قراءة في قصيدة سالم السيفي (اضبارة وجع )
06-22-2009 05:09 مساءً
0
0
1749
![]() | ![]() | |
قراءة في قصيدة سالم السيفي (اضبارة وجع ) للكاتب : محمد الطويل اضبارة وجع \"وجع ممتد\" ف عروقي وادري إن الوجع حرّاق أنا في داخلي ميت ولا أنسى انك وجـدْتيني وجدتيني بعد ما كنت من جروحي عنا ينساق رماه الحظ في كفك لا جل عينك اخذتيني حفرتك في الصدر آية أرتلها سما وأحداق غريبة يا الألم كنتي فـ كل آية تخونيني كثر ما طاحت أوراق السنين وأورقت أوراق قريتك ما دريت وأنا بغيابي كم قريتيني ؟!! كذب لو قلت لك أني لوصلك ماني بمشتاق ألا والله أنا بحزني وشوقي في دواويني حسافة لا نزف جرحي ودمعٍ بالمحاجر راق خرافة صارت أوراقي من فراقك تواسيني طهر قلبي صدق حبي زهورٍ تنبت بأشواق تجي تسأل فكم مرة على أطرافك غرستيني أتوه بدفتر سنينك ألاقي هالغدر دفاق ألاقي دفترك حارس رغم انك نسيتيني حكاية ورقةٍ بيضا تشب وتحترق إخفاق على صدر السنين تمر تخط أكبر عناويني \"وجع ممتد\" ف عروقي وادري إن الفراق فراق أنا في داخلي ميت ولا أنسى انك ق ت ل ت ي ن ي ( النفس كالقضاء تبصر ولا تتكلم ) جبران خليل جبران . هي الحياة تدور رحاها في غيابات القدر وتبقى الأمكنة ذكرى مكان ، بينما يبقى الزمان ذكرى زمان .. هي الحياة لا نعلم ما يخفيه القدر خلف ستائر الأيام ولا جلباب السواد ينكشف لعلن ما يخفيه فالسرمدية في بعض الوقت أزلية كمن يقف على حافة الغرق ويسير باتجاهه والمارة من البشر يلقون عليه النصح واللوم لما أنت هنا دون أن يمدون إليه أيديهم لينقذوه ، وإن أنقذوه ركلوه بأرجلهم حتى الموت ليلقي نفس القدر الذي كان سيلقيه وهو بين براثن الغرق . هكذا حينما ينطق الوجع يصمت الكون ، وحينما تنهمر دموع العين تقف سحب السماء حائرة على بحيرة الذات ، وحينما يمتد الوجع من المدى إلى المدى وليس سوى الآه حديث له يبقى الأنين هو المتحدث الرسمي في كل الأوقات . ليت في الوجع فطام لسان حالنا هكذا يقول .. ليت فيه موعد انتهاء .. بل ليت فيه محطة استراحة تتظلل تحت سقفها قلوب صدئة .. أثخنتها الجراح النازفة .. قلوب لا تعرف من ألوان الكون سوى لون أسود ووحيد ، حينها نرى الوجوه وقد سئمت والإبتسام مؤلما . قبل إضبارة الوجع لسالم السيفي أعرج على بعض من قصيدة الأديب \" محمد الماغوط \" ( النعش ذو الغطاء البعيد ) : \" إنني أقف على حافة الجنون كما يقف الطفل على حافة النافذة : لا القمر في السماء ولا حبيبتي في السرير طفولتي بعيدة وكهولتي بعيدة وطني بعيد ومنفاي بعيد وأنا أهرول ذات اليمين وذات الشمال كنهر ضرير فقد مجراه في العاصفة \" . إنتهى . \" إضبارة وجع \" هي \" حكاية وجع \" لسالم السيفي الشاعر الجميل الذي يمتاز بالنزف الحاد والصريح ويعتلي هام الكلمة بإتقان ويتلاعب بالحرف كالرسام حينما يتلاعب