• ×
الخميس 9 مايو 2024 |

متى سينتعل خبزنا الحافي ؟

0
0
1281
 
متى سينتعل خبزنا الحافي ؟
للكاتبة : نجاة الحجري


رأيت فيما يرى النائم رغيفا متأنقا ، حافيا ، ثملا مترنحا تحمله خطواته المتعثرة حيث أرادت ، حينا صوبي ، وحينا صوب لا شيء . ظهر من وراء مرايا الحلم شبح يجري في لهفة ، كأنه لن يدرك مبتغاه ؛ فاضطربت خطواته الباحثة تحت وطأة ذلك الشعور . اقترب الشبح ليرسم نفسه بعيني ، وأرتسم بعينيه ، كان صامتا ، ونظراته تتعثر في كل زاوية مظلمة ، أو لعله كان يتكلم بلغة حال العالم الأثيري بيننا دون فهمي لها . لكني كنت أتلقى كلماته _ على رغم قلتها _ كالوحي موجهة مع خطوط الضوء من عينيه إلى قلبي .

قالت عيناه بلهفة حائرة : أمرّ رغيف خبز حاف من هنا ؟
ــ أظن .
ــ ذاك خبزي الحافي .
ــ فأنت محمد شكري .
ــ هو أنا ، أو لعلي أنا هو !
ابتسمنا معا ابتسامة غير واعية ، كأن كلا منا أراد أن يشارك الآخر شيئا ما ، لكنه ليس الابتسامة ، بلا ريب !
ــ لقد انتعل رغيفك الحافي في زمن الأخطاء ، أما هذا الحافي المتأنق الذي مر ، فرغيف متمرد على تنانير الخبز اللافحة . انظر حولك إلى آلاف ( السندويشات ) الحافية : الشوارما ، والهمبرجر _الحلال ! _ والبيف برجر ، والسانتافيه الحار ، والزنجر ، وأحمد ، وخالد ، و...

كلها حافية ، لا لشيء إلا لحمى الحفاء المنتشرة ! لقد أعلنت كل منتجات الدقيق رغبتها في الخضوع لأرض الواقع الذي ما لامسته حتى بنعلها ، لتلامسه بخديها . قررت أن تنتعل التراب !

نظرتُ إلى شكري ، وقد ازورّت عيناه صوب الأطايب البائحة بنفسها رغم الغلاء ، ورغم (كنتاكي ) ، و(هارديز ) ، وكل المقاهي الراقية الساقية ، والمتشردة الباذلة ، قالت لي عيناه في انتشاء : تبدو شهية ؛ فهل لي بإحداها ؟
ــ إن كنت من محبي الدقيق المغمس بالتراب ؛ فلك هذا !
ــ التراب أصل الأرض ، وأصل الإنسان ؛ فلا بأس علي !

