• ×
الأربعاء 8 مايو 2024 |

قراءة في ديوان الشاعر حمود الحجري \"تتسع حدقة على آخر مداها\"

0
0
1918
 

في أحتفاء \"مجلس الشعر\" بـ \"حدقة\" حمود الحجري (1-2)

خالد العريمي : المجموعة تدل على درجة عالية من الوعي ، وتحول الثقافة الى وقود يحرك التجربه الشعورية .
رؤية ـ خالد العريمي : *


ابتداء..

اقام مجلس الشعر الشعبي العماني مؤخرا الأحتفاء بمجموعة \"تتسع حدقة على آخر مداها\" للشاعر حمود الحجري ، وقدم الشاعر خالد العريمي ورقة إنطباعية للمجموعة ناقش فيها فعل الدهشة في المجموعة التي احتوت على عناوين ثلاثة وهي \"للبياض أغنية ، كشف ، و على حافة قبر\" ، ونقدم في هذا العدد جزء \"العنوان كمدخل وللبياض أغنية\" .. على امل التواصل في العدد المقبل حول عناوين \" كشف ، وعلى حافة قبر ، والعنوان كمخرج \" ..

يقول خالد العريمي في قراءته لقد عرفت الساحة الشعبية خلال السنوات الاخيرة- و تحديدا منذ اختيار مسقط عاصمة للثقافة العربية في عام 2006 - غزارة في توثيق المنتج االشعري الشعبي ، من خلال اصدار الكثير من الدواوين الشعرية لعدد كبير من الشعراء، سواءا من الأجيال القديمة ،التي تجرأت على الموروث وحاولت الخروج بالقصيد الى سماوات ارحب ( واعني هنا جيل التسعينيات) ،مرورا بالكثير من تجارب النشء و اللتي لم تتبلور بالشكل الذي يتسق مع مفهوم الاحتفال بمسقط كعاصمة ثقافية ، و الذي من شأنه أن يقدم صورة غير واقعية عن أحول الساحة الشعبية ، ولست هنا في صدد الحديث عن المعايير اللتي تم اعتمادها كي تظهر هذه الدواوين الى القارئ، و لا عن جودة هذه الاعمال، و لكني أجد نفسي مضطرا لهكذا مقدمة ، لأني اعتقد يقينا أن مجموعة حمود الحجري هي إضافة نوعية ، و تجربة على درجة عالية من الوعي ، تعكس أولا مدى قدرة الشاعر الشعبي على تحويل ثقافته الى وقود يحرك تجربته الشعورية مع الابقاء على المقود في يد الشاعر ليحرك عجلة الانتاج في الاتجاه الذي يريد. و تنفي تهمة أن الشاعر الشعبي غير قادر على خلق عالمه الخاص بعيدا عن سطحية المعنى وهو ما أرساه الاعلام الشعبي بجميع أدواته المرئية و المقروءة و المسموعة و اللتي نجحت في تحويل الشاعر الى سلعة تدر الملايين و تسلب الشاعر كرامته الشعرية.

حمود الحجري في عملة المعنون ب \"تتسع حدقة على آخر مداها \" يقدم تجربة فريدة ، ازعم انها اكثر التجارب اللتي قراتها و عيا وادراكا لماهية الشعر، ليس على صعيد الكتابة الشعرية فحسب ، بل في طريقة تعامل الشاعر مع الديوان على أنه كل متصل ابتداء من العنوان ومرورا بأشرعة الديوان الثلاثة \"للبياض أغنية ، كشف ، و على حافة قبر\". إذ تشترك كل عناصر الديوان لتقدم الدلالة الكلية للعمل و كأننا امام نص طويل أو جدارية رسم لنا من خلالها الشاعر العديد من اللوحات اللتي تترابط ترابطا شديد التماسك لتتركنا و قد اتسعت حدقاتنا على آخر مداها امام فعل الدهشة في العمل . وهو ما دفعني للتعامل مع العمل لا على انه مجموعة من النصوص ارتاى الشاعر أن يضمها بين دفتي كتاب توثيقا لتجربة امتدت فترة زمنية محددة ، بل على أنه نص طويل قسم الى ثلاثة عناوين رئيسية و كل عنوان يحوي العديد من اللوحات اللتي هي في الاساس مجموعة من الدلالات الجزئية اللتي تخدم الدلالة الكلية للنص / الديوان.


