 |
قسم قصص متنوعة موسم النذر |
موسم النذر (1) للمرة الثانية خذلني " ناصر بن عبدالله " ، كنت قد بكرت في حضوري الصباحي إلى المدرسة بحوالي النصف ساعة حتى أجلس إليه واستمع إلى بقية ما حدث معه ، ففي نهاية دوام الأمس قال لي بالعبارة الواضحة : - باكر يا أستاذ راح تعرف النهاية ،و نختم الحكاية . وانصرف ، لقد كانت الأحداث التي رواها قد أثارتْ فضولا في داخلي حتى بدأت أحفظ جدول مناوبته بين حراس المدرسة الثلاثة ، و في اليوم الذي لفت انتباهي فيه كانت السحب قد تكاثفت على قمم الجبال ، ناديتُ عليه ليساعدني في تغيير إطار سيارتي المعطوب وعندما حاذاني شمر عن ساعديه وسألني - صحيح يا أستاذ أنت من السويق ؟ هززت رأسي بالإيجاب دون أن ألتفت إليه - من الساحل ؟ التفت إليه وأنا أكمل إدخال عدة تغيير الإطار ، كانت قامته لا تتجاوز صدري ، ضئيل الجسد ،عيناه حادتان كعيون الجوارح التي تنتظر فريسة قريبة المنال ، يبدو أن هنالك اصفرار بين أسنانه الأمامية ، فيما عمامته البيضاء الصغيرة تستقر بطريقة منحنية فوق رأسه الخفيف الشعر - ترا بيني وبين البحر عمر كبير يا أستاذ . رددت عليه بعدم اكتراث كبير - بيني وبين البحر ما يزيد عن الثلاثة كيلو مترات . منذ ذلك اليوم وعلاقتي الفضولية به تزداد اتساعا ، في البداية كنتُ أكذب نفسي مدعيا أن تواجد " ناصر بن عبدالله " قريبا من كل مكان أكون فيه محض صدفة أو ضرورة عمل لا أكثر ، إلى أن وجدتُ في كراسة تحضير الدروس ورقة مطوية بعناية مكتوب فيها وبخط طفولي غير منتظم " عندي شيء لك ..............ناصر بن عبدالله " في نهاية ذلك اليوم المدرسي استضافني في غرفة الحراس ، جلستُ على السرير الضيق المواجه لساحة المدرسة والبوابة الرئيسية ، كنت استمتع بالهدوء الذي خلفه الطلاب ورائهم بعد أن حملوا ضوضائهم الكبيرة معهم ،وأمعن النظر في شجرة " الشريش " الممتدة بفروعها على مدى بصري ، تنحنح " ناصر بن عبدالله " مقدما لي حبات التمر والقهوة ـ معتدلا في جلسته وهو يقول : - سامحني يا أستاذ ، صدقني الكلام واقف في حلقي من أكثر من ثلاثين سنة ،وأول ما شفتك حسيت انك من ريحة البحر ،من الناس الذين يفهمون الكلام ، يمكن لأن البحر يعطي كل واحد يسكن قربه شيء من موجه ، عندي حق في كلامي يا أستاذ أو لا ؟ - عندك حق وأكثر . في طريق عودتي في ذلك اليوم إلى السويق كانت الشمس قد بدأتْ بالغروب ، بدا لي القرص الأحمر قابلا للانشقاق والتكوير في تلك اللحظة ، لساعتين أو أكثر تحدث " ناصر بن عبدالله " وفي مرات متباعدة كانت أساريره تنقبض فتأخذه الغصة أحيانا ، فيتجرع كأس الماء حتى الثمالة ، ويقول : - والله يا أستاذ بعد هذه السنين أريد أرتاح ، أحس بجبل على صدري . جبل أكبر من الجبل اللي تشوفه قدامك . ويشير بأصابعه القصيرة إلى قمة جبل تعانق ضبابية السماء التي بدأت تحتفل بأشعة الشمس العمودية والمنكسرة بحياء فوق الأحجار الثابتة منذ دهر غير محدد .
