• ×
الجمعة 10 أكتوبر 2025 |

قراءة في قصيدة \"بائعة الخبز\" للشاعر أحمد مسلط

0
0
2639
 
قصيدة \"بائعة الخبز\" للشاعر العماني/ أحمد مسلط..
حوار مع زمن شامخ، وحاضر مستند على عكازه

رؤية/ خلفان الثاني



مساء الخبزوأعواد الثقاب وريحـــــــة الدخان
مساءٍ من جريدٍ يابسٍ أو من لظى جمرة
مساء المحلاج وأحجار الأثافي وسحنة العجـان
تذوب في ملح حبات الفقر وتزيدها سمرة
تفض الماء .. وتسترسل حكي وتعاود النسيـان
وكن يدينها قطعة سحاب وجادت بمطــــره


مدخل القصيدة:

- (مساء الخبز) ربما أرد الشاعر تحديد الزمن والموضوع في قالب واحد دل على قوة البداية مستخدما أسلوب الدهشة منذ الوهلة الأولى ولعلها أقرب الطرق للفت انتباه القارئ .

- تلاعب شاعرنا بالكلمات منذ البداية مما أعطى مدخل القصيدة بعداً جميلا وكان بإمكانه أن يقــــول: مساء الخير، لتعميم المساء بدل أن يلقي بالزمن والخبز على القارئ .

- استخدم الشاعر في البيتين الأول والثاني الطرق البدائية التي استخدمتها البائعة في القصيدة (كأعواد الثقاب، الجريد اليابس، المحلاج، أحجار الأثافي، سحنة العجان).

- الزمن تواجد بشكل كبير جدا في مناسبتين (المساء) ورحلة اشتعال (أعواد الثقاب، ريحة الدخان، لظى جمرة).

- لم تتضح البائعة في البيتين الأول والثاني إنما اكتفى بالتمهيد.. إلا أن ملامحها بدأت تظهر بصورة مبهمة في البيت الثالث وهذا أسلوب تشويقي جميل يضع علامة استفهام كبيرة.

- لماذا حاول الشاعر التكتم على هذه البائعة في أبياته الثلاثة ؟

- لماذا استخدم في بداية تعريفه بالبائعة الجانب الأهم (وكن يدينها)؟

- إستخدم الشاعر أسلوب البسيط الممتنع لإكمال المشهد التصويري وهذه الإدارة المتمكنة للكاميرا الحسيه لا يجيدها إلا شاعر بحجم أحمد مسلط فهو من خلال التقاطاته الرائعة يبحر بالقارئ لا بعمق القصيدة بل لذات المكان الذي أراد شاعرنا للبائعة أن تكون فيه وكأنه أي القارئ من سيشتري الخبز .

- أحجار الأثافي .. دلت على عدد الأحجار الثلاثة المستخدمة لتثبيت المحلاج وإشعال الجريد اليابس وهذا العدد خدم القصيدة بشكل كبير.


لعمرك يالعجوز اللي تسبل غصة الأجفـــان
تشرف هالوقار بشيبتك وتعاظـــم بقـــــدره
ياجدة .. يالسكيك ويا النخيل البايدة .. العوان
لعكـــــازك كـــــلامٍ لو أقوله يفضـــح العـــبرة
يهش وما يهش إلا يبــاس الأرض والأبـدان
تسندتي عليه وما تقوّس من الزمن ظهرة


في البيت الرابع اكتملت الصورة التي أرادها الشاعر لهذه البائعة (لعمرك يالعجوز) ولعل هذا الاكتمال تمهيدا لحوار مع الزمن والذي تحدث عنه بصفة (العجوز) وحتى يعطي الكمالية الحقيقية للنص ترك البيت الرابع وصفا تفصيليا للزمن العجوز أو البائعة العجوز أيا أرادها الشخص في تأويل المسمى (تسبل غصة الاجفان) (تشرف هالوقار بشيبتك) (تعاظم بقدره) وفي البيت الخامس تساءل الشاعر عن تاريخ غابر(يا النداء العاليه) دون الحصول على الإجـــــابة (يالسكيك) (يالنخيل) وفي وصفة للنخلة والتي تعد رمزاً للشموخ أراد ربط عمر البائعة بالنخلة التي تجردت من (الكرب) لكنها ظلت طويلة شامخة تتحدى الزمن وهذا ما أشار إليه في كلمة (عوّان) وحتى يؤكد الترابط بين الاثنين استخدم كلمة (العكاز) لبيان العمر وأيضا لتشبيه النخلة بعكاز العجوز الذي جاء في مناسبتين الأولى في الشطر الثاني من البيت الرابع والآخر في الشطر الأول من البيت الخامس ولعل هذا البيت بالتحديد أكد على أهمية العكاز بالنسبة للبائعة.

