قراءة في ديوان محمد على الكندي ((فيض))
06-20-2009 01:41 مساءً
0
1
1681
كثر هم أولئك الذين امتزجت تجربتهم الشعرية والشعورية
الرؤية المتكونة في ظل الإيديولوجيا
* ارتباط الفن بالواقع .
آفاق-الشبيبة :
للكاتب : د. طالب المعمري
* فيض لمحمد على الكندي الواقع في ضمير الفن ؛ سحابات من الألم الملتزم .
كثر هم أولئك الذين امتزجت تجربتهم الشعرية والشعورية بالواقع ؛ إذ لا سبيل لديهم للفكاك من معايشته وخاصة إذا كان ذلك الواقع تعتصره عواصف الحزن والألم.
تمثل الأمة وضميرها الحي في نفس المبدع هاجسا دائما لتبني تلك القضايا ذات العلاقة بالمجتمع الذي يعيشه وعندها يبقى الهاجس الأوحد هو كيف يعالج تلك القضايا من خلال إبداعه؟ لتظل العلاقة حميمية بين الإبداع وقضايا المجتمع حتى يصبح المبدع حبيس تلك القضايا وهذا ما سيؤثر على إبداعه بشكل مباشر ، فقد أغرق نيرودا يوما في الانغماس في القضايا العامة حتى لامه بعض النقاد على ما أصاب عمله الأدبي من السطحية والمباشرة ، وعَقَّبَ نيرودا على ذلك بقوله: إن عديدا من شعراء العالم هم شعراء الغرف المغلقة الذين يرفضون فتح النوافذ للإطلاع على ما يجري خارجها ، في حين أن عليهم أن لا يكتفوا بفتح النوافذ بل أن يخرجوا من تلك النوافذ ويعيشوا مع الأنهار والحيوانات الأنيسة والمفترسة.
تمتزج عند الكندي الرؤيا بالواقع امتزاجا شديدا حتى يظهر ذلك الواقع بصورة مباشرة في قصائد الديوان الست الأولى ورغم ذلك الواقع المتشظي في ثنايا الديوان أجده يسميه (فيض) توحي الكلمة من الوهلة الأولى بمحتوى صوفي وأنا من الذين أفضل أن يكون عنوان الديوان دالا لما تحمله قصائده من دلالات ومعان.
اصطدمت منذ الوهلة الأولى بتلك المفارقة الحادة بين الظاهر الواقعي الذي يعانيه الديوان وبين العنوان الذي يمتحن معنى صوفيا بحتا ، ولكني حاولت تخفيف ذلك التباعد عندما أكملت قراءة الديوان إذ كان التقارب مع الحالة الصوفية ماثلا في في الاتحاد إلا إن العناصر التي يتحد بها الشاعر اتحاد الصوفي والتي كانت سبب فيوضه هو واقعه الذي كان يتشظى فيه إلى درجة التذاوب الخلاق الذي أصبح لديه تجربة باطنية ناتجة عن درجة من الوجد بذلك الواقع الذي أصبح سبب إلهامه.
يتجه الديوان في مجمله إلى بعث عدة رسائل موجهة لخطاب الأنثى في الغالب ، ولعل ذلك له ارتباط بكلمة فيض التي تصدر بها الديوان ؛ وليس في اعتقادي أن خطاب المرأة هنا مقصود لذاته فليس ثمة ما يشير إلى ذلك فالإبحار في صفحات الديوان تري أن التجربة التي يعايشها الشاعر هي التي يخاطبها وكأنها قد أصبحت محبوبته التي توحد معها توحد المتصوف ؛ وللمرأة في الخطاب الصوفي حظها الوافر ، إذ هي مصدر إلهام دائم بالنسبة للمتصوفة ؛ ومن هذا لا يمكن ارتباط العنوان بالتجربة الشعرية عند الكندي إلا من هذا الوجه.