(2) أتذكر وأنا أسير بسيارتي فوق الطريق الإسفلتي الحديث الذي يربط السويق بالرستاق مخترقا "السيح " الواسع والعميق أن " ناصر بن عبدالله " في جلسته تلك كرر دون ملل كلمة "الحلم " بكل اشتقاقاتها ، وأني في المقابل كتبت الكلمة بتمهل و بحروف واضحة فوق الكتاب المدرسي الذي أحمله ومن ثم زينتها بزخارف صغيرة كلما أطرق هو متذكرا شيئا جديدا أو كلما أصاخ السمع لصوت يجيئه من المدرسة ، وفي النهاية استطعتُ أن أرتب ما قاله في ذهني " أحلم أنا ناصر بن عبدالله المعروفة أسرة أبيه بأسرة ولد السيح ، الرستاقي المولد ، والبالغ من العمر خمسون حولا ، أحلم بمحو أثر الدم المتقطع والممتد طولا من مشارف نيابة الحوقين في الرستاق إلى مشارف قرى الساحل من ولاية السويق . ورغم أن هذا الحلم تحديدا ولد في الأسبوع الأول من عودتنا المعروفة إلى البيت إلا إنه بقي في مرحلة الاحتضان في عقلي ما يقارب الثلاثين عاما ،ولم تند عنه حركة تذكر إلا ذات صباح عيد عندما لمست حجارة قبر أبي " استطعت صياغة ذلك في ذهني مستعينا بالتأكيد الذي قاله " ناصر بن عبدالله " بصوت هادئ : - في ذاك اليوم يا أستاذ حسيت أني ألحين راجع من السويق . وأن الدم بعده حار فوق تراب السيح . لدقائق وفي جلستنا تلك اتكأ " ناصر بن عبدالله " إلى جدار غرفة الحراس وقال في شبه غياب عني : - قبل الأربعين عاما أتذكر ذلك وكأنه حدث بالأمس . تلك العبارة التي بدأ بها " ناصر بن عبدالله " كلامه معي بعد أن تنهد . وبعدها بدأ يعد على أصابع يده - ما أعرف ، يمكن أكثر يا أستاذ ، الحساب عند رب الحساب . في اليوم التالي شعرتُ بوحدة غريبة تغزوني كنت أتذكر كل ما سمعته وكل تعليل توفه به " ناصر بن عبدالله " في جلستنا تلك ورغم أنه دار انفعالا شديدا عني وعاد مكررا أنه - دورت دايما وجه إنسان من أهل البحر حتى أقوله اللي صار ، يوم كنت صغير ما حد صدقني ، ويوم شفتك حسيت براحة . في الأيام التالية انتبذت مكانا قصيا عن زملائي في المدرسة ،وأخذت أدون على لسان " ناصر بن عبدالله " مقاطع مما قاله مستعينا بالقاموس الذهني للكلمات الذي اختزنت في ذهني منذ دراسة الجامعة " تداعى أبي وذرف الدموع لأيام طويلة ، كان بقي محتفظا بها حتى رجوعنا إلى الحوقين وبالرغم من أنه قبل ذلك وفي قلب الأعباء المرهقة وخلال الأيام القاسية وعندما كان لزاما علينا أن ندفن أمي في تربة أرض مالحة لم ترف عيناه بعلامة تأثر وإنما بقي صامدا وعنيدا ، لا يتكلم إلا بالكلمتين والثلاث ،وعند ضحى ذلك اليوم المشهود- اليوم الذي رجعنا فيه من سفر النذر - بانت لنا بيوت القرية أكثر صمتا مما تركناها عليه منذ ما يقارب الشهرين ، كان الخدر الذي طال خطواتنا في مسيرة الليل قد تلاشى ولم نشعر إلا ببرودة الحجارة وحدة حوافها على أقدامنا وعندما دخل أبي فناء الدار المتواضعة احتضن أمه دون مواربة أو خجل بينما بقيت هي كجذع نخلة فتية لم تتحرك حتى عندما علا صوت أبي بالنشيج وملأ المكان ، كان صوت سقوطه الأول تحت أقدام جدتي لأمي التي تجاهلته تماما وشرعت تقبل من بين دموعها أختي الصغيرة وتقول - تعالي أمي ، تعالى يا حبيبتي ، تعالي أمك بعدها حية ما ماتت . في يومها قدرت أن هذا الموقف أكبر المواقف التي هزت طفولة " ناصر بن عبدالله " ، إذ أنه وبعد أن استأذنني لإغلاق بوابة المدرسة عاد وتفاصيل الموقف تملأ رأسه كليا وقال : - لشهر مرضتُ وفي كل صبح كان أهلي يظنون أنهم راح يلقون جسد يابس .
