• ×
الخميس 9 مايو 2024 |

مرة واحد برازيلي !

0
0
1219
 
مرة واحد برازيلي !
للكاتب : سليمان المعمري


ليس رونالدو ، ولا روبرتو كارلوس لكي أقطع عليكم الطريق من البداية .. ولا يظنُّنَ ظانٌّ أنني استبعدتُهما لأنني لستُ من مشجعي ريال مدريد ، أو لأنني - سَمَحَ الله - من المتعصبين لبرشلونة ، ذلك أنني سأستبعد رونالدينيو أيضا .. باختصار : سأستبعد كل لاعبي الكرة الذين يبدأون بسطاء وعفويين ، وينتهون وقد نفخهم الغرور والمال .. البرازيلي الذي سأكتب عنه هو رجل بسيط للغاية .. ولهذا السبب سأستبعد أيضا جورج أمادو وباولو كويلو رغم حبي الشديد لهما لأنهما ليسا بسيطَيْن ، على الأقل في تفكيرهما ، ولأن هذا الأوان ليس أوان الأدب بل أوان الرصاص .. والرصاص سريع ، تماما كسيارة ايرتون سينا التي قتلتْه قبل عدة سنوات ، ولذا سأستبعده هو الآخر ، لأنه مات ببساطة لا تليق بكونه غير بسيط .. سياسة هذه الكتابة تقتضي الحديث عن رجل بسيط يعيش ببساطة ويموت بمنتهى البساطة .. ومادمتُ ذكرتُ السياسة سأستبعد أيضا لويس ايناسيو لولا دا سيلفا ، ليس فقط لأنها (السياسة) العدوة اللدودة للبساطة ، ولكنْ أيضا لأنه ما زال حياً يرزق ، في حين أن الشاب الذي سأتكلم عنه لم يعد حيا .. والمفارقة المدهشة أن ما قتله هو محاولتُه أن يُرزق .. في البرازيل ، هذا البلد الفقير لا بد أن تُجيد ركل أي شيء أمامك إذا أردتَ أبواب الرزق أن تُفتح لك على مصاريعها ، وان كنتَ لا تُجيد فعليك بالسفر والبحث عن رزقك في مكان آخر .. هذا بالضبط ما فعله جان شارل دو مينيزيس حين شد الرحال إلى عاصمة الضباب .. ها أنا أذكر اسمه للمرة الأولى .. هل كان يعلم هذا الشاب الذي لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره أن المدينة التي سيضيئها بحكم مهنته ( كونه عامل كهرباء ) هي التي ستُهديه في النهاية عتمة أبدية !!

بدأت الحكاية في الثاني والعشرين من يوليو الماضي عندما غادر الشاب البرازيلي شقته الكائنة في تالس هيل جنوب لندن متوجها إلى عمله ..كان الرجل هادئا حين صعد القطار .. التقط صحيفة مجانية قبل أن يستقر في مقعده .. الرجل على ما يبدو أراد أن يقرأ في الصحيفة آخر أخبار اعتداءات اليوم السابق التي وقعت في لندن ولم تسفر عن ضحايا ، والتي جاءت بدورها بعد أسابيع فقط من الاعتداءات المماثلة التي أسفرت عن مقتل العشرات .. لا أدري إن كان دومينيزيس يعلم أنه كان مراقبا من قبل الشرطة المكلفة بالتحقيق في الهجمات لاشتباهها به ، غير أنني واثق أنه لم يكن على علم وهو يصعد القطار أن الضابط المكلف بمراقبته كان غائبا في تلك اللحظة ، الأمر الذي سيُطلق العنان لتصرفات الشرطة الفردية .. كانت سحنة الرجل وسمرتُه الواضحة إذن مسوّغا كافيا للشرطة المتواجدة في القطار لإطلاق سبع رصاصات متتالية في رأسه ! .. يا حفيظ ! .. هل كانوا يظنون أن رصاصة واحدة في الرأس غير كافية لقتل عامل كهرباء ؟! .. ولماذا كانت الثامنة في الكتف ؟! .. أتُراه وهو يحتضر هزَّ كتفه ساخراً من إسرافهم وعدم ادخارهم رصاصاتهم البيض لأيامهم السود ؟! .. أقول سحنته فقط ، لأن المسوّغات الأخرى التي ذكرتْها الشرطة ثبت ، وبالوثائق ، أنها غير صحيحة .. فبحسب شهادات الشهود وبيانات الشرطة التي بثتها شبكة ( اي تي ان ) التليفزيونية فان الشاب عاثر الحظ لم يثر الشبهات بقفزه من فوق حاجز البطاقات في محطة قطارات الأنفاق كما زُعِم سابقا .. كما بثت الشبكة صوراً تُظهر دومينيزيس وهو يرتدي سترة خفيفة وقت الحادث ، وليس لباسا سميكا يُمكن أن يُخفي متفجرات كما جاء في التقارير الأولية .

مات الرجل إذن بمنتهى البساطة كما عاش ببساطة .. ولن يعرف الآن ، هو الذي عاش حياته في الظل والهامش ، أن ما كان ينقصه لينتبه إليه العالم بأسره هو ميتة مجانية كتلك ! .. مُتْ تعترفْ بك الحياة .. هذه هي المسألة .. مضى إلى غربة اللحد ولم يَدُرْ بخلده أن صوره ستملأ الصحف والفضائيات ووكالات الأنباء ، وأنه سيكون موضوع مظاهرات عارمة أمام السفارة البريطانية في برازيليا ، وأن شرطة سكوتلانديارد العريقة ستُلاحق قضائيا بسببه! .. ولم يخطر بباله ربما أن يتلقى والده اتصالا هاتفيا من الرئيس البرازيلي شخصيا ليشرح له أن الحكومة البريطانية تقدمت باعتذار رسمي عن الحادث ووعدتْ بتقديم تعويضات للأسرة ! .

وأيم الله ، مليارات الدولارات لا تعوّض حياة إنسان ، لو كانوا يعلمون ! .