يبدأ الديوان قصائده بـ(لا توقظي) أعطت كلمة لا كمفتتح للديوان الشعور بمقدار الكم الهائل من الرفض والتحدي ، والألم والحسرة في نفس الوقت وارتباطها بـ(توقظي) يزكي الشعور باليأس الذي تعانيه النفس لا أدري لماذا هذا المبتدأ الذي يوحي بالتوقف؟ بينما اعتاد الشعراء تصدير قصائدهم بما يوحي بالانطلاق لكن ثمة سبب مكبوت أراد الكندي أن يشير إليه هو مقدار الخنق الذي يمارس على من امتحن الواقع العربي وحاول رفضه.
لا تفتحي جرحي
فليس لجرح
قافيتي
دواء يستطاب
وليس بخافقي
برد الصبابة
في هذه القصيدة يرسم الكندي لوحات لمتتالية تلخص تجربته الشعرية والشعورية معا ؛ في اعتقادي أن الكندي يعاني كثيرا من واقع اصطدم به ولا يريد أحدا أن يوقظه مرة أخرى في ذلك الواقع ، لم يكن الكندي ليكتب شعرا بل أراد أن يحفر بشعره تجربة تلامس الواقع تجربة يمتزج فيها القول بالفعل والممارسة.
ومنحت أقلامي
دمي
إن الدماء
إذا
صفت
للفكر تصبح
حنجرا
حمما مذابة
ومن هذه التجربة التي يحاول أن يخط فصولها على صفحات الواقع باعثا أملا في التغيير ينفجر جرح الخوف من التصدي الأبدي لأعداء الكلمة الحرة ومن هنا تنطلق الآه الخائفة من التقييد والمنع.
وإذا تعبت
فلا عليك
لترحلي
فلقد تكورت العيون
ولم
يعد
للحرف
من أمل
ولا معنى
لمفتعل
البقاء
إذا منعتُ
من الكتابة.
تأتي قصائد الديوان لا توقظي ، أعوذ به ، ثوران الذبيح ، ماذا؟ ، نعم أبكي ، قصيدة للفجر ، إلى الكلمة الحرة ، قولي لهم ، إلى ابنتي الغالية \"جهاد\" ، لترسم نوع الخطاب الذي يتبناه الكندي ، ويظهر فيه تأثير الإيديولوجيا ماثلا للعيان فليس ما يمكن أن ينفي تبني الكندي لمبدأ الثورة على الواقع فهو ليس ذلك الرجل المهادن بل ذلك الثائر الذي يريد قلب كيان الكون ليصنع بشعره قنبلة تنفجر في وجه الواقع العربي الأليم بما يحمله من ضعف وهوان وتأخر وتقليد واجترار ، ومن هنا أشعر أن الإيديولوجيا المرتبطة بالواقع السياسي للأمة العربية يشغل باله فكوَّن لديه قاعدة من الاستسلام للقضية التي ترامت بين عناصر تجربته ؛ ومن هنا فإن الذات قد أصبحت رهينة المعتقد السابق الذي تعاني عدم المقدرة من تعديه ، وهذا في حد ذاته له إيجابياته من حيث امتزاج التجربة بالواقع المعاش ، وسلبياته التي قد تجعل العمل الفني مكرورا حول موضوع معين ؛ فتبقى الفكرة واحدة والكلمات متنوعة ومن هنا يضيق المعجم الشعري وتنحسر الأغراض لأن الإيديولوجيا المكونة للتجربة تفعل فعلها في التأثير المستمر نحو التزام الخط الوحيد لها.
تناقش كل تلك القصائد موضوعا واحدا هو ربما التعليل الوحيد لذلك التكرار وهو المعاناة الناتجة من الأوضاع السيئة التي تصنع تأثيرها الجنوني على الشاعر ؛ فكأنه يبكيها ويندبها بطرق مختلفة وأساليب متنوعة.