(3) كان الغريب الذي أصبح يربطني بذلك الرجل أشبه ما يكون بذكرى منسوجة بإحكام في كل اتجاه ينظر إليه ، كنت أتلهف لرؤيته باستحياء حاولت إخماده بانصرافي الكلي إلى التدريس بينما شعرتُ أن عيون الحيوان الجارحة في وسط وجهه تلاقني بابتسامة اتسعتْ بعد كل لقاء بيننا ،ولخص هو علاقتنا بقوله - صار بينا سر يا أستاذ والسر أكبر من أخوة الدم و العشرة نفسها . في اليوم الذي استمعتُ إليه لأول مرة لم أعد رأسا إلى بيتي ، قطعتُ المسافة بهدوء إلى البحر، كان الشاطئ خاليا من الناس في وقت الظهيرة ، وأمواج البحر نائمة لم يزعجها الدوائر التي أحدثها الحجر الذي ألقيت به في وسطها . في بداية الأمر شعرتُ بالتورط الكبير مع ذلك الرجل الرستاقي ،إذ أن ما يحكيه كان يحملني عبء استماع جديد ، ومن بعده عبء تحليل واستنتاج ، وصياغة كل ما يحكيه في ذهني وفوق ذلك عبء ثالث وهو الوقوف أمام البحر والذي يقول فيه أبي : - البحر يضع علامات كقشور السمك على جسد من يديم النظر في عينيه . كنت قد أرحت رأسي من كل ذلك بعد أن امتهنت التدريس ، فالأيام تتكرر وليس هنالك من جديد ما دمنا محكومين بقانون الغروب والشروق والأكل والشرب، ومادمتُ قادرا على تلقين الطلاب أكاذيب كبيرة وأنا أبتسم كبطل حرر وطنه . سألتُ نفسي لمرا ت عديدة - ترى لماذا اختارني " ناصر بن عبدالله " ليحملني أحمالا فوق أحمالي ؟ هل لاحظ أن صمتي المطبوع في تصرفاتي خير دليل لمن سيأتمنه على المخاوف المزروعة في داخله منذ الصغر ؟، هل استرق السمع إلى مَن في المدرسة وعرف أنني غريب عن المنطقة وأن مكوثي هنا لن يستمر طويلا فأراد أن يلقى تعب السنوات الماضية في قلب رجل يعلم أن سنوات البعد بينهما أبار لا قرار لها للوصول إلى كلام منثور من لسان رجل كهل إلى أذني رجل عرف أنه ربما سيمارس طقوس أهل الساحل حين يغتسلون بماء البحر المالح مقسمين برؤوس أهلهم وأولادهم أن السر الذي سكن قلوبهم سيحملونه إلى قبورهم وان سالت في دربهم دماء الإغواء للبوح المطول واللذيذ .