بريشته .. يضع الألوان في مكانها وبعناية فائقة .. سالم السيفي صاحب الديوان الشعري النبطي \" ظلال \" يسكب في شعره جل المشاعر بأحاسيس الشاعر الذي تكتبه القصيدة ولا يكتبها ، وتأخذه القصيدة إلى حيث هي ، وتحمله تارة محلقاً في الفضاءات الفسيحة وتارة أخرى يتوه معها .. يمتزجان معاً ويذوبان معاً ، وحينما تلد القصيدة تكون مكتملة . هكذا عودنا سالم السيفي يجسد طقوس الحكاية حتى الاحتراف ثم يرويها لنا بأسلوب قد نظن أنه سهل ، والحقيقة أسلوبه يحتاج إلى تمرس في الولوج إليه لأن دائرته تبقى خطره ومحكمة الإغلاق . \" إضبارة وجع \" كتبها سالم لترسم حدود وتلغي حدود .. يسافر دون خوف من أفواه البنادق المسلطة عليه .. ويقف دون أن ترتعد فرائصه من الغد القادم ، لكن رغم ذلك يبقى الوجع ثيمة تلازمه . وجع ممتد هكذا نبدأ معاً من حيث البداية التي أرادها الشاعر : ( \" وجع ممتد \" ف عروقي وادري إن الوجع حراق أنا في داخلي ميت ولا انسى انك وجدتيني ) . مطلع القصيدة أتى بروح الاعتراف والمخاطبة .. اعتراف بالألم / الوجع الذي حدد مكانه الشاعر \" بالعروق \" وهي مجموعة الشرايين التي تسري فيها الدماء معترفاً أنه ليس سوى جسداً يسير على الأرض ، بينما في داخله إنسان ميت ، وهي حالة من الوصف للتعب الشديد والدائم .. وصف لحالة من الإرهاق . لكن رغم ذلك خاطب النص الوجه الآخر وهي الحبيبة / الأنثى بقوله : \" وجدتيني \" ليأتي هذا التأكيد على لسان الشاعر في البيت الذي يليه : ( وجدتيني بعدما كنت من جروحي عنا ينساق رماه الحظ في كفك ولا أنسى إنك وجدتيني ) نعم هي الأقدار ربما ، وربما هي الصدفة أن تجد تلك الأنثى هذا الرجل المتعب والمثخن بالجراح التي تأتي تباعاً ليكون هو في طريقها فتعلن إنقاذه وتمد يدها نحوه لتنتشله من التوهان ومن تلك الدائرة الخطرة ليحمل لها كل الامتنان مجسداً ذلك في البيت التالي: ( حفرتك في الصدر آية أرتلها سما وأحداق غريبه يا الألم كنتي فـ كل آيه تخونيني ) . إنه الاعتراف بالجميل وبداية فصل من الحياة جديد .. فصل مع أنثى قدمت له مشوار من العمر ممتد أدعت من بعدها له بالحب وبكثير من تفاصيل الغرام وسبقاقات الهوى المحموم .. أنثى سطرت له ملامح عهد جديد وكتبت على بابه أنه غرامها فصدقها .. ولأنه آمن بقدسية الحب وهب ذاته لها حتى تاهت الأحزان رويداً رويدا فكتب استغرابه في البيت مخاطباً الألم الذي حالو مراراً أن يتخلص منه فلم يستطع لكنه مع هذه الأنثى اختلفت مقاييس الحزن ( غريبة يا الألم ) ولا أعلم هل الشاعر مستغرباً كيف انقضى الألم أم هو مستغرباً من ذاته كيف تناست كل تلك الجراح والأوجاع رغم المحاولات .. لكنها تبقى الحقيقة المؤلمة باقية . حقيقة الجرح تبقى قائمة . نعم حينما نأتي على الأبيات التالية من القصيدة نجد أن الطهر الذي بقلب الشاعر قوبل