العنوان .. مدخل

ان عنوان النص او الديوان حالة تحمل مفارقة غريبة ،اذ ان العنوان هو اخر ما يكتب الشاعر واول ما يقرأه القارئ. و على الرغم من انه حالة عقلية بحتة بعيدا تماما عن الشاعرية كما يصفها الدكتور عبدالله الغذامي (1) أذ يختار الشاعر عنوان العمل بعد ان يكون خرج من حالة الكتابة الشعرية (الخيال) ، الا انه يقف على رأس العمل و يحتل مكان الصدارة فيه، فهو مفتاح الدخول الى العوالم السحرية للعمل الادبي. وغالبا ما يبدأ القاري (المتطور) عملية تفكيك و تشريح النص من العنوان\"تتسع حدقة على اخر مداها\" ، وتحتل مفرده \"حدقة\" المساحة الأكبر في العنوان ، فهى المحور الذي تدور حوله باقي المفردات. و قد جاءت هذه المفردة نكرة غير معرفة لتزيد من مساحة المدلول و تطلقه في فضاء المعنى ، فالشاعر لا يشير هنا الى حدقة معينة ولم يضفها الى (العين) ليحدد شكلها الوجودي،بل ترك للقارئ مهمة استحضار الغائب (المدلول) وكانه ابى الا أن يكون القارئ شريكا أصيلا في التجربة لا قارئا لها. وما ان يستطيع القارئ استحضار الصورة الذهنية للحدقة الا واستطاع تخيل (اخر مداها) و كيفية اتساعها على هذا المدى. ان اتساع حدقة على اخر مداها في ابسط معانيه هو رد فعل طبيعي عندما تتعرض هذه ال (حدقة) لما قد يثير دهشتها، عندها تتسع في محاولة لاستيعاب كافة تفاصيل المشهد ، وكانها و هي في وضعها الطبيعي غير قادرة على استيعاب دهشة الموقف وهو ما يشير الى ان هذا المثير مجاوز للطبيعة. كان تمر أنثى رائعة الجمال في قاعة مليئة بالرجال عندها ستتسع كل الحدقات لاستيعاب تفاصيل هذه الأنثى، او ما قد نراه في عيني طفل صغير وهو يطالع الالعاب البهلوانية في السيرك ، و يتشكل الموت عاملا مؤثرا في استحضار مثل هذه الحالة . ولكن الاحتمالات السابقة تقتل كلمة (حدقة) و تحصرها في المعنى المتعارف عليه وهو التصور الوجودي لها، ولن نكون مبالغين اذا اعتبرنا الكلمة هنا اشارة مطلقة من شأنها ان تثير في نفوس القراء على اختلاف مشاربهم و ثقافاتهم الكثير من الدلات لا يمكن حصرها. ان محاولة قراءة و تفكيك عنوان العمل الادبي هي محاولة محفوفة بالمخاطر، إذ أنها و برغم ما تستدعيه من مجهود ذهني ضروري لقراءة شفرة العنوان، الا أنها غالبا ما تنتهي الى مجموعة من الاحتمالاتالمنفتحة على مستويات دلاليه عدة، دون ان يكون هناك برهانا قاطعا يقدم مستوى على اخر، فهذا البرهان المرجو غالبا ما يكون كامنا في اعماق العمل الادبي نفسه، و محاولة ايجاده تستدعي قراءة العمل قراءة واعية ، وقد تؤدي هذه القراءة الى استنباط دلالة جديدة تنسف كل الاحتمالات السابقة. إذا لندخل الى الديوان تاركين كل احتمالاتنا واوهامنا خلفنا ، متسلحين برغبة صادقة في قراءة تحليلة جمالية تقود الى حيث تقود...الدهشة / الصدمة كنموذج دلالي مقترح لقراءة الديوان..