(4) من بداية أول لقاء مطول بيننا جلس " عبدالله بن ناصر " كطالب مطيع كانت التفاتة العينين هما من بقي دليلا للتعبير عن انفعاله فيما اليدان مستريحتان وبتقاطع فوق صدره وجسده ساكن في مساحة فراغ لم يفارقها تقريبا ، قال لي "1" - اسمع من الأول يا أستاذ صالح ، كان خروجنا في بداية الأربعانيات ، وبعد شهر من زيارة الرجل السويقي لنا. بعد أن استمعتُ من أوائل أيام الخروج إلى أداء النذر ، كان كل حدث يقوله أعيد كتابته في كراس يبقى ساكنا بجانبي إلى أن يصمتْ " ناصر بن عبدالله " لبرهة عندها أعرف أن ضبابية ما تحجب الكلام في حلقه ، بعدها أنهض مودعا إياه بالتربيت على كتفه ، ومن أحداث بداية الرحلة التي سكنت كظل ثاني على حياة هذا الرجل كتبت " وعضد رحلتنا تلك أن أمي كانت آمنت أن البحر هو من سيشفيها كما منحها الأولاد سابقا ورغم أنها عادت بوجهة مصفر وعيون ذابلة و هي تمسك بطنها لإسكات الألم الذي استوطن بطنها منذ سنة قبل أيام قليلة من سفرنا بأدوية شعبية في يدها وقررت بقولها - أنا أحتاج أرتاح بس وأشرب هذا . إلا أن أبي كان قد عزم على التحرك في رحلة نذر كان قد قطعه على نفسه إلى البحر والى "قبر السايح " في السويق إذا حبلتْ أمي و أنه وجد تلك الأيام مواتية للرحلة التي أجلها إلى زمان قد طال كثيرا - تصدق يا أستاذ أتذكر أنا خرجنا من باب دارنا يوم الاثنين وقبل أن تخرج الشمس برأسها من ورا الجبال . كان أبي قد اكترى حمارا قويا ووضع في الخرج مئونة السفر التي قدرها بأسبوعين ذهابا مع مسيرة الأطفال وامرأة. رفع " ناصر بن عبدالله " يده المستريحة في حجره وقال - في الخرج الأول يا أستاذ وضعنا التمر والسمن والعسل والخبز الرقاق الذي لفته أمي في خرقة نظيفة وفي الخرج الثاني وضعنا القاشع ومعصورة السمك " المهياوة " والتي أهدانا لها الرجل السويقي ولم ننسى الماء بينما لفت أمي بعضا من ملابسنا في حزمة ووضعتها فوق رأسها . ابتسم بعدها " ناصر بن عبدالله " ابتسامة لم أراه يبتسم مثلها في فترات لقاءنا أبدا . في رأس صفحة دفتري سجلت ربما كانت اللحظة التي ابتسمت فيه "ناصر بن عبدالله " بمليء فكيه كانت إحدى تداعيات الطفولة التي احتفظ بها شيطانه " بن عيس "2" ، فنحن لا نبتسم كما يقول المجربون هنا إلا بإيعاز من ذلك الشيطان الصغير الذي يسكن داخلنا ، وأن هذا الشيطان يتقوقع داخلنا كلما كبرنا ولا يعود للظهور إلا إذا تعمقنا في استذكار طفولتنا .