أورث الاهتمام بموضوع محدد قصائد المجموعة مباشرة في الخطاب ؛ فالخطاب المؤدلج بالواقع يضفي عليه الواقع السطحية في الطرح إذ القضايا ذات المعاناة اليومية لا يمكن لها أن تأخذ بعدا عميقا في التصوير الفني ، ومن هنا يضعف التصوير الفني في ثنايا القصائد وتنسلخ من الغموض الفني الذي يورث لذة النص بإعمال الفكر.
يلاقي هذا النوع من الشعر كما يتجلى عند الكندي قبولا شعبيا كبيرا ومن هنا فإن الكندي يسير في نفس الطريق الذي سار فيه كثير من الشعراء الذين كونوا قاعدة شعبية بمعايشة ما يعانيه المواطن العادي من هموم حياتية أو سياسية أو مشاعر إنسانية ؛ فهو في نفس الخط الذي سار عليه نزار قباني ، وأحمد مطر ومظفر النواب وسعيدة خاطر وغيرهم من الشعراء الذين أخذوا شهرة بين المتلقين بسبب الوضوح الفني والطرح الموضوعي لقضايا غالبا ما تشغل العامة وخاصة الشباب الذين تستهويهم مثل تلك الموضوعات وذلك الطرح ؛ كونهم يعيشون مرحلة التمرد الشبابي الذي يختار الثورة والحركة على التفكير والتعمق.
يحمل الديوان في طياته أنموذجان:
النموذج الأول: الشعر السياسي الثوري الساخط على أوضاع الأمة والذي يعانيه الكندي أشد المعاناة والذي امتزج فيه الألم باليأس بالأمل ؛ فنفس الشاعر القلقة أثرت على نوع التجربة الشعورية لديه ؛ فالألم يعتصر قلبه ؛ كما في قصيدة ماذا؟ يظهر ذلك الألم القاسي الذي يعاني منه:
(1)
ماذا..
إذا انتصف النهار
ولم تجد في قامتيك
سوى
انهيار؟
(2)
ماذا ستفعل حينها
ويديك يملؤها السخاء
بألف
وعد ... من غبار...؟
وهذه القصيدة رقم الكندي مقاطعها من 1-10 في كل مقطع ألم جديد وكأنها بكائية تعدد الآلام التي يعانيها الشاعر ، لكنها في نهايتها تنفرج عن الحل الوحيد لدى الشاعر وهو الثورة.
هلا انتظرت
فما يمين في الحياة
مشابه
لهوى اليسار
ولم التمدد في الخيال
وأنت تمتلك الخيار؟
في قصيدة للفجر يظهر اليأس الجارف الذي يظهر من الواقع الذي يزداد أسى وحسرة ويظهر فيه الكندي في قمة الإحباط. ونبقى
لنشقى
نعاود قطع المسافات
كي تستحيل
صباحا جميلا
فلا تستحيل
سوى الموت شوقا
ونقتل في النفس
ما تشتهيه
فتغتالنا
أمنيات النهار
وتنشق ليلا عذابا وعشقا.
لينتهي به الأمر إلى الاستسلام:
فندرك أنا
ومهما انتصرنا
فلا الخوف ... يمضي
ولا نحن .... نبقى
ربما تذكرنا هذه النهاية بالصمت الأبدي عند البياتي الذي ورثه بعد طول نضال ومعاناة لواقع لم يستطع أن يمس فيه شيئا رغم امتحانه في غالب شعره.
ورغم ذلك فإن للأمل مكانا بين شباك الألم واليأس المنتشرة ؛ ففي قصيدة نعم أبكي نجد الأمل بالنصر ماثلا في نهاية القصيدة ، رغم ما يحمله عنوان القصيدة من مفارقة مع مختتمها يتجلى في أن البكاء ليس مناسبا للنصر ، لكن ربما البكاء المعبر عن شدة السعادة.
ألا .. تبتسمي فرحا؟!
غدا ألقاك .... خلف عنابر
الأبطال ... منتصرا
وخلف حدائق السكر
فلا تتعقبي دمي
ولا تتوسدي كفيك باكية
ومطرقة
لأن غدا سيحملنا
جميعا
نحو ساحتنا
مدائننا
قرى عاشت ولم تقهر
وحيث مآذن .... الإسلام باقية
تعانق ... نفحة المنبر.