ان النص الأدبي كينونة من الاشارات لها ان تشير و على القارئ ان يفسر (2) ، اذا فالقارئ هنا منتج للنص متداخلفيه، ولكل قارئ خلفيته الثقافية و المعرفية التي تعينه على هضم العمل الأدبي وإعادة صياغته. اذا فالقراءات المقترحة لقراءة العمل هي قراءات لا نهائية ، وانا هنا اقترح الدهشة / الصدمة كنموذج دلالي لقراءة هذا الديوان، وهي ليست نتيجة اقفز اليها دون مبررات ولكنه مقترح بني اساسا على الكثير من الملاحظات اللتي استنبطت من القراءات المتعددة للديوان. لقد قسم الشاعر الديوان الى ثلاثة ابواب ، اختار لكل باب منها اسما مختلفا وقدم له ببيت من الشعر تراوح بين التفعيلة و النثر و العامودي. كما تراوحت عدد القصائد في كل جزء فهي في الاول ست قصائد و في الثاني سبع اما الثالث فيضم اثنا عشر قصيدة. وسنحاول في السطور التالية قراءة كل جزء على حدة من خلال نموذجنا الدلالي المقترح :

للبياض أغنية ..

يقدم الشاعر لهذا الباب ببيت لقيس ابن الملوح :

صغيرين نرعى البهم يا ليت اننا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

من المعروف ان قيسا احب ليلي بنت عمه حبا جما و قال فيها الكثير من الشعر و لكن عمه رفض أن يزوجهما لانه تشبب بابنته ..وقيس في هذه الابات يبكي على ما كان بينه و بين ليلى منذ الطفولة \"البياض\" و يتمنى لو ان الزمن وقف عند تلك الفترة و لم يمضي سريعا الى حيث لا يرغب العاشقان. وهذا المعنى يتفق دلاليا مع عنوان هذا الباب و الذي هو في مجمله بكاء على مرحلة البياض اللتي انفلتت من بين يدي الشاعر دون رغبة منه فالطفولة هي المرحلة الاكثر براءة وصفاء في حياة كل منا.

يستهل الشاعر هذا الباب بقصيدة اشتعال ، وهي مثل بقية القصائد في هذا الباب تحمل تأكيدا على كتابة القصيدة كرد فعل على قسوة الحياة ، فهي المتنفس الوحيد الذي يواجه به الشاعر كل ما يحيط به من احباطات وانكسارات على جميع المستويات.وتتوالى ابيات القصيدة حاملة الكثير من تفاصيل حياة الشاعر \"كتاباتي ، مدادي ، صباباتي ، خيبة آمالي،كاس عشقي، اجترارتي الحزينة، هالقلب و جراحه..\" فهذا هو ما تبقى للشاعر وهو لا يملك غيره، و تأتي الكتابة على راس القائمة فهي نتيجة حتميه للنار اللتي تتأجج في عالمه الداخلي ، فذلك (اليافع) الذي كانه الشاعر وكما يصفه في (طفلك اللي كان..) :

يرمي أشياءه بقارعة الطريق
يكتنز فمه
بحلوى وقعه المكسور
و يرتمي باسفنج حلمه
حلمه القزحي و ينام

هذا اليافع، الطفل المشاغب الذى فقد براءته عندما اصطدمت احلامه بواقع مرير ، و الذي تغيرت ملامحه ، أخذ يمتحن ذاكرة الناس و الاماكن ..فهو تارة يطالبهم بتذكر تلك اللحظات الجميلة اللتي كانت بمثابة الهواء الذي يتنفسه الشاعر يقول في قصيده (طفلك اللي كان....) :

تذكري ؟
كنت أسمعك القصيد اللي كتبته
وكنت من فرط السعادة
ينبت لقلبك جناح..

