 |
قسم قصص متنوعة خلف الوادي |
خلف الوادي
تجربتها الأولى معه يذكرها بأدق تفاصيلها -التي يذكر بها تجربة صالح معه- يذكر أنها وضعت في المجمر المتقد نارا لبانا ظفاريا طيب الرائحة و استعاذت في ترنيمتها القصيرة من حسد الحساد والحسادات ، قالت بصوت رخيم - " صليت بك عل النبي وعين الحساد عنك تعتمي ، صليت بك على الرسول وعين الحساد عنك تزول ، صليت بك من ذاك وذاك "
و يذكر أنه كان يبكي قبل تلك الصلاة المشفوعة بصوت الترنيمة وأنها أخذته وعرته وغسلت جسده بالصابون ثم ألبسته ملابس أخته وأعطته دميتها وعندما وضعته أمام المرآة الصغيرة قالت ترنيمتها باعتزاز كبير بابنها الذي أخذ الحُسن من بنات الأسرة ، ويتذكر أنها جربت ذلك لأكثر من مرة معه ، وأنه يومها كان قد جاوز العاشرة بقليل وكان صالح رجلا قد جاوز عشرين من عمره في تقدير أمه . و ليلة البارحة أضاف تجربة ثالثة الى التجربتين السابقتين حسم أمره وقرر النزول الى جوف الوادي وليس في يده خطام ناقة أو قيد بعير. ليس فيهما إلا منجل حاد .
وخلف الوادي تقع كثبان رمل ترابية و غير ثابتة وخلف تلال الرمل تقع بيوتهم ، ومن أقصى تلك البيوت جاء وحيدا يسعى ، داس أرض الوادي وطبع خطوته على مرتفعات ترابه وفي ذات وقت - من سيره الحثيث - خطر على قلبه كل ذي كبد رطبة مشى على هذه الأرض بعد أن ترك فجوة خطوة غطاها انزلاق الحبيبات الملساء من مكان أكثر ارتفاعا ، كما تمثل له الوادي في صورته الصباحية بهيا ورحبا وغير ذي عوج في اتصاله بلسان البحر من جهة واعتباره مثوى لأرواح الجن من جهة أخرى ، وفي بداية ونهاية كل الأمور تمثل له وجه صالح كوجه القمر الغائب عن سمائه هذه الليلة والغائب عن حضوره القوي والرائع في نفسه المشتاقة إليه .
تتطلع ذات اليمين وذات الشمال ، وجد الأشياء هاجعة في محيط الوادي ، حدد الجهات أكثر ورسم صور الموجودات الكبيرة في ذاكرته قبل أن تظهر له أشباحها في الظلمة ثم سمى - بهمس لم يجاوز شفاهه - الأشياء بالمسميات فذكر منها ، عين الوادي ، مرعى الحيوانات وعند نخل الوادي توقف ،شعر أنه رأى كل ذلك بإمعان من حفظ الأشياء بذاكرة الجسد وعندما هبت نسائم منتصف الليل على ظهره التفت للخلف و خال أن جنية الوادي تغني وترقص وقد أطربها الهدوء الساكن في زوايا المكان فخالجها شعور بأنها ملكة متوجة على كل المخلوقات هنا . وبصوت منخفض يشبه عادة ورثها من أمه قال:-
- بسم الله .
كبيرة وعميقة ومتسعة بحجم الخلاء الذي استشعره ومر به من فوق الوادي وأسفل منه . و ساعتئذ شعر بالبرد فعادت التساؤلات المقلقة والجارحة تملأ نفسه وتقض الهدوء الذي شعر به لحظة اتخاذه القرار بدخول الوادي في هذا الوقت ، هل تخلى عنه صالح ؟ ماذا قصد عندما وضع يده على يدها وتلمس أصبع الإبهام بضغطة منه ؟ هل هو يهدده أم يتحداه ؟ هل يثير غيرته أن يمهد لانتهاء علاقته به ؟. سار بخطوات متتابعة تنفض رمل الوادي من نعله وقف لحظة أمام نخل الوادي
ربط منجله في طرف حبل استخرجه من بين ثيابه ،تلمس جذع النخلة ، وعندما أحس بحركة الجذع بين أصابعه ،خاف وتذكر الجنية التي تستهويها النخل في مواسم الطلع فعادت كلمة أمه وكرر -بسم الله
بصوت أكثر عمقا وأكثر تأثرا بأمه من المرة الأولى .
سحب الحبل فتدلى المنجل الى أن وصل الى يده ، جز سعف النخيل بسرعة مربكة وترك عذوق التمر عارية أمام الظلام ، بعد لحظة لاحت له صورة المساء والرسالة الخفية التي أرسلها له " صالح " بأطراف أصابعه وبحسرة لم يجربها من قبل نظر الى النخل بعيني قط وأسر في نفسه
- دون السعف ستموت النخيل ، سيموت التمر .