(5) في صباح بارد تصورتُ وأنا أقطع أحد الأودية في الحوقين أسرة " عبدالله بن ناصر " ، المسافرة قال لي في أحدى جلستنا وهو يرسم في الهواء أشكالا مبهمة - مثل هذي الشكل كنا نسير . كان خيالي مسوقا بالصور التي صغتها على لسانه ومن أوهام الرموز التي ظل يخطها في الهواء حيث قال " كنا نسير كقافلة صغيرة تثير الغبار حولنا ، أبي يمسك رسن الحمار في المقدمة فيما أختي الصغيرة تتشبث في لهو طفولي برقبة الحمار خوفا من السقوط عن ظهره ، ونسير أنا وأمي خلفهما متناوبين في حمل أخي الذي أكمل الحولين قبل خروجنا ، سرنا طويلا تحت وقدة الشمس دون لحظة راحة إلا لتناول وجبة خفيفة من الطعام أو شرب جرعة ماء ، لم يكن أبي في الحقيقة صارما ولكنه اكتسب الصرامة من السيح وخوفه من أن نظل الطريق ولا نصل . - الغريب يا أستاذ أن أمي صارت غير لما طلعنا السفر . عندما تحل بشائر الليل كان أبي يوقد النار فيما أمي ترمي بجسدها المنهك على الأرض اليابسة كيفما اتفق ، كانت ساكنة على غير عادتها ، تضم جسد أخي الصغير إليها وترضعه بعد أن قررت أن تقطع فطامه حتى تعود إلى الحوقين ، فيما يبقى أبي وحده يغذي النار بالحطب ، كان خائفا ما قال لي من هجوم أي حيوان مفترس في الصحراء إذا نمنا - لما نرقد راح تاكلنا العيسان وذياب السيح .
(6) عند انتصاف ليلة البارحة ، جلستُ إلى أوراقي ، كان ضوء غرفة النوم يأتي خافتا ، وحركة زوجتي فوق السرير تبدو أكثر وضوحا من ذي قبل ، عدتُ إلى نفسي وكتبتُ في لقاءنا الثاني قال " ناصر بن عبدالله " : - الشيء الوحيد اللي كان يحسسني بالراحة في رحلة النذر ، أن أهلي كان مسافرين في الطريق من قبل . للحظة شعرتُ وأنا في سن العاشرة بالطمأنينة فأبي وأمي سارا على الدرب قبل هذه المرة برفقة الرجل السويقي وزوجته واللذان حضرا الى الحوقين لأداء نذر طلبا لعلاج بثور كثيرة ظهرت على يد الرجل ووصفت له تربة الأودية في الحوقين كعلاج وعندما شكت أمي لزوجة السويقي تأخر الحبل شجعتها المرأة الغريبة على السفر ا للبحر ، فالبحر كما قالت : - علاج من علل الانس والجن . و حكى لي أبي أن الرحلة مع الرجل السويقي وزوجته كانت أشبه بالحلم ، حيث روى لي ذات يوم قائلا - الرجل كان ابن جن ، كأنه يعرف موضع كل حبة رمل في السيح العود ، ويسمي كل شجرة باسمها . فيما أعادت أمي رواية تفاصيل الرحلة لجارتها أن الرجل السويقي أوكل أمرها الى امرأة منهم نسمى : المعلمة نصرى وأن المرأة قامت بإنزال أمي الى البحر والسير بها في عمق المياه الزرقاء الى أن وصل الماء الى فم أمي وأحست بالماء المالح يتسرب الى معدتها ومع أن رغبة كبيرة بالبكاء اجتاحتها من ملمس التربة الرخوة تحت أقدامها إلا أنها صمدت حتى وهي تحت أيدي المعلمة " نصرى " التي جربت معها زيوت مختلفة سواء بالمسح أو بالشرب . تركتُ القلم جانبا وفكرتْ أن الإشارات كلها تتجه إلى أن ما يعتمل في نفس " ناصر بن عبدالله يعود إلى أنه يعيش في مأزق الحياة - والذي يسميه سرا - في بيئتين مختلفتين ، كل منهما لا تمت بصلة للأخرى،وبذا فأن عقل " ناصر بن عبدالله " يُنصف إلى ذاكرتين ، ذاكرة في السويق وذاكرة في الحوقين ، وأن الزمان كلما سنحت له سانحة لينسيه شيئا مما حدث فأن " ناصر بن عبدالله " ذاته يعود بنصف ذاكرة أخرى ليعيش وبتصميم غريب ما أسر به البحر إلى السيح أو العكس . وبذلك يبقى في مأزق التذكر المستمر .