و تاره يسال في دهشة وهو يدرك قسوة السؤال و كانه يتلذذ بتعذيب نفسه :

تعرفيني يا النخيل ؟!
تعرفي الطفل اللي كنته؟
وكان يتشاقى عليك
تعرفيني يا السواقي ؟

ثم يؤكد على انه كان بطعم اخر وهذا هو السبب الذي غيره حتى استعصت ملامحه فلم تعد كل عناصر طفولته قادرة على استقراء هذه الملامح تذكري يالنخيل و يالسواقي و يظاليل بعامد كان بطعم اخر، وتأتي الاجابة على السؤال الاهم وهو مالذي اغتال الطفولة / البياض، مالذي سلب الطفل الفوضوي ، الممتلئ بالحياة و الحيوة براءته وحوله الى كهل لايمتلك الا التذكر ،ولا يمتهن الى البكاء على الجنة /الطفولة. هل هو الجري ورا الاوهام ام عدم وضوح الصورة و الذي يؤدي في كثير من الاحيان الى الاختيارات الخطأ ، يقول في قصيدة انثيال :

مراهقتي بدت تزهر،
بديت أجري ورا الاوهام
بدا نردي يغالطني
و يبست وردة التخمين

الشاعر / الانسان كان طفلا يعيش في الجنة (جنة الطفولة) ولكنه فجاة وجد نفسخ مرميا خارج اسوارها، فصدمته الارض /المتاهة وافقدته براءته فكان ان اتسعت حدقتاه دهشة من قسوة الفعل ولم يجد الا القصيدة ملاذا له يرتمي في احضانه عله يرمم عوالمة الخربة ، فكان ان اتسعت حدقتا القصيدة لتستوعب ادق تفاصيل المشهد..


المصادر و المراجع:

1 - صلاح فضل: شفرات النص.ط1. دار الآداب . بيروت . 1999م.
2- عبدالله الغذامي : الخيطئة و التكفير . ط6.المركز القافي العربي. الدار البيضاء. 2006م







في أحتفاء \"مجلس الشعر\" بـ مجموعة حمود الحجري \" 2 - 2 \"
\"تتسع حدقة على آخر مداها\" من النظرة الفلسفية لطبيعة الأشياء إلى صدمة الكشف


رؤية ـ خالد العريمي : *


تواصلا للقراءة التي قدمنها الأسبوع الماضي لمجموعة للشاعر حمود الحجري والتي أقامها مجلس الشعر الشعبي العماني مؤخرا في الأحتفاء بمجموعته \"تتسع حدقة على آخر مداها\" نقدم اليوم العنوان الثالث لفصول المجموعة \" كشف ، وعلى حافة قبر ، والعنوان كمخرج \" ، و \"ملاحظات على البنيه الايقاعية في المجموعة\" ..


كشف

يتصدر الشاعر العماني سماء عيسى هذه الباب بمقطع من قصيدة بعنوان (نداء طفلة بعيد ، كان يقترب منا) ثمة ما يحترق ليضيء لنا عتمة الكائن ، حيث تتميز قصائد هذا الباب بالنظرة الفلسفية ، لطبيعة الاشياء ، فذلك الطفل الذي رايناه في الباب غضا شفيفا حولته الحياة الى كائن اخر غير الذي كان يريد ان يكونه، قد كبر وانضجته التجارب واكسيته القدرة على التامل فهو هنا ينتقل من لحظة الصدمة الاولي صدمة البراءة اذا جازت لنا التسمية الى صدمة من نوع من مختلف الا وهي صدمة الكشف ، الشاعر / الانسان وحده القادر على اقتناص هذه اللحظة ليتعرف على منبع الخطيئة بداخلة فلولا الخطيئة الاولى وغواية حواء لادم ما كانت الخطيئة الثانية قابيل/هابيل ، اذا فالخطيئة كتبت على نسل آدم منذ اللحظة الاولى ، يقول في قصيدة سدرة :

حق يالسدرة الحرام و بؤرة الاغواء
يا شقا آدم ورمضا الذل و الانهاك
م انزلق هابيل في وحل من الهواء
وانتعل دم الخطيئة المزرية لولاك

ويظل ابن ادم يحمل هذا الارث فوق اكتافه متماديا في الخطيئة ، فهو لم يحاول قط التخلص من هذا الارث محاولا كتابة تاريخه الخاص بعيدا عن الماضي ، بل رضخ له ، واسلمه اللجام ، وهو يدرك تمام الادراك انه يدمر كل ما تبقى له من انسانيته..
من قصيدة كشف
أحيد احيد عن دربي و تستهويني المــــــــــيلة
وابرر ميلتي ، طيشي، اعوجاجي ، واستلذ خطاي
ويصطدمني الطريق الملتوي و تخونني الحيلة
ويرديني ضياع البوصلة و أتخـــبط بظــــــــلماي

