاة المغرب كان أهل البيت يعرفون أن تلك ساعة اختلاء " سيف بن هاشل " بنفسه ، في مثل هذه اليوم ،  يأخذ كتاب " البرزنجي"  بن يديه ، ويضعه عند موضع سجوده  كانت دموعه تتساقط دون سيطرة منه ،شاغلته نفسه – خاصة في السنوات  الخمس الأخيرة – بأن يرى وجه الحبيب المصطفى كما رآه جده قبل أن ينقضي العمر ويقنط من تلك الرؤية المباركة، ضرب على فخذه براحة يده المتوترة  راجع نفسه وحاسبها كجلد السوط، ما تزال بعض الأشياء في غير موضعها الصحيح تماما ، ما تزال نفسه الأمارة بالسوء تسوقه إلى مواطن الحِمى المحرم ،  كان يعترف  أنه ما زال يقف بجوار  بيت " حميد الطبل " ليسمع صوت غنائه الذي لو جرب في قراءة البرزنجي لكان أعجب العجاب ، ويعترف أيضا أنه يده ما تزال تنام في يد " سليمة بنت الخمسين " كلما مدتها إليه مصافحة كما كانا في طفولتهما  ، نكس رأسه  وعزم بجد صادق أن يترك غناء " حميد الطبل " ويد " بنت الخمسين " لحالهما ليفوز بالرؤية الحق التي لا تشوبها شائبة ولا يعكرها طارئ وأن يستغفر من ذنوب المسمعين والنظر .

يصمت مطولا ،وفي لحظات ظنها " سيف بن هاشل " خاتمة النواقص في حياته  يعود طيفها كبيرا ومكتملا دون سوء ، هي كبيرة الذنوب  التي بقيت تؤرق حياته حتى بعد توبته النصوح ، وتصحيحه خطأه بإعطائها النقود ، يساره الندم  المر وهو يذكرها  تبكي بصمت في المساء الأخير الذي زارها فيه وأمرها بالرحيل من القرية بعدما دس صرة النقود بين ملابسها القليلة ،  تأخذه الرعشة كلما تذكر عرقها فوق يديه وفوق خده ، وتتملكه رجفة لم يجربها بعدها وثوبها يسقط تحت أقدامه ، وأنفاسها تلهب صدره ،كانت قد وضعت خط الكحل الأول فوق رأس " الخراج " أعلى جفنه  ، وعندما أرادت أن تمرره للمرة الثانية ، كانت  يده تعبث بمنبت  ظهرها  ،و عيناه مسمرتان على الشفتين الصغيرتين  ، يلاحظها يسقط مرود الكحل من بين أصابعها ، نظرة القطط في العينين الضيقتين تشجعه بأن يسبر أغوارها أكثر من لمس الفخذين الصلبين العاريين. 

 الحجة كانت داحضة أمام ربه عندما ينبش " سيف بن هاشل " غبار الأيام الماضية ، وبرهانه الذي يستدل به في الخفاء في أمر " سعيدة " كان واهيا ، لا ينكر أن عاد وسأل نفسه – وسيطل يسألها إلى أخر رمق – هل حبلت ؟ هل سيرى فتاة بعينين واسعتين تشبه عيون القطط المتنمرة ، كان شكه يصل نقطة اليقين من أن ماؤه يحرك حتى الأراضي القاحلة ، و"سعيدة " لم تكن أرض جرز وإنما امرأة ساحرة ، حتى تضع الرجال كحبات العقد حول عنقها ذلك ما ساوره وآمن به ، وهي وإن  لم تكن جميلة ولا مغرية ولكن كان لها عينا قطة متوحشة لها القدرة على الانقضاض على فريستها في سرعة البرق دون أن تترك جرحا طاهرا إلا الألم الذي يبقى مستوطنا في المرء كلما أتي عل ذكرها

بعد كل تلك السنوات يقر " سيف بن هاشل " أن "سعيدة"  لم تبدأ فعليا بالأمر الذي بعث الأرق في حياته طوال تلك السنوات ، وإنما إرادة الحاجة التي ألمت به حتى حقق حلم يقظة بأن يعتصر جسدا لدنا بين يديه في وقت كانت الوحدة تغزوه كانت حاضرة ومؤثرة ، تعادلت كفتا الظروف من جهتهما وغاب العقل الذي رجحه دائما ، تضافرت كل الظروف  حينما شكا من خراج نبت أعلى جفنه الأيمن وأخفى اتساع تلك العين وجعله يسهر طوال الليل ،ولم يجد إلا كحل " سعيدة "  للشفاء منه .