بالنفاق لدى تلك الأنثى ، وأن الصدق الذي كان يتعاطاه ما هو إلا كذبة ملغومة لديها ، وأن ضحكاتها وكلامها المعسول في الهوى ليس سوى جرعات مهدئة لجرح سوف ينزف بعدما تتسع رقعته في قلب الشاعر من خلال نصه المتبقي . إنها الأنثى التي تجيد الخيانة وما أصعبها من خيانة ، بل هو الغدر الحقيقي حينما يطعنك بالظهر من كنت تظن أنه القريب الحبيب لديك : ( كثر ما طاحت أوراق السنين وأورقت أوراق قريتك ما دريت وأنا بغيابي كم قريتني ؟!! ) هي السنين يا سالم كم تسقط من أوراق العمر تباعاً ليظل مسلسل التساقط قائماً ومن الصعب أن نحصي تلك الأوراق فكيف وأنت ترسمها حلماً وردياً على وسائد الهدوء ، وأملاً يسافر بك إلى دنيا الجمال ، وشمساً تشرق في ذاتك كل يوم .. كيف حينما يكون الحال ذاك وتكتشف بعدها أن كل حلم تحول إلى كابوس ، وكل أمل أصبح مقطوع الرجاء ، والسحب الركامية تراكمت في تلك الذات فتاهت شمسك خلف الغيوم تحاصرها الغيوم . ولسان حال الشعر يقول ترى هل تذكرينني كما أذكرك ، هل تحلمين أن نكون معاً كما أحلمك ، هل تجسدين الحب في ذاتك بقداسة كما أقدسه في ذاتي ، هل وضعتي له ملامح وخارطة الطريق كما وضعت أنا له كل التفاصيل الدقيقة . كل ذلك وهو مخدر بالحب حتى أعلن شوقه : (كذب لو قلت لك إني لوصلك ماني بمشتاق ألا والله أنا بحزني وشوقي في دواويني ) . هو الإعتراف المؤكد لحبه ولشوقه الذي بلغ حده ولصبره الذي مل الصبر من صبره . إنه الحب الطاهر / النزف الدائم الذي لا يهدأ ولا تخمد ناره ، لكنها الخيانة ... لكنه الغدر ... لكنه الكذب .. لكنه الندم المتأخر بعد الاكتشاف المتأخر وهذا ما يعيدني إلى الشاعر الأنيق : \" نزار قباني \" حيث يقول : \" كفانا هراء .. فا أين الحقيبة .. أين الرداء ؟ .. لقد دنت اللحظة الفاصلة وعما قليل سيطوي المساء .. فصول علاقتنا الفاشلة .. \" ولنعود إلى \" وجع سالم أقصد إضبارة الوجع \" : ( حسافة لا نزف جرحي ودمع بالمحاجر راق خرافة صارت أوراقي من فراقك تواسيني ) . ربما هي العودة بالذات إلى الوراء ، بل إلى التفاصيل القديمة حيث تقيم الذكرى عندها . نعم حينما لا يبقى من الحب إلا كلمات مكتوبة ، وأوراق مبعثرة ومسودات في العشق لم تكتمل ، حينها تشتعل نار الذاكرة بتفاصيل أيام انقضت ، خاصة وأنها مرحلة كانت لدى الكاتب تتصف بالطهر لديه فإذا هي تقابله بوجه ملوث وبدموع التماسيح لتبقى مرحلة حاسمة مدججة بالألم الكبير . حكاية النهاية التي لم يختارها الشاعر ولا تمناها لتبقى الذكرى مرحلة جديدة ورحلة مع الأوراق جديدة وجرح كلما ظن أنه اندمل فإذا به يزداد اتساعاً . بعد كل هذا الامتداد من الوجع يعود الشاعر إلى نفسه وكأنه يلتقط أنفاسه مواسياً ذاته تارة ومخاطباً عن ظهر الغيب الحبيبة الخائنة تارة أخرى بقوله : ( طهر قلبي صدق حبي زهور تنبت بأشواق