هي فداحة الكشف اذا ، تلك اللتي عاش عليها الشاعر منطويا نادبا ماساته وعاش مضطرا على فداحة الحقيقية حين اكتشف الخطيئه/ الإرث و فكر فيها. مما غير نظرته لكل ما يحيط به ، ف (المدينة كاذبة) و (الاحلام زيف) كما يصفها في قصيدة شفاف كماء. ويقول في قصيدة( زوبعة جرح) :

يطيح ملح المعطيات الهشة المتكــــــــــالبة
الا جدارية تفانــينا المقدس ما تطــــــــــــيح
بسمل ، ومد الخطوة الاولي.. بلى ما اكذبه
اتف في وجهة بكل الارث من حنقي و اشيح

ونرى هذه النظرة أيضا في قصيدة انثيال ..

والجدب يتنابت رياح تعوي و تصفر
يحرق واحاتي بنار من فم التـــنين

اذا فقد تهاوت الاقنعة و تداعت قلعة غرور هذا الانسان اما هذه الارث العظيم ، فليس هو سليمان الحكيم كما جاء على لسان الشاعر في قصيدة كشف ، و لا بالمدعي المثاليه . و يؤكد الشعر هنا مرة اخرى على ما اكده سابقا من انه لن يستطيع التنصل من هذا الارث، و ليس امامه الا ان يتشبث بدونيته :

كثير اتشبث بدونيتي و بطين هالغيلة
تراب للخطا منه خلقت ، مشبع بالماي

والشاعر في هذا الباب كما كان من قبل ، لا يجد الا القصيده ليهرب اليها من فداحة فعل الكشف ، وقسوة الحقيقة فكما اتسعت حدقتا الطفل البرئ الذي تهاوت براءته امام عينيه، اتسعت حدقتا الرجل المحنك صاحب التجربة امام فداحة الكشف /الارث فكان ان اتسعت حدقتا القصيدة لتستطيع احتواء تفاصيل المشهد مرة اخري ، يقول في قصيدة زوبعة جرح :

ملء الورق ملء الاصابع و العروق المتعبة
اضم الحاح الوجع سمر يجابه الف ريح

على حافة قبر..

هزمتك يا موت الفنون جميعها
محمود درويش

الموت هو التجربة الانسانية الأكثر عمق وتأثيرا في نفس الانسان. يقف امامها مشدوها لايملك لها تأويلا. هو التجربة الأكثر غرابة ، يتولد عنها الكثير من الاسئلة ، ويقف سؤال الفقد (لماذا..) ليزيد من الهوة بين لانسان و تاويل الموت. هناك الكثير من الشعراء الذين امتحنوا شاعريتهم امام الموت ,اشهروا سيوفهم في مجايهته لانهم أدركو ان الموت لا يستطيع الا على الحالة الجسدية (الفيزيائية) للاجسام اما الفن الناتج عن الارواح فهو بعيد عن منال الموت. هذا ما توصل اليه شاعر محمود درويش في جداريته الشهيرة و التي صدر بها الشاعر هذا الباب ، وكانه يرددها وهو على حافة القبر متسعدا لمنازلة الموت :هزمتك يا موت الفنون جميعها .. هي صرخة الشاعر ، يطلقها مدوية ليس خوفا من الموت بل رغبة فيه ، فبعد مرحلتي الطفولة و الكشف ، يقترب اكُر الى المرحلة الاكثر غرابة ، اذ يمتلئ القلب برغبه جامحة في الهرب بعيدا عن مناجير الوهم، ليترك مكانه لمن لا يزال الوهم يتملكهم وهم بعد لم يكتشوفوا الحقيقة ،يقول في قصيدة على حافة القبر :

أبترك خلف مرمي العين ديرة
من احلام ومن آثام وتوهم
وارد ايدي كثر نامت فقيـــرة
سوى من انكسارات و تظلم
أبغمض هالجسد و اخلي لغيره
مكانه بفكرة الوهم يتنعـــــم