ـ ولو تمعنا النظر قليلا لأدركنا الصفة العمرية للنخلة (العوان) وللعجوز (العكاز) وهذا يرشدنا لسوال بسيط (لماذا لم يستخدم كلمة عصا؟) أرى بأن العكاز يعطي المعنى المرا د للعمر وهو أبلغ من كلمة (عصا) ذلك لأن الأخير يمكن حمله من كل الفئات العمرية إنما التعكز يعطي القارئ الدخول مباشرة في قياس العمر المتمثلة في التالي (النخلة العوّان، العجوز، العكاز)، وأرى أن الشاعر أراد دمج الشموخ بتصرف معقول لهذه الشخصية (تسندتي) (ما تقوس من الزمن ظهرة)..


من الليلة مسخت اللي يكون بداخلي إنسان
أكون أعمى بصيرة وأنـبش المرحـــوم في قبـــــره
كثر ما ربت بكتفي يوصيني ويقول أحيان
(يا ولدي الأرض مثل الفرض في باعه وفي شبره)
عليه الرحمة وباقي علي اللعنة أما كــان
وبور الطين يبقـــــــــــى بور ما تنبت بــه البـــذرة


في البيت السابع استدعى شخصية جديدة لا ندري من هي بالتحديد ولكننا نستطيع التأكيد بأنها قريبة تماما من قلب الشاعر وهذا ما أشرت إليه بأسلوب البسيط الممتنع
ففي هذا البيت أراد الانسلاخ أو التحول لشخص يتصرف بطريقة هلامية خارجة عن حدود العقل لا يتقبلها إلا هو (من الليلة مسخت اللي يكون بداخلي انسان) (أكون أعمى بصيرة) (أنبش المرحوم في قبره) هذه الصفة التي أرادها لنفسه تبين حالة الانفعال التي يمر بها الشاعر.

ــ نعود مرة أخرى إلى الشخصية الجديدة وقد وقفت طويلا محاولا تأويل اسم معين فقست من خلال اجتهادي البسيط أنه وضع مساحة شاسعة للتأويل دون الدخول مباشرة في المسمى وللقارئ الحرية في اختيار الاسم المقرب للشاعر وفي رأيي أن كلمة مرحوم لا تحكم باسم معين بل جعل الأمر مفتوحا للتأويل فالمرحوم قد يكون (الأب، العم، الجد.......).

ــ الشخصية قريبة جدا من ملامح العجوز.. استخدم جمل بينها (أنبش المرحوم في قبره) (ربت بكتفي) والربت كما هو متعارف وضع اليد على الكتف لتخفيف ألم لم يفصح عنه (يوصيني) لبيان أن الشخصية قريبة جدا من عمر البائعة إلا أنها نقيض عنها في الجنس .

ــ الجميل استخدامه للمرادفات (الأرض والفرض)، (الباع والشبر) والفرض حتى لا يضيع المعنى المراد به الفريضة فهناك فروض تستمر لخمس أوعشر دقائق تقريبا كفريضة الصلاة مثلا، إلا أن فريضة الصيام تستمر لشهر كامل وهذا ما أراده بالباع والشبر في وصف التمسك بالأرض.

ــ استخدم الشاعر العدد في مناسبتين رائعتين (أحجار الأثافي)، (الباع والشبر) وكلاهما يحكي عن موضوع مختلف.

ــ (عليه الرحمة)، (علي اللعنة) توضيح رائع جدا ومقدمه جميلة للشطر الثاني الذي قال فيه (وبور الطين يبقى بور ما تنبت به البذرة) وهذا البيت يذكرني بمثل عماني قديم يقول: النار ما تخلف إلا رماد، إذ لا توجد دلالة أفضل من هذه الدلالة لبيان ضعف وانهزامية الشاعر وانفعاله من أمر لم يذكره بالتحديد ولكنه أشار إليه في مواضع كثيرة.