النموذج الثاني: نموذج عاطفي ولعله مساحة للترويح عن النفس وإن كان من وجهة نظري مرتبط بالنموذج الأول ؛ فقد اختار الشاعر مناجاة المرأة فيه ؛ وهنا عودة للأصل الذي ينتمي له الإنسان متمثلا في المرأة الأم والزوجة والبنت والمحبوبة ، وقد اتخذ الشعراء المرأة وفق تصوراتهم رمزا لمعان كثيرة ؛ إلا إنها مثلت عند كثيرين الأصل الذي يحني له الإنسان هامته ليخفف من خلاله معاناة الحياة ؛ فالقصائد:
أعيديني ، إبحار، غربة ، قولي لهم ، الهارب المشتاق ، برود السؤال ، حدثيني ؛ كلها يدور موضوعها حول الشكوى للمحبوبة من غربة الزمان ، وما أستطيع أن أقدمه من تفسير لمثل هذه الظاهرة عند الذين مارسوا الشعر السياسي الملتزم أن اليأس في التغيير السياسي الذي كانوا يتمنونه لم يتحقق لما لقوى الشر والطغيان من تأثير على الواقع ؛ فألجأهم اليأس من التغيير إلى الارتماء في حضن المرأة يبثون الشكوى من أجل التخفيف من حجم المعاناة التي يحملونها ؛ وفي حقيقة الأمر أن المرأة من وجهة نظري ترمز إلى الأصل الذي احتضن الإنسان أول مرة وسمع شكواه وخفف من معاناته ؛ فلا حضن في الوجود يساويه ، ومن هنا وعلى مر العصور ضل للمرأة حضورها الحاشد في الشعر، هذا الملمح يظهر جليا في قصيدة أعيدني ؛ وكأن الشاعر يبدي ملله من الواقع الذي عاناه طويلا وها هو يستنجد بمن خاطبها طويلا ليوصل عن طريقها فكرة الثورة على الواقع لتنتشله هي من الواقع مرة أخرى منشدا الخلاص من طريقها ؛ يقول:
أعيدني
إلى عينك .. كالتفاح والتين
كريح
الشوق
حين هواك ..
تهديني
وهكذا يستمر الطلب من الشاعر بطلب العودة لأن ما كان يعانيه قد حمله على البعد عن أشياء جميلة في حياته يتطلع للعودة لها من جديد.
أعيدني
إلى
الأشجار عصفورا
وللأنهار ... ملاحا
وللحارات.....
أمواجا من
الطين
أثرت التجربة الشعورية على التجربة الشعرية بصورة مباشرة في المجموعة الشعرية للكندي ، فظهر الاهتمام بممارسة دور المصلح الاجتماعي هذا بدوره أدى إلى ضعف في المستوى الفني كما هو الحال في الشعر الملتزم من حيث تنوع الأساليب والصورة الفنية التي تكاد تكون معدومة في الديوان وانعدام تقنيات حديثة هامة في الشعر المعاصر كالرمز والقناع والتناص ، لا يحمل الديوان سوى تناص أسمي مع المتنبي ، فالقصيدة تحمل سمة الفخر التي وظفها الكندي للاعتداد بتجربته من خلال الفخر عند المتنبي في قصيدة الدموع الغوالي وهذه القصيدة نوع من المعارضات الشعرية فحسب ولم يكن لاستحضار شخصية المتنبي أي دور فني سوى عقد مقارنة بين تجربة الشاعر وتجربة المتبني.
التجربة بشكل عام جيدة لن نعيب عليها التزامها الموضوعي ، فلسنا ممن نقصي الفن عن الواقع إلا إن البنية الفنية بحاجة إلى صقل أكبر فليس بالضرورة أن يتخلى الشعر عن تقنياته الفنية عند معايشته الواقع ، وإنما الأديب المبدع هو الذي يستطيع امتحان الجهتين معا. .