(7) هذا اليوم خذلني " ناصر بن عبدالله " ، للمرة الأولى لم يحضر إلى المدرسة ، وناب عنه أحد الحراس وعندما بادرته بالسؤال عنه ، قال وهو منصرف إلى عمله - مريض . كنت عالقا في تلك الأيام مع ذلك الرجل ، كنت أأطره في المدرسة وفي زاوية من غرفة الحراس حتى بت لا أعرف له جلسة غير جلسة التكور وتحديقه العين الجارحة ، لم أتصور أن للرجل امتداد طبيعي كغيره من البشر ، كدت أبتُ أن الرجل يحمل جبلا من السنوات لا تسمح له إلا بالحركة في أضيق الحدود وأن وجودنا معا كان عبارة عن إنزال صخرة بعد أخرى من ذلك الجبل حتى نصهره عن آخره ، ترى هل وصلنا إلى نقطة اكتشف فيها " ناصر بن عبدالله " بعد خروجي من عنده أنني رجل غريب وأن تلك المسائل لا يتحدث بها الرجال في الأساس أمام أي رجل مهما كانت درجة الراحة التي شعر بها اتجاهه ؟ أم أنه أحس أنه يكفي أن نصل بالسر إلى تلك المرحلة ومن بعده يترك للتراب الذي يواري الصدور بما فيها ، أتذكر أنه قال ذات يوم عرضا وفي تناقض غريب لما ذكره سابقا - الجبل راح يبقى على راسي وأنت لما تسمعني راح تتحرك حصاة وحدة بس من الجبل العود . لنفسي قرأتُ ما كتبته في المساء الفائت عن ما أخبرني به " ناصر بن عبدالله " في اليوم الرابع خف مشي قافلتنا الصغيرة ، كنا نسير بخطوات متقاربة ومتئدة حتى لا نبتعد كثيرا عن أمي التي أصبحت تسير أبطأ من الأيام الماضية في وقت أوكلت فيه أمر أخي الصغيرة إلي ومن ثم إلى أبي وعندما حانت من أبي التفاتة إليها كانت ما تزال تجاهد بالمسير بانحناءة ظهر واضحة ، عندها أمر أبي بالراحة تحت ظل إحدى الأشجار في ذلك اليوم رأيت خيط الدم - من يوم رجعنا وأنا أريد أدفن قطرات الدم . في ذلك اليوم بدأت بقع الدم تلوث تراب "السيح " ، الذي بان كطبقة رطبة في المكان الذي قامت منه أمي ، بقينا يومها نراوح ظل تلك الشجرة ونغير جلستنا بتغييره، ولم يسعفنا السيح الكبير إلا بوجود بدوي وزوجته يسوفان أمامهما قطيعا من الخرفان ، وعندما انزوت زوجة البدوي بأمي بمكان ناء عن مرمى نظر الرجال آخذة معها ما حلبته من الشياة لم تغير وجه أمي الذي أحاله نزف الدم إلى صفرة كبيرة ،عادت زوجة البدوي وقالت لأبي عبارتها - خليها تاكل لحم ، هذا راح يرجع صحتها . زاد أبي من حصة أمي من التمر والسمن وسار بهمة رجل تعلم من الجبال شيئا من الشدة ، موقنا أن كل معضلة ستحل عندما نصل إلى البحر .