شد المتاع المنجل ومنظر النخيل الذي فقد أطرافه الى ذاكرته ثم داس بخشونة - استنطقها تلك الليلة من الخَوَر الذي استوطن جسده –وحينما انزلق الى بطن الوادي مدفوعا من على تلاله سمع صوت احتكاك السعف بالأرض وللمرة الثالثة أراد استخدام كلمة أمه ولكن جنية الوادي ضحكت ، سمعها تضحك بجنون متزايد وهستيري وهو ينفض الرمل وما علق على ثوبه في جرف الوادي وعندما اعتدل بجسده رأى طيف والده ، و بالحرف الواحد قال له عبارته الى سرت الى جسده ثم تسربت الى الوادي وبقي صداها كعلامة دهر لا تنمحي
- لا تكن مثل عير قيد فانقاد . لكنه عاد فباع كل إبله قبل أن يموت وقال لأمه عبارة - المال العزيز على صاحبه لا يرثه إلا رجل . فهمت منها هي ما فهمت وغاب عنها ما غاب منها .
منذ سنوات كان قد شد خطام البعير والناقة بقوة على يده ووضع قيدهما قريبا من الشجر الكثيف في هذا المكان وأنزله الى جوف الوادي لثلاثة أيام ، رسم خريطة المرعى في الوادي أمامه وطلب إليه أن يثبت له أنه رجل يعتمد عليه وقادر على الاهتمام بالمال العزيز لتطمئن نفسه على ذريته وماله من بعد موته .
الآن في الظلمة الحالكة يتتبع أثار البعير الذي ند منه ويسمع حنين الناقة التي هامت بعيدا عن المرعى ، شعر بعد أن لامس الهواء وجه أن جنية الوادي تغني وترقص للجبن الذي استوطنه وشعر بصفعة أبيه كبيرة ومؤلمة وكأنه يعيدها مرارا وبذات النظرة على وجهه وعندما لم تشف الصفحة الأولى غليله أخذا سوطا وجلد كل عضو فيه ولولا صالح لكان قتله كما قالت أمه دائما وبعدها تعلم كيف يلتصق بصالح بشكل جيد ومتصل . قريبا من البيوت التي تقع خلف الوادي أراح السعف وجلس مقوسا كما كان في عمره الممتد منذ وفاة والده الى الآن ونظر الحجارة النائمة في جدار البيوت بنوم أصحابها ، تفحص غنيمة السعف ، استشعر في نفسه استقرار ، باستطاعته بعد يوميين أن يحيك ويبيع ويسعد صالح ويستعيده بنفس خط القرب الذي كان بينهما .
وتكاثفت صور المساء الفائت أكثر برزت يد صالح - كيد الجن والسحرة الذين تركهم يسخرون منه خلفه في الوادي- ، تبحث في تتلصص متعمد عن يدها ، و تذكر أنه قد مر شهر على تهديد صاحب نخل الوادي له بتقديم شكوى ضده إن رآه يقطع شيئا من سعفه ، وفي بيت صالح أطرق جسده بمحاذاة الأرض وهو يشكو له حاله ، في جلسته تكوم وأكثر و استعاد شكله المقوس بشكل أكثر اتقانا لم يجرأ أن يرفع نظره الى وجه صالح ولم يفكر لمجرد التفكير أن يذكر صالح بأمر علاقتهما وإحساسه أن هناك برد يجردها من الحرارة التي كانت تذكيها قال كلماته باختزال مبالغ فيه وكأنه يتقدم بضراعة مشفوعة بدمع كاد أن يغطي وجه الى صالح ، ولكنه تكور على داخله و بقي بين المصدق والمكذب وهو يرى صالح يطلب من زوجته مشاركتهم الجلسة ثم هو يقرب يده على الحصير باحثا في حنان واشتياق واضح عن يدها . يذكر ليلتها أنه اتخذ قرار كبيرا في حياته ونزل جوف الوادي .
في البيت وضع السعف في مكان يصله وجه الشمس دائما ، أدخل رأسه في باب غرفة أمه وجدها نائمة وقد أصبحت في حجم طفلة بعد أن تقدمت بها الأيام " حدق فيها ، غيرت هيئة نومها وتنفست بشدة ، نادت باسمه وهي نائمة وثم أعقبته بنداء اسم صالح ، كان صالح ما بينهما دائما ، وحتى بينه وبين أبيه وان أنسته السنين فانه لا ينسى أن صالح استرضاه – بعد ضرب أبيه له - بتقبيله في كل وجهه أمامه والدته وقدم له قطعة حلوى كبيرة واستمر يقبله حتى في غيابها وان انتقل لتقبيل أعضاء جديدة في جسده مع مرور الأيام .
بعد أيام أحصاها عددا ، لقي صالحا ، دنا منه وقرصه على خده أخبره بهمس جنية الوادي في ليالي اكتمال الأقمار
- اشتقت إليك !
اشتعلت النار بين جنابته ، دخل داره وابتسم برضا ، بلل سعف النخيل الجاف شرع يحيكه بتقوس يشمل الرقبة وانحناءة الظهر وضمور البطن ،فيما ترك الباب الرئيسي للبيت مواربا ، لحظتها رأى صورة وصوت صالح واضحين كقمر ولد جديدا .
|
|
|
| | |