الرؤية المتكونة في ظل الإيديولوجيا
* ارتباط الفن بالواقع .
آفاق-الشبيبة :
للكاتب : د. طالب المعمري
* فيض لمحمد على الكندي الواقع في ضمير الفن ؛ سحابات من الألم الملتزم .
كثر هم أولئك الذين امتزجت تجربتهم الشعرية والشعورية بالواقع ؛ إذ لا سبيل لديهم للفكاك من معايشته وخاصة إذا كان ذلك الواقع تعتصره عواصف الحزن والألم.
تمثل الأمة وضميرها الحي في نفس المبدع هاجسا دائما لتبني تلك القضايا ذات العلاقة بالمجتمع الذي يعيشه وعندها يبقى الهاجس الأوحد هو كيف يعالج تلك القضايا من خلال إبداعه؟ لتظل العلاقة حميمية بين الإبداع وقضايا المجتمع حتى يصبح المبدع حبيس تلك القضايا وهذا ما سيؤثر على إبداعه بشكل مباشر ، فقد أغرق نيرودا يوما في الانغماس في القضايا العامة حتى لامه بعض النقاد على ما أصاب عمله الأدبي من السطحية والمباشرة ، وعَقَّبَ نيرودا على ذلك بقوله: إن عديدا من شعراء العالم هم شعراء الغرف المغلقة الذين يرفضون فتح النوافذ للإطلاع على ما يجري خارجها ، في حين أن عليهم أن لا يكتفوا بفتح النوافذ بل أن يخرجوا من تلك النوافذ ويعيشوا مع الأنهار والحيوانات الأنيسة والمفترسة.
تمتزج عند الكندي الرؤيا بالواقع امتزاجا شديدا حتى يظهر ذلك الواقع بصورة مباشرة في قصائد الديوان الست الأولى ورغم ذلك الواقع المتشظي في ثنايا الديوان أجده يسميه (فيض) توحي الكلمة من الوهلة الأولى بمحتوى صوفي وأنا من الذين أفضل أن يكون عنوان الديوان دالا لما تحمله قصائده من دلالات ومعان.
اصطدمت منذ الوهلة الأولى بتلك المفارقة الحادة بين الظاهر الواقعي الذي يعانيه الديوان وبين العنوان الذي يمتحن معنى صوفيا بحتا ، ولكني حاولت تخفيف ذلك التباعد عندما أكملت قراءة الديوان إذ كان التقارب مع الحالة الصوفية ماثلا في في الاتحاد إلا إن العناصر التي يتحد بها الشاعر اتحاد الصوفي والتي كانت سبب فيوضه هو واقعه الذي كان يتشظى فيه إلى درجة التذاوب الخلاق الذي أصبح لديه تجربة باطنية ناتجة عن درجة من الوجد بذلك الواقع الذي أصبح سبب إلهامه.
يتجه الديوان في مجمله إلى بعث عدة رسائل موجهة لخطاب الأنثى في الغالب ، ولعل ذلك له ارتباط بكلمة فيض التي تصدر بها الديوان ؛ وليس في اعتقادي أن خطاب المرأة هنا مقصود لذاته فليس ثمة ما يشير إلى ذلك فالإبحار في صفحات الديوان تري أن التجربة التي يعايشها الشاعر هي التي يخاطبها وكأنها قد أصبحت محبوبته التي توحد معها توحد المتصوف ؛ وللمرأة في الخطاب الصوفي حظها الوافر ، إذ هي مصدر إلهام دائم بالنسبة للمتصوفة ؛ ومن هذا لا يمكن ارتباط العنوان بالتجربة الشعرية عند الكندي إلا من هذا الوجه.