(8) في الجلسة الثالثة عند " ناصر بن عبدالله " ، تبادلنا الأدوار كليا كنت أنا أدفعه دفعا إلى استكمال ما بدأه ، فيما أخذ هو يدور حول أسئلة كثيرة عن أهل السويق وعندما فاجأني بطلبه: - أستاذ إذا طلبت منك مرة توصلني السويق ، توصلني ؟ أشرت إلى عيني وقلت - من عيوني. ومن بعدها انفرجت أساريره وعاد للكلام وعدت معه للكتابة و استباحة الخوض في حياته "في الصباحات التالية كان أبي يقلد أصوات العصافير ،كان يقف كخشبة ممصوصة الحياة ، وقد رأيته بطرف عيني يثبت إناء مجوفا بعصا قصيرة مربوطة بخيط اقطعه من إزاره وعلى مسافة منه يجلس هو ممسكا بطرف الخيط في يده ،بعد أن نثر فتات الخبز تحت الإناء ، اقترب عصفور ، عصفوران من الفتات ، سحب الخيط وطارت العصافير ، زفر أبي بعمق ووضع رأسه بين يديه . وفي اليومين التاليين تغير الوضع تماما كانت أمي تتحامل على ظهر الحمار فيما سارت أختي المسافة المتبقية وعندما كنا نعلق أعيننا في عيني أبي نكاد أن نسمع نار شهيق الحرائر في جوفه ، كان يرد مشجعا لنا - الحوقين صارت بعيدة وأنا أشم ريحة البحر . كان خيط الدم يسير معنا ، حتى أصبحت أمي أضعف من أن تتكلم أو تسمع بكاء أخي الصغير كلما زحف إليها وهي متكومة على عظامها البارزة .
(9) طوال الطريق إلى السويق لم يغض " ناصر بن عبدالله " طرفه عن الطريق ، كان صمته يطول حتى أنسى تواجده معي في السيارة وبين كل فينة وأخرى يعود ويعلق - القار أكل قطرات الدم يا أستاذ .أكل خطواتنا وخطوات من قبلنا ومن بعدنا . - لما رجعنا كان الوالد رحمة الله عليه يسير بنا بعيد عن الخطوات التي جينا بها من الحوقين . - لما رجعنا كان القمر دليلنا ، وسرنا مشتاقين للحوقين وكأنا نسير على الريح . - تعرف يا أستاذ ؟ وعندما علقت عيني في عينيه عاد إلى الطريق - إحنا ما نذكر رحلة رجعتنا كثير . وما نذكر وين قبر الوالدة . عندما وصلت به إلى بيتي لم يدخل في جوفه إلا بعض اللقيمات رغم إلحاحي له ، وبقي متيقظا ليرى السويق والبحر ، وفي الوقت الذي وصلنا فيه إلى البحر ،أصر أن ينظر إليه من نافذة السيارة دون أن تطأ قدميه التراب الرطب . حكى بعدها "ناصر بن عبدالله " باقتضاب - لما وصلنا البحر ، أخذت حريم البحر جسد أمي ، وكفننه ولم يسمح لنا رؤيتها بعدها أبدا ، أمي مدفونة معكم يا أستاذ .
(10) بعد يومين من عودتي به من البحر ، جلس إلي " ناصر بن عبدالله" في باحة المدرسة ، مخالفا كل القواعد التي ذكرها لي سابقا وهو يستضيفني في غرفة الحراس - السر بعد يحتاج له مكان بلا آذان . وقال لي ما معناه قبل أن نصل إلى البحر بيوم ماتت أمي ، كان أبي قبل ذلك قد انتبذ بها تحت شجرة مواجهة لنا فيما ربط الحمار وأجلسنا تحت شجرة أخرى وقال مداريا وجهه عنا - شوف أخوانك زين ، راح نرجع . كان يساندها بوضع يده حولها ، فيما كانت هي تأن ودموع كثيرة تتحجر في عينيها .