كرهته من رغيف تعتذر من طحنـه الأسنان
وقف بين الشفاه وبين غرز الخيط والإبـــــرة
نعم بالصمت تتكوم وجوه ويضحك الذبــــان
مدام ان الحكي من ثقل دمـــه يقبل بدبره
شربتي كأس هالظلمه مرار وصرتي الربان
وصرتي صفحة منسية في ذاكـــــــــره مرة


ــ في البيت العاشر تزداد مرارة الشاعر وهو يعود إلى رغيف البائعة بأسلوب جديد ينعي فيه حالة الزمن الذي أوصله لهذا الحد (تعتذر من طحنه الأسنان).

أعجبني التقاطته الدقيقة في وقوف الرغيف بين الشفة، وهذا بحد ذاته معاناة أخرى دلت على رفض الشاعر كما أنه يعيدنا إلى كلمة \"كرهته\" التي جاءت في أول السطر.

ــ الالتقاطه الأخرى حين كرر الوقوف (بين غرز الخيط والإبرة) والحالة النفسية التي منعت تقبل الشاعر للرغيف وإطباق الشفة دليل آخر على عدم تقبله للرغيف رغم وجود ثغرة صغيرة في منتصف الشفاة المطبقة تشبه ثقب الإبرة.

ــ (شربتي كاس هالظلمه مرار).. لا أدري مرار بفتح الميم يقصد بها عدد مرات الشرب أم دليل مرارة ما بالكأس (جميل حين يفتح النص للتأويل).

ــ (صرتي الربان) لا أعلم لما وظّف هذه الجملة، أجدها لم تضف للنص شيئا جديدا، فهناك معنييان متباعدان في الوصف والكمية، فالظلمة تعطي وصف للأعمى لكنها لا تعطي صفة الربان، والكمية ما بالكأس لا يصنع ربانا.

ــ (صرتي صفحة منسية)، (ذاكرة مرة) و المرارة كانت حاضرة في كل بيت كتبه الشاعر بدءا من البيت التاسع وحتى الثاني عشر (الصمت)، (تتكوّم وجوه)، (يضحك الذبان) ومفرده الضحك تذكرني بمرارة أخرى لنفس الشاعر ولكن في قصيدة أخرى يقول فيها (وشياهنا تضحك من ثورة المرجل) ... عموما حين نستكمل البيت نجد أن المأساة والمرارة حاضرة في كل شيء (ثقل دم الحكي)، (يقبل بدبرة) والأدبار عكس الإقبال (كأس الظلمة)، (القربان)، (الصفحة المنسية)، وفي النهاية يكمل الشاعر قصيدته بالعودة لعود الثقاب والدخان والعرق والعجوز قائلا:

مساء عود الثقاب اللي رفض يتنفس الدخان
تبلل من عرق هذي العجوز ومات من قطره

خلاصة القراءة أن الشاعر طرح أكثر من موضوع:

ــ استخدم أسلوب المخاطب بكسر الطا، والمخاطب بفتح الطا هنا اسم نكرة (العجوز) وهي كثيرة في مجتمعنا.
ــ 1 إلى 3 ذكر فيه الآليات البدائية للبائعة.
ــ 4 إلى 6 التعريف بشخصية العجوز.
ــ 7 إلى 9 استحضار شخصية جديدة بعثها الشاعر من نهايات الموت إلى بداية الحياة.
ــ 10 إلى 11 عدم تقبل الشاعر لامتيازات الإنسان في وصفه للرغيف.
ــ البيت الأخير كان عودة إلى البائعة وأعواد الثقاب وبعبارة مختصرة العودة لذات الزمان والمكان.

وهذه القصيدة هي غيض من فيض وامتداد لقصائد تمتاز بالروعة والجمالية وهكذا هم المبدعون الذين أخذوا على عاتقهم التجديد، يأتون دائما بأروع وأجمل القصائد،
أتمنى أن أكون قد وفقت في إيصال قراءتي البسيطة بوضع المشرط في مكانه الصحيح أثناء تشريح جسد قصيدة (بائعة الخبز).