• ×
الجمعة 10 أكتوبر 2025 |

بعض السقوط عُلُوٌّ

0
0
1311
 
بعض السقوط عُلُوٌّ
للكاتب : سليمان المعمري
almamari2001@maktoob.com


\"العمر لحظة\" .. هكذا كتب يوسف السباعي ذاتَ يوم ..
وهكذا جسّد بطلُ هذه الكتابة هذه العبارة كأحسن ما يكون التجسيد .. مَنْ يتذكّر الآن من مريديه ومبغضيه على حد سواء غير تلك اللحظة الفارقة .. لكأنه ما عاش إلا ليصل لتلك اللحظة .. هامة منتصبة تسقط بشموخ .. سقوطه يدوّي فيسمعه كلُّ ذي أذن ، وكلُّ ذي عين يراه .. ثمة طفل يرقد الآن في قماطه الأبيض يناغي الأبدية .. ماذا فعل ؟! .. ماذا لم يفعل ؟! .. ماذا كان سيفعل ؟! .. بعض اللحظات من فرط إيغالها في الحضور تُغيّب الأسئلة .. لو أن عرّافا أنبأه أنه سيملأ الدنيا ويشغل الناس حيّاً ميتاً هل كانت سيصدق ؟.. الحبلُ المعقودُ جيداً أصدق أنباءً من الرصاص .. والهاتف النقال أصدق من الفيديو .. وسدنة اللغة عكفوا على البحث عن تعريف جديد للسقوط .. بعض السقوط عُلُوّ .. معظم العلوّ سقوط .. ما طار طير وارتفع .. مَنْ سيُنبئهم أنهم وقَعُوا قبل أن يقع .. هو يمشي في الشوارع الآن ، يوزع نظراتِه على أكشاك الباعة والمقاهي ، ويدخن سيجاره الكوبي الفاخر الذي أهداه إليه صديقُ جيفارا .. تمرُّ عليه امرأة عجوز سرق الدهر أسنانها فتنهره بحنانِ أمٍّ : لا تقرب هذا الجدار يا بنيّ .. ينظر إلى المنطقة الخضراء فيبتسم بسخرية : \"ما ضرّ لو أنها ازرقّتْ \" .. تغمزه الشمس بعينها ، والريح تمشّط شعره الأشيب .. يقترب منه ملثمان فيفصلان رأسه عن جسده فيعيده بيده ويقول هازئا : \"لستُ أنا .. لا أحب الموت في السر ّ\" .. ينكص الملثمان منكسَيْ الرأس إلى فرقتهما بحثاً عن رأس يرضى مغادرة جسد صاحبه سرّا .. جيفارا مات مُصاباً الخيانة .. صديق جيفارا مازال حيا ويقاوم المرض .. صديقُ صديقِ جيفارا لم يجلس في مقهى حسن عجمي حيّا ، وها هو ميتاً - يطلبُ من النادل قهوة عربية مُرّة .. يتوافد عليه بشر بسحنات مختلفة .. يسألونه : هل أنتَ جيفارا ؟ ، فيبتسم .. يهطل مطرٌ من السماء يبللهم فينعسون جميعا .. ينظر إلى الغيمة ويفكّر بهدوءِ .. تعبُرُه مشاهد غائرة في زمن بعيد ، وآخر قريب : طفلته التي يهدهدها ويربتُ على شعرها .. النهر الذي لا يمكن أن يسبحه مرتين هربا من الموت .. أصدقاء رآهم على مائدته ولكن لم يرهم في زنزانته .. جنود تعلو قسماتهم علامات الذعر يُفتّشون بالمصابيح عن قنبلة مندسّة في شعره المنكوش .. قاض عصبيّ يطرده من القاعة لاختراقه قاعدة عدم التنفّس .. هل قال في نفسه لحظتَها : \"العمرُ فيه حيواتٌ كثيرة ، ولكن ليس ثمة سوى موت واحد \" ؟!.. قليل من الشجاعة في مواجهة الموت يكفي لأنْ نحيا ، فما بالك بالكثير .. الجسد يفنى .. الروح تبقى محلقة في السماوات .. لم يمُتْ في السر ، ولكن أسراراً كثيرة حملها معه في رحلته الأبدية تلك .. الموتُ مبجّل ، ولكن لا ينبغي أن نفرح به .. من يَشْمتْ بميت فهو ميّت وان كان يزعم أنه حي ورئتُه تسرق هواءَ الطيبين .. لكلّ امرئ لحظته ، وهو عرف كيف يسرق تلك اللحظة .. نحن لم نتعلمّ مثله كيف نسرق لحظاتِنا من حياتِنا .. رأيتُ نظرتَه التي حدج بها الموتَ فتقهقر .. طوبى لمن يخجل منه الموت حين يراه .. طوبى لمن يعرف كيف يكتُبُ الحياةَ بالموت ..