لا أحسدك يا فيودور
08-25-2009 05:32 مساءً
0
3
1428
![]() | ![]() | |
لا أحسدك يا فيودور للكاتب : سليمان المعمري فيودور نستيرشوك يرغب في الحصول على كتب جديدة لقراءتها لأنه قرأ جميع الكتب الموجودة في مكتبته مرات عديدة .. قد يمكن اعتبار هذا أمرا عاديا جدا لو أن نستيرشوك هذا معروف لدينا كمفكر أو مثقف أو كاتب أو على الأقل \"دودة كتب\" كما يطلق عادةً على هواة القراءة .. لكن الأمر ليس كذلك البتة .. انه ليس سوى رجل أوكراني بسيط يعمل في شركة تأمين ، وما كان أحد ليسمع به لولا أنه لم ينم منذ عشرين عاما ! . يا لطيف ! .. نحن إن لم ينم الواحد منا مرتين في اليوم ، قبل الأكل وبعده ، سيثقب طبلة أذن العالم بصراخه وتذمُّره وتشكِّيه .. وهذا العجوز البالغ من العمر ثلاثة وستين عاما يؤكد أنه لا يشعر بتعب كبير من استيقاظه الدائم هذا .. والأطباء أصابتهم الحيرة من هذا الأمر تحديدا . النوم سنة من سنن الله في الكون .. والإنسان الطبيعي يقوى الصبر على الجوع والعطش مدة أطول من الصبر على قلة النوم .. لذا كان لا بد من النوم ، كما أنه لا بد من الصحو ، بلا إفراط ولا تفريط .. وإذا اختل توازن الكفة بن النوم واليقظة اختلت موازين الحياة السوية للبشر إلا أولئك الذين رحمهم ربي ، ومنهم صديقنا فيودور ... ورغم النوم وأهميته ، واليقظة وفوائدها إلا أن الناس مختلفون في مواقفهم منهما .. فمنهم من هو محايد ، النوم واليقظة عنده سيان ، وكأنهم يستحضرون بيت عمر الخيام \" فما أطال النوم عمرا ، ولا قصّر في الأعمار طول السهر\" .. ومن هم من هو متعصّب للنوم ، كفريد الدين العطار الذي يرى في منطقِ طيره أن البحث عن السعادة والاستغراق في النوم سيان .. ومثله يأمرنا الشاعر معروف الرصافي في بيته الشهير أن ننام ولا نستيقظ لأنه \" ما فاز إلا النُوَّم \" .. أما القسم الثالث فيرى أن النوم عدو لدود لأنك قد تدخل فيه ثم لا تجد بابا ولا دريشة لتخرج .. وهؤلاء يمثلهم الشاعر الفرنسي بودلير الذي يكتب في يومياته : \" فيما يختص بالنوم ، تلك المغامرة الكئيبة لكل ليلة ، كان يمكن القول إن الناس ينامون يوميا بجرأة غير معقولة ، لولا أننا نعرف أنها جرأة الجاهل بالخطر \" . قد يكون كلامك صحيحا يا صديقي بودلير .. ولكن صدقني إن خطر النوم لا يساوي شيئا أمام أخطار اليقظة .. يكفي فقط أن تعرف ( ومثلك يعرف ) أن الإنسان المستيقظ لا يحلم .. ولا تحدثني عن أحلام اليقظة فهذه لا يمكن مقارنتها بأحلام النوم أبدا .. فهي ( أحلام اليقظة ) في الأغلب أحلام واعية .. وحده الغياب عن الوعي الذي يتيحه النوم يحرر اللاوعي من أغلاله ، ويُنبِت للأحلام أجنحة لتطير كالعصافير ، لنرى أشياء جميلة ما كنا لنراها ونحن مستيقظون .. أنت نفسك يا بودلير كنت تتعاطى ما يغيبك عن الوعي لتحلم وتكتب .. أنسيت ؟! .. وحده فيودور المسكين لا يحلم .. ومن يدري ، لعل الأحلام التي رآها في السنوات الثلاث والأربعين الأولى من حياته كانت أجمل من أن يرى أحلاما أخرى بعدها .. ولعلها كانت كوابيس لدرجة أنها كانت السبب في قراره ( اللاواعي ) بعدم النوم مرة أخرى ! .. النسيان أيضا نعمة أخرى يُحرَمُها الصاحي ، لأن النوم وحده القادر على جعلك تنسى كل شيء .. النوم جدُّ مهم اذاً ، وهذا الأمر لم يخبرنا به الأطباء فقط ، بل حتى أبسط قواعد النحو في لغتنا العربية التي جعلت الفعل \" نام\" ، بمنتهى الدهاء ، فعلا لازما ، فيما جعلت الفعل \"أيقظ\" فعلا متعديا! . واذاً ، لديك الكثير لتفعله يا صديقي فيودور لتستغل هذه الساعات المجانية التي وهبكها الله .. صلِّ .. امشِ على الشاطئ .. تأمل البحر .. ابتكر طريقة لإحصاء النجوم .. غازل السماء ، وابعث رسائل حبك للقمر .. اذهب إلى المستشفيات وواسِ المرضى .. مارس الرياضة .. ولكن إياك إياك أن تتابع نشرات الأخبار .. إذا ما فعلت هذا الذي أقترحه عليك فانني واثق أنك ستعيش ما تبقى من عمرك سعيدا ، وسيكون شعارك في الحياة عبارة من كتاب أحسبه ضمن الكتب التي قرأتها أكثر من مرة في مكتبتك ، وهو رواية \" مزيفو النقود \" لأندريه جيد .. هذه العبارة تقول : \" منذ أن استيقظتُ أحببت أن أحتقر أولئك الذين ينامون \" . | ||
![]() | ![]() |