ــ وما أدراك ما أصل التراب الذي خلقت منه ؟ هل سبخة الوادي حيث تجتمع نفايات البيوت النفايات ، وتتحلل كيماويات ما أنزل الله بها من سلطان ، كرملة الصحراء المحصنة التي تغري أبناء بوش رغم الإرهاب والإرهابيين ؟
ثم _ يا كاتبي العزيز _ أيؤكل التراب !
ــ قليل من التراب لا يضر ، خاصة إذا كان أكثره لحما طريا !
ــ لن أقول : \" ما أسكر كثيره فقليله حرام \" ؛ حتى لا تنعتني ( السندويشات ) الثائرة على تنانيرها ، التي لولاها ما وجدت ، بالإرهابي الخرف ! لكني سأقول لك : إن ( الجنك فود ) مضرة بشهادة ضحايا الإرهاب أنفسهم ، فكيف بها وقد غمست في تراب (كاترينا )، أو سبخة (ناجازاكي )، أو رملة الصومال ، أو غبار القاهرة !
ــ يا صديقي ، أتيتُ من مكان بعيد جدا ، وبطني خال حتى من أحشائي ، أريد أن آكل !
ــ لا يغرنك تقلبهم في مرايا الحلم ، عليك بخبزك الحافي ، لقد أكلتُ منه رغم أن البائع أعطانيه في توتر واضطراب ، لكني به أدركتُ معنى أن تجوع ، وأن تشبع ، وأن تنتعل ، وأن تحفى خاصة حين بلغت زمن الأخطاء ، فلم أجد الخبز حافيا كما كان!
ــ أليس كتاب الإرهابيين يقول : \" فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه \" ؟
ــ احذر ؛ فأنت إرهابي !
ــ وأنت ؟
ــ حين تتضح الكلمة ، سأتضح أنا !
سكتنا معا ، ننظر في مرايا الحلم ، فلا نرانا ، ونرى آلاف (السندويشات ) ، والمعجنات الحافية تتزاحم لتمثل في صفحات المرايا التي صارت تتعمد إخفاءنا حتى حين نكون أمامها ، ولا تسمح انعكاساتها إلا بدقيق حاف يرتدي (البكيني) على شواطئ (كاليفورنيا)!
نظرتُ لضيفي ، فإذا به حزينا ، والخبز الحافي بين يديه حائرا ، قلتُ : ماذا يا صديقي ؟
ــ حين عجنتُ رغيفي الحافي الأول ، كنت لم أجد بدا لأعيش إلا في عجنه ؛ لأتخلص من ربقة الجوع ، واستعباد الامتلاء بلا شيء . خبزته على رغم أنه مر ، فج ، لم يستسغه الكثيرون الذين لم يروا في فجاجته إلا الفجاجة ، ولم ينظروا لأصل الدقيق الذي نشأت عنه تلك الفجاجة .
ــ أما أنا فلا أخفيك أني لا أهوى الدقيق حافيا ، لكني أكلته تحت وطأة كل ممنوع مرغوب ، لأحكم بنفسي على الطعم الممنوع !
ــ وهل استسغته ؟
ــ بالطبع لا ، وهل استسغت أنت مكوناته ، والمراحل التي صنعته ، لأستسيغه أنا ؟

كان شيئا كالمرارة تغرغرتُ بها ، تحملتُها لأجدك ، حتى وجدتك تصنعه في عيني ضائعة منصرفا عنها بكلك في غرفة عهر تفيض باللذة ، والأرغفة الحافية ، لا تستحضر فيها رغم ما فيها إلا ذاتك المفقودة التي أدركتَ مرارة فقدها في حقارة وجودها . أدركتُ أنك صنعته عامدا ، لأجدك في خطاه المتعثرة المظلمة على فجاجة الحقيقة والحفاء .
لكن _ يا كاتبي العزيز _ لم يعد الدقيق الحافي تعبيرا عن ذات قلقة محبوسة عن التساوق بين واقعها الداخلي المليء بالألم ، والمشاعر المتناقضة التي لا بد أن تتسالم معها لتكمل المسيرة بروح سوية ، وبين واقعها الخارجي الذي ينضح بالضياع والزيف والخداع والابتزاز . فقد أصبحت مكونات الدقيق الحمراء سلعة سلما يصعد عليه أرباب الأرغفة المتعفنة الذين لا يحتملون ضياع أموالهم ؛ فتاجروا بها ، وأجبروها على حفاء مصطنع باسم التحرر من عبودية الممنوع ، وتحرير الذات .

قد يبدو الممنوع شيئا مكروها ، لكن كيف نعيش بلا ممنوع يحمي حريتنا من المهووسين بالحرية الزائفة التي يفترسون باسمها كل خصوصية ومبدأ ، يا كاتبي العزيز ؟ إن الشجرة حين تغرس جذورها في الأرض في شيء كالقواعد ؛ فذلك لأنها أرادت أن تبقى ، أن تصمد . أتتصور _ يا كاتبي _ لو أن كل الأشجار تطير في الهواء حيث أرادت !
إذا كان الممنوع قد أوجد متزمتين ينهشون الناس بعقولهم الضحلة ، ويتألهون عليهم ، فقد أوجد أيضا مرتزقة يعرفون من أين يؤكل الرغيف باسم الثورة والتحرير !
انظر يا كاتبي ، كيف يؤكل الرغيف : نأكل الخبز الحافي المتعفن ، فيسري إلى دواخلنا فيتحد بشيء من هنا ، وشيء من هناك ، وفطرة مؤججة من رغيف عفن آخر ، وجوع مستبد . تنتج أمراض وأسقام عجيبة ، ويبدأ المريض المسكين بالتخبط ليبدأ رحلة من معاناة وألم وحرمان وجوع لا يشبع ؛ فتعدم روحه ، ويغرق في وحل من فقدان الذات تحت تأثير إدمان العفن ، كل عفن . يكبر بجرح يظل ينزف على رغم تطاول الزمن ، ويبدو في لحظات الحقيقة الحارقة منطقة مظلمة تستبد به ، فيفرغها في عجن خبز حاف كالذي عجنته _ يا كاتبي _ لتعيش !