يبدأ الديوان قصائده بـ(لا توقظي) أعطت كلمة لا كمفتتح للديوان الشعور بمقدار الكم الهائل من الرفض والتحدي ، والألم والحسرة في نفس الوقت وارتباطها بـ(توقظي) يزكي الشعور باليأس الذي تعانيه النفس لا أدري لماذا هذا المبتدأ الذي يوحي بالتوقف؟ بينما اعتاد الشعراء تصدير قصائدهم بما يوحي بالانطلاق لكن ثمة سبب مكبوت أراد الكندي أن يشير إليه هو مقدار الخنق الذي يمارس على من امتحن الواقع العربي وحاول رفضه.
لا تفتحي جرحي
فليس لجرح
قافيتي
دواء يستطاب
وليس بخافقي
برد الصبابة
في هذه القصيدة يرسم الكندي لوحات لمتتالية تلخص تجربته الشعرية والشعورية معا ؛ في اعتقادي أن الكندي يعاني كثيرا من واقع اصطدم به ولا يريد أحدا أن يوقظه مرة أخرى في ذلك الواقع ، لم يكن الكندي ليكتب شعرا بل أراد أن يحفر بشعره تجربة تلامس الواقع تجربة يمتزج فيها القول بالفعل والممارسة.
ومنحت أقلامي
دمي
إن الدماء
إذا
صفت
للفكر تصبح
حنجرا
حمما مذابة
ومن هذه التجربة التي يحاول أن يخط فصولها على صفحات الواقع باعثا أملا في التغيير ينفجر جرح الخوف من التصدي الأبدي لأعداء الكلمة الحرة ومن هنا تنطلق الآه الخائفة من التقييد والمنع.
وإذا تعبت
فلا عليك
لترحلي
فلقد تكورت العيون
ولم
يعد
للحرف
من أمل
ولا معنى
لمفتعل
البقاء
إذا منعتُ
من الكتابة.
تأتي قصائد الديوان لا توقظي ، أعوذ به ، ثوران الذبيح ، ماذا؟ ، نعم أبكي ، قصيدة للفجر ، إلى الكلمة الحرة ، قولي لهم ، إلى ابنتي الغالية \"جهاد\" ، لترسم نوع الخطاب الذي يتبناه الكندي ، ويظهر فيه تأثير الإيديولوجيا ماثلا للعيان فليس ما يمكن أن ينفي تبني الكندي لمبدأ الثورة على الواقع فهو ليس ذلك الرجل المهادن بل ذلك الثائر الذي يريد قلب كيان الكون ليصنع بشعره قنبلة تنفجر في وجه الواقع العربي الأليم بما يحمله من ضعف وهوان وتأخر وتقليد واجترار ، ومن هنا أشعر أن الإيديولوجيا المرتبطة بالواقع السياسي للأمة العربية يشغل باله فكوَّن لديه قاعدة من الاستسلام للقضية التي ترامت بين عناصر تجربته ؛ ومن هنا فإن الذات قد أصبحت رهينة المعتقد السابق الذي تعاني عدم المقدرة من تعديه ، وهذا في حد ذاته له إيجابياته من حيث امتزاج التجربة بالواقع المعاش ، وسلبياته التي قد تجعل العمل الفني مكرورا حول موضوع معين ؛ فتبقى الفكرة واحدة والكلمات متنوعة ومن هنا يضيق المعجم الشعري وتنحسر الأغراض لأن الإيديولوجيا المكونة للتجربة تفعل فعلها في التأثير المستمر نحو التزام الخط الوحيد لها.
تناقش كل تلك القصائد موضوعا واحدا هو ربما التعليل الوحيد لذلك التكرار وهو المعاناة الناتجة من الأوضاع السيئة التي تصنع تأثيرها الجنوني على الشاعر ؛ فكأنه يبكيها ويندبها بطرق مختلفة وأساليب متنوعة.
أورث الاهتمام بموضوع محدد قصائد المجموعة مباشرة في الخطاب ؛ فالخطاب المؤدلج بالواقع يضفي عليه الواقع السطحية في الطرح إذ القضايا ذات المعاناة اليومية لا يمكن لها أن تأخذ بعدا عميقا في التصوير الفني ، ومن هنا يضعف التصوير الفني في ثنايا القصائد وتنسلخ من الغموض الفني الذي يورث لذة النص بإعمال الفكر.