ولكن الموت الذي جابهه الشاعر هنا لم يكن مقتصرا على تجربته على حالته الجسدية فقط، ولكنه اقتنص الكثير من الاشارات من فقد الاخرين و تجاربهم وربما يكون هذا ما دفع الشاعر الى طلب المنازلة مع الموت فقد اخذ منه الاب و الجد و الام و تستمر الهزائم امام الموت . يقول في قصيدة حزن الجهات :

انطفت شمعه من شموع الفضيلة
واكتسى هالليل حزن عمر هو كل المسافة
بين جبهة و بين سجادة صلاة

الى ان يصل الى قوله :

موحشة الفرقا مثل فزاعة
حقول الذرة وحزني فتيل
والهدوء يبلل الطين بصخبه
العابث بقلب الشافاة

و في قصيدة سؤال الفقد ، يستمر الشاعر في مناجاة الذي رحلوا ، مبينا ما فعله به الغياب ، و يبقى السؤال الي لا أجابة (ليه رحت..) يقول :

ليه رحت سبت البيت نهبة لاضطرام
الجرح واحرقت بسمر فقدك خفوق
سافرت ليه سافرت ؟طيب و الظلام
للعتمة في قلبي نهار ما يفوووووق
وفي قصيدة بدري لا يخرج الشاعر بعيدا عن هذا المعني :

بدري رحت و سبت في الدار جمرة
ما تنطفي و آهة الم ما تفــــارق
بدري و نزعت الصبح عن وجه بكرة
يا وجه بكرة وين تخفي الطوارق

و يتناص الشاعر في هذا الباب مع قصيدة المتنبي الشهيرة (عيد باي حال عدت يا عيد...) وهو اتهام اخر موجه للحياة المتقلبة و التي لا تبقى على حال ابدا، فقد ضاعت البراءة و انكشفت حقيقة هذه الحياة ، ومات من مات وولد من ولد لتدور دور ة الحياة مرة اخرى و يبقى الشاعر وحده يجابه..

أي عيد و أي اهزوجة اغاني
أي عيد و طيرة افراحي ذبيحة

الشاعر في هذا الباب تحديدا تتسع حدقتاه على اقصى مدى ممكن لتستوعب مراحل حياته المختلفة (ابواب الديوان الثلاثة) فنجده يعود كثيرا الى طفولته مروا بمرحلة الكشف ليبرر لنا نبرة الحزن العميق في صوته، ومن ثم ليبرر لنا زهده في الحياة طالبا الموت متحديا بكل ما يمكل من اصوات، فالموت لن يستطيع سلبه الا الجسد ، فقد اتسعت حدقتا قصيدته لتستوعب ادق التفاصيل بما فيها الموت فكل شئ فان الا القصيدة . ولم يعد الموت في نظر الشاعر ذلك المخيف الذي يأخذ و لا يعطي لان القصيدة وحدها قادرة على استيعابه .