نتيجة الكبت والتزمت مساوية دائما لنقيضها ، كما يتساوى وجع الفقر مع وجع الغنى في مشهد أعمق ، و صلة عزيزة الإدراك ، لا يبلغها إلا من يكابدها ، أو اجتهد أن يستحضر مكابدتها . كما يقول الرافعي : \" لرب عابد زاهد طاحت به كآبته فقذفته إلى النار كما تقذف بالفاجر لذاته ، فيلتقيان منها في غمرة واحدة . وإن كانا في العمل على طريقين متدابرين ... والنفس الغالية التي جاوزت قدرها ، كالنفس الجافية التي انحطت عن قدرها : كلتاهما على طرف يمين الشر وشماله \" .

وعلى رغم تكاثر الأرغفة الحافية العفنة المسخنة (ميكروويفيا) ، أينما وجهت ، وتوجهت ، ما زال الموجوعون بجوعها يرونها بعين الأول مرة ، كأنها هبة من السماء ، أخضعت حدود الأرض وأذابتها . لا غرابة ؛ فهي تمس منطقة خطيرة شائكة في النفس البشرية ، ولها امتدادات وانعكاسات وتداعيات أكبر من مشهدها الخاطف في التهام ذاك الرغيف الساخن . لو سرق من أحدهم مليون (دولار) مثلا ، ومن ثم استلب أحدهم منه نفسه معدا منه رغيفا ساخنا رغم إرادته ، أيهما أوجع ؟ لو سرق ماله فلن يبقى مأسورا ، مشوه الداخل ، رهينة لأزمة قد تجعله صغيرا دائما رغم هرم الأيام فيه ، على رغم أن للمال شهوة وسيطرة على النفس ! ولعل ( فرويد ) أدرك ذلك فبنى نظريته ، وإن كنت لا أرى كل ما يراه ، لكني أدرك خطر الحقيقة في أصلها .

أتظن أنهم يوم ضجت الدنيا بخبزك الحافي ، وباعوه في السوق السوداء _ بعد رفض الرمادية ! _ كانوا حريصين على البعد الآخر الذي كنت اجتهدت لإيصاله ، أم عازفين على وتر حساس في النفس البشرية بآلة ذات صوت نشاز ! إنه سعار الجوع ، حيث لا جوع إلا جوع المزيد ، وسيطرة اللذة المتمرغة بالتراب ، تلك اللذة التي ألذ ما فيها أنها تتجاوز كل شيء ، بما في هذا ( الكل شيء ) من قيم وأخلاق .

أتدري يا كاتبي العزيز لو كنا نقدم هذه الأرغفة الحافية لقوم متزنين رغم الجوع ، لربما كان غايتك من عجن رغيفك ستنصرف إلى الدقيق والتراب في تحليل لمكونات هذا الدقيق . لكننا لا نعاني أزمة حفاء بقدر ما نعاني أزمة خواء وفقدان ذات .

قاطعني مشهد ل(شوارما) متغنجة ، متأنقة حافية تتمرغ في التراب بصورة مجنونة حمقاء . نظرتُ إلى شكري لأجد عينيه تعانق عيني في اللحظة ذاتها لنتقاسم الدهشة ، ثم ابتسمتُ ، وقلت : \" لو كنتِ منا لحذوناك \" ! شعرت بالغيرة ، فرأت في حمى الحفاء سبيلا لنتحدث عنها هي أيضا ، وفي جنون المتشدقين من عاشقي (الجنك فود ) ملاذا لها ، ومن رداءة الدقيق _ وإن كان من أنقى حقول العالم _ ترابا تتمرغ به ! يا صديقي : متى سينتعل خبزنا الحافي ؟

فتحت عينيّ من شدة الانفعال ، ولا شكري ، لأرى الجريدة تحت رأسي : \"نفت ريم هلال _ الممثلة الشابة بطلة فيلم بنات وموتوسيكلات _ وجود أي دخل للاعتراضات الرقابية في تأجيل موعد عرض الفيلم ، مشيرة إلى أن الرقابة لم تعترض على مشهد واحد في الفيلم الذي يضم مشاهد ساخنة بالفعل \" !

تنهدتُ بحرقة : \" ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان \" !