يشعر بالظمأ يحرق جوفه ، يلتجأ إلى كتاب " البرزنجي "  يشرق الأمل في نفس " " سيف بن هاشل " عندما يستظهر بتحريك شفتيه  ما سمعه عن أمه المعلمة " لهية بنت ساعد " وسطر  في كتاب البرزنجي  عن تلك المرأة اليهودية ، تعاوده الوسواس متتالية ، يقرأ من حفظ قلبه " ما رواه عبد الواحد بن إسماعيل من أنه كان بمصر رجل يصنع مولدا للنبي صلى عليه وسلم وكان إلى جانبه رجل يهودي فقالت زوجة اليهودي ما بال جارنا المسلم ينفق ملا جزيلا في مثل هذا الشهر؟  فقال لها زوجها إنه يزعم أن نبيه ولد فيه وهو يفعل ذلك فرحة به وكرامة له ولمولده ، قال : فسكنا ثم ناما ليلتهما فرأت امرأة اليهودي في المنام رجلا جميلا جليلا عليه مهابة وتبجيل ووقار ، فدخل بيت جارها المسلم وحوله جماعة من أصحابه وهم يبجلونه ويعظمونه فقالت لرجل منهم من هذا الرجل الجميل الوجه ؟ فقال لها هذا رسول الله صلى عليه وسلم ودخل هذا المنزل ليسلم على أهل البيت ويزورهم ، فقالت له هل يكلمني إذا كلمته ؟ ، فقال : نعم ، فأتت اليه وقالت : يا محمد ، فقال لها لبيك ، فقالت : هل تجيب لمثلي بالتلبية وأنا على غير دينك ومن أعدائك ؟!فقال لها والذي بعثني بالحق نبيا ما أجبت ندائك حتى علمت أن الله تعالى قد هداك" "2"

تتساقط الدموع بغزارة وهو يقبل الكتاب الأحمر أمامه

لم يهدأ الحركة في بيت " البرزنجي " حتى بعد انقضاء صلاة العشاء ، وقبل أن يدخل على الرجال أشار  " سيف بن هاشل " لزوجته ونبهها إلى تطييب غرفتهما باللبان الزكي الذي اختاره بنفسه وقرأ عليه فاتحة الكتاب مرارا وتكرارا

جلس  " خاطر ولد عثمان " في صدر مجلس الرجال وعن يمينه جلس " محمد " وعن يساره جلس " سيف بن هاشل " ومن ثم امتد صف الرجال في حلقة متسعة  وعندما رفع صوته معلنا بداية البرزنجي  بقوله " اللهم صلي وسلم وبارك عليه " أخذ النساء مكانا قصيا  وبدأ بعدها

السلام عليك    : طه يا طبيبي
السلام عليك   : يا مسك وطيب
السلام عليك   : يا ماحي الذنوب
السلام عليك     : يا عون الغريب
السلام عليك     : أحمد يا محمد
السلام عليك     : طه يا ممجد "3"

يعيد الرجال بنغم وراؤه المقطع عندها تتمتم " سليمة بنت خمسين " مع أصوات الرجال الصادحة ، تغمض عينيها تغيب  عن الوجود ، وتسبح في ملكوت بعيدة .

وبعد فترة يقرأ " محمد " 

   يا نبي سلام عليك        يا رسول سلام عليك
يا حبيب سلام عليك     صلوات الله عليك
أشرق البدر علينا        فاختفت من البدور
مثل حسنك ما رأينا       قط يا وجه السرور
                             أنت شمس أنت قمر أنت نور فوق نور
                             أنت أكسير وغالي          أنت مصباح الصدور  "4"

ولا تدري" زوينة بنت خلفان "  أي شعور داخلها  وهي تسمع صوت ابنها ، بالنسبة إليها ذلك الصوت لم يكن قد خلق لأهل الأرض بتاتا  ،  أوعزت إلي ابنها " علي " بأن يحمل بخور اللبان إلى جانب أخيه الغارق في تسابيح الكتاب الأحمر، فيما  اتسعت فجاج الدنيا في قلبها هي تجلس كملكة بين النساء ، سابقا  كانت تعلم أن صوت أبنها جميل وهو يتلو السور ويرتل محكم التنزيل  ولكنها لم تهتدي إلى المَلكة التي تؤهلها لأن تسمع الناس يبكون منه ، أطلق دموعها فرحا  ، رفعت عيناها إلى خالق البدر فوقها أن يحفظه ويحميه لها ،وينزل السكينة على هذا البيت ،  نظر " سيف بن هاشل " إلى القمر الجميل المعلق في سماء الكون ،شعر أن أمرا غير مألوف يغشى روحه ، ويرفعها إلى مكانة العابدين المخلصين  الذين أطالة المعلمة " لهية بنت ساعد " في الثناء عليهم ووصف خلالهم السامية ،   يرفع صوته مع "ولد خاطر " تارة ومع مع أبنه "  محمد " ، وفي لحظات هيامه يشعر أن القمر ينام في حضنه وأن نورا جديدا يغزوه ، ويلف بيته .

............................
1- البرزنجي هو اسم عادة للاحتفاء بالمولد النبوي الشريف
1،2،3،4، النصوص من كتاب مولود شرف الأنام ، الصادر عن مكتبة ، اشاعت الإسلام




قصص متنوعة

حب ....خرافة ....بحر
سأخون ذاكرتي
حكايتي اسمها مريم
القايمة
شيء من رمضان

بيت البرزنجي
سأخون ذاكرتي
حكايتي اسمها مريم
القايمة
الجدة فاطمة

الشعراء الدواوين القصائد

Powered by: kahf diwan Version 2.1.0 Copyright ©1999-2025 www.alkahf.net