العنوان ... مخرج

ان المحاولة الاولى لقراءة شفرة العنوان ن لم تعط لنا الكثير إذ بقيت مفردة حدقة مفتوحة الدلالات، و بقى المعنى مراوغا الى حد بعيد. فال (حدقة.)تلك المفردة النكرة ما هي الا (صوت دال) يحيل الى تصور ذهني لا تصور عيني وجودي كما يصفها رولان بارت ، هذا التصور الذهني هو ما حاولنا البحث عنه في الابواب الثلاثة للديوان فالاشارة هنا حرة مطلقة تلمح و لا تحدد. وبعد ان خضنا مغامرة دلالية في الابواب الثلاثة و كيف ان الشاعر واجه الدهشة / الصدمة في كل باب على حدة بسلاح الفن ، والذي لم يجد غيره كبديل مقترح لقبح الحياة. ففي كل مرة اتسعت حدقتا الشاعر الما او دهشة اتسعت حدقتا قصيدته لتهضم هذا القبح و تعيد صايغته بما يضمن للتجربة الانسانية الخلود في مواجهة الموت. الطفل اتسعت حدقتاه دهشة من قسوة فعل الحياة وبعد ان افاق من هذه الدهشة اتيحت له الفرصة ليدخل مرحلة اكثر هدوءا وعنفوانا ، مرحلة تعتمد اساسا على التأمل و الذي يحتاج الكثير من صفاء العقل و الروح معا، و لكن الشاهر يصاب بالدهشة و يصدم مرة اخرى و لكن هذه المرة من مرارة الكشف ، فالبحث عن الحقيقة دائما ما يقود الى مواجهة حتمية مع الذات من شانها ان تعيد صياغة كل القناعات فالخطيئة متأصله في الجنس البشري الذل لا يستطيع الصمود امام الغواية ، هذا قدر ابن أدم كما اكتشفه الشاعر فكان التكفير بالقصيدة/ الفن الذي سيبقى بعد زوال الحالة الفيزيائية للجسد. الشفافية و الاحساس المرهف بالاشياء و الذي يملكه الشاعر قاداه الى ايجاد معادل ايدولوجي لطبيعة الحياة المادية اللتي تنتهي بالفناء . لكن الفن لايعتريه ما يعتري المادة و لا تجوز عليه أحكامها . الفن / في مواجهة القبح ، القصيدة في مواجهة الموت الانسان ببعده الفيزيائي في مواجهة الانسان في بعدة الميتافيزيقي ، هذه هي الثنائيات اللتي حكمت العمل و التي تسدعي ان يعود القارئ الى حيث بدأ ، الى العنوان و قد اتسعت حدقتاه من هول المشهد.


البنيه الايقاعية ..

برع الشاعر في الكتابة على مجموعة كبيرة من البحور سواءا الصافية او الممزوجة ، و في هذا دلالة على وعي الشاعر الكامن في اعماقة ، إذ ان الدلالة في كثير من الاحيان هي المحرك و الباعث على استخدام بحر دون غيره. كما انه لجا الى قصيدة التفعيلة في الكثير من الاحيان ، لا في شكلها الكلاسيكي بل في شكلها الحداثي و القائم على تفجير طاقات التفعيلية الكامنه فيها بحثا عن ايقاع خاصا يتولد من تضافر البينة الايقاعية و الدلالية. يقول الدكتور محمد فكري الجزار في كتابه لسانيات الاختلاف (لقد أصبح التشكيل الايقاعي للنص مرتبطا أشد الارتباط بينائه- ها البناء المسؤول عن انتاج دلالته النصية..) وهذا يبين لنا الى أي مدى يمكن للدلالة ان توجه الايقاع بما يتسق المفهوم الحديث للايقاع. و تعتمد قراءة الارتباط الوظيفي في بين الايقاع باعتباره بنية و الدلالة على اساس كونها علاقة داخل هذه البنية. وهو ما سنحاول ان نبيينه باستخدام الامثلة التالية من ديوان الشاعر ،من قصيدة \"اشتعال\" :

لأي كتاباتي ..مدادي و اندياحه
يشحذ لسربه مدي في مقلتينه

القصيدة على وزن فالعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ..فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ، وهذا هو الشكل الخارجي للايقاع في حال استخدمنا الوقف العروضي للوزن، و لكن مالذي سيحدث اذا استخدمنا الوقف الدلالي واعدنا وزن البيت ، عندها فاعلاتن فا .. فعولن.. فعولان اذا نحن امام تشكيلات ايقاعية مختلفة تماما عن الشكل الخارجي و الذي تسبب في الاختلاف الدلالة و دخول علامات الترقيم في بنية البيت، فالشاعر في هذا البيت تسيطر عليه حالة نفسيه تجعل من تنهداته أمرا جليا يستطيع اي قارئ تبينها من خلال قراءة البيت ، فهو يؤكد في حزن ان كل ما يمكله ليس الا الكتابة/ القصيدة ، و من ثم تقترح علامات الترقيم مساحة من الصمت تؤدي الى التعارض بين الوقف الدلالي و الوقف العروضي ، وتاتي بعد هذه الفترة مفردة مدادي تليها فاصله تقترح أيضا وقفا للتنهد يعارض الوقف العروضي و من ثم يكمل (واندياحه).