• ×
الأربعاء 8 مايو 2024 |

مسرح الحرية والتأمل والخيال في نصوص خميس السلطي

0
0
1161
 


مسرح الحرية والتأمل والخيال في نصوص خميس السلطي

رؤية: أصيلة المعمرية


عندما يكتب يترك للقارئ حرية التأمل في النص وغرس الذات فيه مسرحاً بخياله الخصب لكل ما هو من الممكن أن يصول أو يجول في نفس المتلقي، هو يكتب بناءً على هم ذاتي ولكنه في نفس الوقت قد يكون هذا الهم هم المتلقي بالدرجة الأولى، وحده من يستطيع كتابة البيت الشعري الذي يتناسب مع كل القراء ومنه نستطيع القول بأن كل قارئ من الممكن جداً أن يجد نفسه في كل ما يقدمه الشاعر من بوح.. سأكون هنا أمام نصوص للشاعر خميس السلطي وتجربة شعرية متميزة..


هذا أنا ما صرت وانا بْشبابي
إلا نديم ٍطاوله الهم وسواس


في البيت السابق من قصيدة \"صخب\" أحسن الشاعر طرحه وبناءه لكي يصف لنا همه الذاتي ولكنه في نفس الوقت قد يكون هذا البوح الشفيف متناسباً جداً مع شريحة كبيرة من المتلقين لهذا الشعر الرائع. فهنا فقط يمكننا بالفعل أن نقول إن الشاعر عندما كتب قصيدته لم يكن أنانيا ليكتبها لنفسه فقط وإنما كان يطرحها بقلم القارئ والقارئ المتذوق للشعر، كما في نفس الوقت لا يمكننا أن ننهك خصوصية النص ونقول بأن خميس السلطي يكتب للقارئ أو للمجتمع فقط أي يكتب الشعر الذي من السهولة أن تجد كل عين قارئة نفسها فيه، ولكن الشاعر دوماً ما يحافظ على خصوصية ما يكتبه لنفسه من بوح فدوما ما نجد ذات خميس السلطي متواجدة في كل نصوصه، فالشاعر الحقيقي وحده من يستطيع التوفيق بين بصمته الشعرية في كل نص وبين ما يمكن أن يجمع به خصوصيته مع هم القارئ المتذوق لينتج قصيدة وافرة الشعر تحمل تجربة واعية لا يمكن أن نفصلها عن شاعرها وفي نفس الوقت هي قصيدة تجد الكثير من أبياتها على لسان كل القراء والمتذوقين للشعر الحقيقي، فلو تمعنا النظر في قصيدة صخب لوجدنا كيف وفق الشاعر في تنوع طرح القصيدة وخصوصية المعنى الذي يكون لنفس الشاعر في تارة و لـ هم القارئ في تارة آخرى.. فمثلا ً نجد:

ما أقدر أقول إلا لشعورٍ حكى بي
مشكور صوته لا غدى للعمر ناس
طيفك ولو هو مرني في صوابي
عكّر مزاجي ولا غدى للصوت انفاس



الشاعر يختم القصيدة بـ بيت قد تتناقله ألسن كثيرة ليس لأنه شعر حقيقي فقط بل وحسب لأن الشاعر دوما ما يحاول كتابة همه بـ طريقة تليق بكل المتذوقين ولهذا السبب دائماً ما يسمع خميس السلطي جملة: أنت تكتبني. في نفس القصيدة لا يمكننا أن نتجاوز مطلعها عندما قال:

لا مرني طيفك تعّكر صوابي
ولا مرني وجهك تهاوت بي اغلاس


الشاعر ومنذ مطلع القصيدة لم يكن مشتتاً بل أتى بكامل قوته الذهنية وبدأ بطرح معطيات البيت الأول بتدريج منسق ففي الشطر الأول تناول الطيف كاملاً، وفي الشطر الثاني انتقل للوجه وهو أحد أجزاء الطيف وهذا إن دل فإنما يدل على أن خميس السلطي يكتب الشعر بتركيز ووعي كما أنه من الممكن أن نستنبط أن الشاعر لا يقع في فخ الهفوات الصغيرة التي من الممكن أن تعكر جمال القصيدة ولكن تجربة كـ خميس السلطي من المستحيل أن تمر عليه زلة بسيطة ولذلك نحن نجده ومن مطلع القصيدة يطرح معطيات هذا البيت الشعري المذهل بتدرج. وأضف على ذلك أنه دوماً ما يوجد التفاصيل وربما التفاصيل الصغيرة التي تجعله يربط بين الشطر الأول والشطر الثاني من كل بيت، هو يكتب وبكل حرفنه ولكنه يكتب شعراً متماسكاً مترابطاً، نجد في الكثير من القصائد الشعرية علاقات مبهمة بين الشطر الأول والشطر الثاني في كل بيت أو بين البيت الأول والبيت الثاني من كل قصيدة، لكن خميس السلطي لم يكن حريصاً فقط على وحدة الأبيات الشعرية فقط وإنما كان حريصاً أيضاً على وحدة كل بيت شعري بنفسه فمثلاً يقول:

يا سيدي هذا المدى باغترابي
مليون صاحب جرّدوا حقدهم يأس


ما نجد هنا أنه قد ذكر المدى باغترابه في الشطر الأول وعرفه مباشرة في الشطر الثاني، فمن المستحيل أن يسد فراغ الشطر الثاني أي حديث شعري. وهذا ما جعل هذا البيت الشعري من أجمل الأبيات التي تقرأها، فمن المستحيل أن تفصل هذين الشطرين عن بعضهما البعض. ولكن في نفس الوقت خميس يترك للقارئ حرية التفكير فيما يسرده من شعر، فنجده في بعض الأحيان لا يخوض في كل التفاصيل أو يحافظ على تدرج المشهد الشعري مع ترك بعض التفاصيل حتى يسرح الشاعر بخياله مثلاً يقول:

هذه أزاريري وعرّت ثيابي
هذه تفاصيلي ودقت بي أجراس


ففي هذا البيت نجد أنه تناول لفظة \"أزاريره\" ومن النادر جداً أن يطرح أحد هذه اللفظة في نص شعري نبطي، خميس السلطي قد أحسن إدخالها وتوظيفها في الوقت المناسب، الشاعر هنا لم يستطرد في كل التفاصيل مع أنه قد بدأ من الجزء ثم انتقل للكل، فالأزارير جزء من التفاصيل، وفي نفس الوقت نجد أن الشاعر لم يتناول كل التفاصيل بل تركها للقارئ حتى يتأملها ويركب المشهد الشعري المكتنز بالألفاظ الدقيقة العميقة. الصور التي يطرحها السلطي دوما ما تكون صور كاملة يوظف فيها كل المشهد الشعري فعندما يقول:

اشتاق اسهر واذكرك كل مابي
لين السما تبكي نجوم بلا قياس


ففي هذه البيت قد وظف الكثير من الألفاظ المرتبطة كالسهر والذكريات والسماء والنجوم.. وهذا إن دل فإنما يدل على اللغة الواضحة البليغة وعلى قدرة الشاعر في توظيف كل الألفاظ المرتبطة بالمعنى الشعري في بيت واحد وطرحه بصورة حسية رائعه وراقية تحمل معنى جميلاً لا يمكن أن يمر على الذائقة مرور الكرام. إن مما لا يمكن أن نتجاوزه هو الايقاع المميز في نصوص خميس السلطي فلو لم نبتعد عن قصيدة صخب لوجدنا أن قافية العجز تنتهي بحرف السين وحرف السين دوماً ما يكون من الحروف الواضحة في النطق والذي يعطي نغمة رقيقة تسهم في حراك النص الشعري وإحساسه داخل روح المتلقي ليأتي الشعر هنا متناغماً مع جو القصيدة العام.

لو حاولنا الانتقال إلى قصيدة \"ما أوحشك\" لوجدنا أن الصفة البارزة على النص هي: سلاسة الشعر وعدم التكلف في البناء والتي أتت متزامنة مع بساطة المفردة الشعرية من ناحية وعمقها من ناحية أخرى. أما قصيدة علياء، فهي من القصائد التي من المستحيل أن تختزلها ذاكرة المكان أو الزمان، يقول في مطلعها:

وجهي أرق والليل يطعن بقاياه
والصبح شاحب ما لبس للدجى نور


هنا صورة في قمة الإتقان الشعري رُسمت بمحبرة إبداع فالشاعر يصور لنا صورة جميلة ويترك في دواخلنا تساؤلا لذيذا، فماذا يطعن الليل؟ هل يطعن بقايا الليل نفسه أم يطعن بقايا وجه الشاعر الذي شبهه بالأرق، هذا هو الشعر العميق الذي يترك بعض الاستفهامات في دواخلنا لنتنفسها ببطء ونجد الصورة الحقيقية التي يقصدها الشاعر.. خميس السلطي من الشعراء الذي يعون ما يكتبون فهو يستغل الأسلوب الشعري لكي يطرحه مازجاً بين الحداثة والتقليد في نفس الوقت، كما أنه يركز على سلاسة النص وبنيته ومع ذلك لا يغفل الجانب الفلسفي مع كل صورة شعرية إن لم أبالغ، خميس عندما يكتب نصه يكون هو نفسه الشاعر والناقد لأننا دوما لو حاولنا التركيز لوجدناه متعمداً تجاوز بعض الهفوات الصغيرة مع كل قصيدة مذهلة. ما يدهشنا في نصوص خميس السلطي أنه يبدأ بمشهد شعري ويتناوله بصورة جميلة في كامل القصيدة فيبدأ مع القصيدة في رحلة البحث عن كل الأشياء التي يحاول أن يضعها في قالبه الشعري \"القصيدة\" ليعود في الأخير إلى \"قفلة\" النص وختامه ليجيب على ما ود أن يطرحه أو بمعنى آخر في نصوص خميس السلطي دوما ما نجد أن البيت الأخير مرتبطاً بالبيت الأول من كل نص فعلى سبيل المثال وليس الحصر غالباً ما يكون ختام القصيدة جوابا شافيا وكافيا لما طرحه خميس في مطلعها من تساؤل أو هم ففي قصيدة علياء كان المطلع:

وجهي أرق والليل يطعن بقاياه
والصبح شاحب ما لبس للدجى نور


أما الختام \"القفلة\" كان:

ويطيح وجه الليل ويصير محلاه
لما يموّت خطوته رمح وجسور


فهو بالفعل بدأ بمطلع القصيدة التي استرسل من خلالها في باقي الأبيات وتحدث عن الليل وعلياء والهم والقلب المكسور ولكنه في الأخير قد عاد للبيت الأول تحديداً وكأنه يرد عليه أو يجيب حتى ينهي بلورة قصيدته.. نفسه ما حدث بالضبط في قصيدة صخب.. يبدأ بالمعنى الشعري من أول بيت ويسرد فيه ثم يعود ليختم القصيدة بجواب أو ردة فعل مرتبطة بالبيت الأول تحديداً.. وهذا ما يميزه \"السلطي\" فعلاً ..


image

image