مدد جسدها تحت الظل وضرب ضربتين لليدين والوجه وأخذ يصلى بخشوع ، من وقتها سرنا وجسد أمي مربوط فوق ظهر الحمار ، كانت ليلة طويلة لم نسمع فيها إلا صوت أنفاسنا المتقطعة وبكاء أخي الصغير المتوجع بين فترة وأخرى ، كنا وكأننا نسير على جمر يحمى عليه كلما سرنا خطوة ، ، باتت أختي تقترب من الحمار كثيرا وتوازيه في لحظات شرودنا لتتحسس رأس أمي ، فيما نسينا أبي تماما ،في داخلي شعرت بفراغ لا ينتهي ، في الطريق جلستُ منكفأ على نفسي دون أن أبكي ، سار أسرتي مسافة ونسيتني ، ولم أشعر بالدنيا إلا عندما وضع أبي يده على رأسي شعرت بعدها أن هنالك شيء ما سقط مني في ذلك المكان الذي جلستُ فيه ، ولا أعرف ما هو ؟ كنا مسيرين في بقية الطريق ولم نعرف كيف سرنا وماذا حدث إلى أن وصلنا البحر . - تصدق أحس إنا كلنا قتلناها ، يا أستاذ ، كلنا قتلناها حتى أنا . لأن الحقيقة هي أننا كنا نوقن أنها لن تتحمل طول الطريق ووعورته ، كأننا كنا متفقين على عدم العودة بها ، كلنا تعاوننا عليها ، أبي الذي أصر على أداء نذره في وقت مرضها ،أنا الذي كنت قد ارتحت سنتها من ملاحقة عصاها المستمرة ، حتى أخي وأختي الصغيران كانا مصران على الانتهاء منها بكثرة طلباتهما وعبء حملهما ، كلنا لم نرحمها حتى الطريق والرياح ، كنا مصرين على الوصول بها إلى البحر لتموت غريبة بين أناس لم تعاشرهم ، أذكر أنها وقفت في منتصف الطريق الذي قطعناه وقالت بتعب حقيقي لا يخطؤه أي إنسان له قلب - تعبت كثير ، ردوني الحوقين ، أريد أموت في الحوقين بين أهلي . ولكننا شددنا على خطواتنا أكثر وسرنا بعيدين عنها لمسافة وكأننا نتركها وحيدة لقدرها ومعاناتها - حتى لما رجعنا الحوقين كان أبوي سيسير بنا بعيد عن قطرات دمها . شفت يا أستاذ ، كلنا شاركنا في موتها . (11) استدعاني المدير بعد أن أنهيت درسي في مكتبه وعندما جلستُ في المقعد المواجه له قال - كيف "ناصر بن عبدالله " معك ؟ وعندما لاحظ ارتباكي واستغرابي اتجاه السؤال ، بادر قائلا - لا تخف يا أستاذ صالح ، معروف من أن "ناصر بن عبدالله " يبقى صامتا في المدرسة ولا يتحدث مع الناس إلا في الأمور الضرورية جدا ، ولكنه عندما ينزوي إلى المعلمين الغرباء عن المنطقة يبدأ بالكلام . مرة أخرى واجهت تعليقه بالصمت وإظهار الانتباه إليه ،قام من على مكتبه وأضاف قائلا - يمكن لأنه يعيش وحده من سنين ؟!، كان يكلمك المعلم الذي كان قبلك عن سقوط أبيه من فوق الجبل ، ومن كان قبله عن جنون أخته ، عن ماذا كان يحدثك طيلة تلك الأيام ؟ وقفت في مواجهته وحككت ذقني قليلا وهممت بالقول - أستاذ - ما عليه يا أستاذ ، لا تعب نفسك ،" ناصر بن عبدالله " معروف من صغره أنه يخلط الأمور على بعضها انتظرت في الأيام التالية أن أنفرد ب" ناصر بن عبدالله " ليكمل لي ما وعدني بإكماله ، ولكنه خذلني أصبح يتحاشى النظر أو التواجد في المكان الذي أتواجد فيه ـ كان يردد منذ رجعنا من السويق - باكر ولو امتد بك العمر معنا راح تعرف أشياء وأشياء عن الواقف قدامك يا أستاذ . ______________________________________________________
1- الاربعانيات :- يقصد بها شهور ربيع الأول وربيع الثاني ، جمادى الأول ، جمادى الثاني . 2- بن عيس :- شيطان يعتقد أنه من يضحك ويبكي الأطفال في الشهور الأولى من حياتهم
|
|
|
| | |