تجي تسأل فكم مرة على اطرافك غرستيني ) . ذاك الطهر لدى الشاعر صوره بالزهور التي تنبت بماء الشوق المتراكم / تتساءل تلك الزهور عن تلك الحبيبة أو من كان يظنها حبيبة ليبقى معلقاً معها بخيط من الأمل الكاذب انقطع مع امتداد الزمن . لتقى الذكرى ناقوس موجع كلما طرق الذاكرة ورغم حجم اتساع رقعة الجرح إلا أنه لازال يبحر في دفاتر السنين ليقرأ تلك الدفاتر على مهل هذه المرة .. ليجد بين الأوراق كثير من علامات الغدر لم يبصرها في حينها لأنه كان أعمى بالحب الزائف . ( أتوه بدفتر سنينك ألاقي ها الغدر دفاق آلاقي دفترك حارس رغم إنك نسيتيني ) . يا لقلبك المتعب .. يا لقلبك الأبيض .. يالقداسة الحب فبعد تلك الظروف والغدر والخيانة تبقى العودة للدفاتر قائمة . لتعيدني شخصياً هذه الجزئية من القصيدة إلى نص الشاعر / كمال الشناوي حيث يقول : \" أحببتها وظننت أن بقلــبها نبضاً كقلبي لا تقيده الضلـوع أحببتها فإذا بها قلب بلا نبض سراب خادع .. ضمأ وجــوع فتركتها لكن قلبي لم يـــزل طفلاً يعاوده الحنين إلى الرجوع\" لنعود إلى \" إضبارة وجع \" مع سالم السيفي في بيت لو كتب وحيداً لكفاه أن يكون قصيدة بأكملها ، بيت يختزل كل الحكاية : ( حكاية ورقة بيضا تشب وتحترق إخفاق على صدر السنين تمر تخط أكبر عناويني ). كل ذلك الفرح / الحزن / الضياع / الطهر / الزهور / الضفاف / الحارس / الدموع / الدفاتر / الأمنيات .. كل ذلك كانت حاضرة في هذا البيت وكأنه عمد على تجميع ما قد سبق ذكره لتبقى الحكاية تروي تفاصيل مؤلمة حقاً ولسان حال الشاعر يعود إلى البيت الأول مرتكزاً على نقطة البداية من حيث امتداد الوجع . ذاك الوجع الذي تمنى أن يكون في وقته لتكتب النهاية في وقتها ، لكنها كانت مؤجلة في رحلة الحب المتأرجح بين قلب نقي وقلب ملوث وفي معادلة غير موزونة فتمنى الشاعر بنصه أن يموت دون تلك الطعنات التي أصابته على حين غرة في الظهر ومن كان يظنها أنها القريبة التي ستداوي جراحه وتمسح أدمعه . إنه الوجع الذي يؤكد الشاعر وجوده في كل حين من خلال البيت الأخير من القصيدة : ( \" وجع ممتد \" ف عروقي وادري إن الفراق فراق أنا في داخلي ميت ولا أنسى إنك ق ت ل ت ي ن ي ) . هكذا أرادها الشاعر أن تكون النهاية بالموت البطيء والدليل حينما ذاب الشطر الأخير من البيت الأخير للقصيدة فأتى القتل مجزءاً وهي إشارة إلى الموت البطيء كمن يشهد موته بعيون مفتوحة . رحلة شاقة مع سالم السيفي أتعبتني بعد أن كنت أظن أنها سهلة فإذا بها حقاً متعبة والآن وأنا أحط النقطة الأخيرة أجدني أتنفس الصعداء فعذراً لشاعرنا إن ابتعدت في تأويلي وعذراً للقراء إن غابت خلف الغيوم شمس تلك التأويلات . ومثلما بدأنا بجبران ننتهي بجبران : ( ليس السكوت الذي يحدثه الملل كالسكوت الذي يوجده الألم ) . | ||
![]() | ![]() |