يلاقي هذا النوع من الشعر كما يتجلى عند الكندي قبولا شعبيا كبيرا ومن هنا فإن الكندي يسير في نفس الطريق الذي سار فيه كثير من الشعراء الذين كونوا قاعدة شعبية بمعايشة ما يعانيه المواطن العادي من هموم حياتية أو سياسية أو مشاعر إنسانية ؛ فهو في نفس الخط الذي سار عليه نزار قباني ، وأحمد مطر ومظفر النواب وسعيدة خاطر وغيرهم من الشعراء الذين أخذوا شهرة بين المتلقين بسبب الوضوح الفني والطرح الموضوعي لقضايا غالبا ما تشغل العامة وخاصة الشباب الذين تستهويهم مثل تلك الموضوعات وذلك الطرح ؛ كونهم يعيشون مرحلة التمرد الشبابي الذي يختار الثورة والحركة على التفكير والتعمق.
يحمل الديوان في طياته أنموذجان:
النموذج الأول: الشعر السياسي الثوري الساخط على أوضاع الأمة والذي يعانيه الكندي أشد المعاناة والذي امتزج فيه الألم باليأس بالأمل ؛ فنفس الشاعر القلقة أثرت على نوع التجربة الشعورية لديه ؛ فالألم يعتصر قلبه ؛ كما في قصيدة ماذا؟ يظهر ذلك الألم القاسي الذي يعاني منه:
(1)
ماذا..
إذا انتصف النهار
ولم تجد في قامتيك
سوى
انهيار؟
(2)
ماذا ستفعل حينها
ويديك يملؤها السخاء
بألف
وعد ... من غبار...؟
وهذه القصيدة رقم الكندي مقاطعها من 1-10 في كل مقطع ألم جديد وكأنها بكائية تعدد الآلام التي يعانيها الشاعر ، لكنها في نهايتها تنفرج عن الحل الوحيد لدى الشاعر وهو الثورة.
هلا انتظرت
فما يمين في الحياة
مشابه
لهوى اليسار
ولم التمدد في الخيال
وأنت تمتلك الخيار؟
في قصيدة للفجر يظهر اليأس الجارف الذي يظهر من الواقع الذي يزداد أسى وحسرة ويظهر فيه الكندي في قمة الإحباط. ونبقى
لنشقى
نعاود قطع المسافات
كي تستحيل
صباحا جميلا
فلا تستحيل
سوى الموت شوقا
ونقتل في النفس
ما تشتهيه
فتغتالنا
أمنيات النهار
وتنشق ليلا عذابا وعشقا.
لينتهي به الأمر إلى الاستسلام:
فندرك أنا
ومهما انتصرنا
فلا الخوف ... يمضي
ولا نحن .... نبقى
ربما تذكرنا هذه النهاية بالصمت الأبدي عند البياتي الذي ورثه بعد طول نضال ومعاناة لواقع لم يستطع أن يمس فيه شيئا رغم امتحانه في غالب شعره.
ورغم ذلك فإن للأمل مكانا بين شباك الألم واليأس المنتشرة ؛ ففي قصيدة نعم أبكي نجد الأمل بالنصر ماثلا في نهاية القصيدة ، رغم ما يحمله عنوان القصيدة من مفارقة مع مختتمها يتجلى في أن البكاء ليس مناسبا للنصر ، لكن ربما البكاء المعبر عن شدة السعادة.
ألا .. تبتسمي فرحا؟!
غدا ألقاك .... خلف عنابر
الأبطال ... منتصرا
وخلف حدائق السكر
فلا تتعقبي دمي
ولا تتوسدي كفيك باكية
ومطرقة
لأن غدا سيحملنا
جميعا
نحو ساحتنا
مدائننا
قرى عاشت ولم تقهر
وحيث مآذن .... الإسلام باقية
تعانق ... نفحة المنبر.
النموذج الثاني: نموذج عاطفي ولعله مساحة للترويح عن النفس وإن كان من وجهة نظري مرتبط بالنموذج الأول ؛ فقد اختار الشاعر مناجاة المرأة فيه ؛ وهنا عودة للأصل الذي ينتمي له الإنسان متمثلا في المرأة الأم والزوجة والبنت والمحبوبة ، وقد اتخذ الشعراء المرأة وفق تصوراتهم رمزا لمعان كثيرة ؛ إلا إنها مثلت عند كثيرين الأصل الذي يحني له الإنسان هامته ليخفف من خلاله معاناة الحياة ؛ فالقصائد:
أعيديني ، إبحار، غربة ، قولي لهم ، الهارب المشتاق ، برود السؤال ، حدثيني ؛ كلها يدور موضوعها حول الشكوى للمحبوبة من غربة الزمان ، وما أستطيع أن أقدمه من تفسير لمثل هذه الظاهرة عند الذين مارسوا الشعر السياسي الملتزم أن اليأس في التغيير السياسي الذي كانوا يتمنونه لم يتحقق لما لقوى الشر والطغيان من تأثير على الواقع ؛ فألجأهم اليأس من التغيير إلى الارتماء في حضن المرأة يبثون الشكوى من أجل التخفيف من حجم المعاناة التي يحملونها ؛ وفي حقيقة الأمر أن المرأة من وجهة نظري ترمز إلى الأصل الذي احتضن الإنسان أول مرة وسمع شكواه وخفف من معاناته ؛ فلا حضن في الوجود يساويه ، ومن هنا وعلى مر العصور ضل للمرأة حضورها الحاشد في الشعر، هذا الملمح يظهر جليا في قصيدة أعيدني ؛ وكأن الشاعر يبدي ملله من الواقع الذي عاناه طويلا وها هو يستنجد بمن خاطبها طويلا ليوصل عن طريقها فكرة الثورة على الواقع لتنتشله هي من الواقع مرة أخرى منشدا الخلاص من طريقها ؛ يقول:
أعيدني
إلى عينك .. كالتفاح والتين
كريح
الشوق
حين هواك ..
تهديني
وهكذا يستمر الطلب من الشاعر بطلب العودة لأن ما كان يعانيه قد حمله على البعد عن أشياء جميلة في حياته يتطلع للعودة لها من جديد.
أعيدني
إلى
الأشجار عصفورا
وللأنهار ... ملاحا
وللحارات.....
أمواجا من
الطين
أثرت التجربة الشعورية على التجربة الشعرية بصورة مباشرة في المجموعة الشعرية للكندي ، فظهر الاهتمام بممارسة دور المصلح الاجتماعي هذا بدوره أدى إلى ضعف في المستوى الفني كما هو الحال في الشعر الملتزم من حيث تنوع الأساليب والصورة الفنية التي تكاد تكون معدومة في الديوان وانعدام تقنيات حديثة هامة في الشعر المعاصر كالرمز والقناع والتناص ، لا يحمل الديوان سوى تناص أسمي مع المتنبي ، فالقصيدة تحمل سمة الفخر التي وظفها الكندي للاعتداد بتجربته من خلال الفخر عند المتنبي في قصيدة الدموع الغوالي وهذه القصيدة نوع من المعارضات الشعرية فحسب ولم يكن لاستحضار شخصية المتنبي أي دور فني سوى عقد مقارنة بين تجربة الشاعر وتجربة المتبني.
التجربة بشكل عام جيدة لن نعيب عليها التزامها الموضوعي ، فلسنا ممن نقصي الفن عن الواقع إلا إن البنية الفنية بحاجة إلى صقل أكبر فليس بالضرورة أن يتخلى الشعر عن تقنياته الفنية عند معايشته الواقع ، وإنما الأديب المبدع هو الذي يستطيع امتحان الجهتين معا. .