قراءة انطباعية في إصدار سكة الشريان للشاعر ناصر الغيلاني
02-21-2009 06:30 مساءً
0
0
1484
![]() | ![]() | |
قراءة انطباعية في إصدار سكة الشريان للشاعر ناصر الغيلاني الشاعر ناصر الغيلاني احد الشعراء المتحققين في الساحة الشعرية الشعبية العمانية، وقد ألفته المنابر ومنصات التتويج في مناسبات عديدة وكثيرة، وبالتالي فإن إصداره الأول هذا الذي بين أيدينا يمثل عصارة تجربة تجاوز عمرها العقد من الزمان، ولا شك بأن قراءتي لن تفيه حقه من الكشف والتحليل ولكني سأحاول في ما يلي من سطور تقديم بعض من ما يزخر به الإصدار من جماليات فنية تقرب الجمهور أكثر إلى تجربة الشاعر وربما تقدم بعض من ملامح الإبداع فيها سائلا المولى عز وجل لي التوفيق ومعتذرا للشاعر ولجمهوره عن أي قصور قد يشوب جسد هذه القراءة المتواضعة. أولا: على صعيد العنوان، يختار الشاعر (سكة الشريان) عنوانا للإصدار، وفي نفس الوقت يتضمن الإصدار قصيدة معنونه بنفس العنوان، والناظر إلى الدلالة اللغوية التي يقدمها هذا العنوان يتكشف له مستوى وعي الشاعر في دقة اختياره للفظ المناسب لتحقيق الدلالة المرادة والتي هي الشعر، فالسكة في اللغة هي الطريق المستقيم القائم على جانبيه صفين متقابلين من الدور أو النخل، وبالتالي فإن هذا الطريق يمتاز بالحيوية والجمال، فهو محبب إلى النفس ومهدئ للروح، أما الشريان فهو العرق النابض في الجسد، والناقل الرئيس للدم وليس أي دم، فالشرايين تنقل الدم النقي إلى جميع أعضاء وخلايا الجسم، وبالتالي فإنه يحمل سر الحياة إليها، ولكم أن تتخيلوا معي مما سبق مجموعة الإيحاءات والدلالات التي تدفع بنا سكة الشريان (طريق الدم) باتجاه الشعر، ولتأكيد ذلك فإننا عندما نعود إلى نص سكة الشريان داخل الإصدار نجد أن الأنثى التي يخاطبها الشاعر في قصيدته هي القصيدة ذاتها هي الشعر أيضا ويتضح ذلك من خلال استخدامه لمجموعه من المفردات والجمل الدالة عليه مثل (زخرف هالمدى بكل الكلام)، (جدران المساء تستلهم الجدران)، (هاجسي)، (ارجحت بوزونه الأوزان)، (الشاعر المغرور)، (شعورك الجمهور)، وغيرها. ثانيا: على صعيد البناء العضوي، فالإصدار أشتمل على 34 نص خالص للشاعر بالإضافة إلى نصيين مجاراة للشاعر من قبل شاعرين صديقين، وقد كتب الشاعر نصوص الإصدار على سبعة بحور مختلفة، وبالرغم من أن البحور الأكثر ظهورا في نصوص الإصدار هي البحور المتعارف كالمسحوب والهزج والرجز والرمل، إلا أن ظهور بحور كالهجيني والصخري والممتد تمنح الإصدار تفوق نسبي في مستوى التنوع في الأوزان والبحور التي يكتب بها الشاعر قصائده، وما أعرفه شخصيا عن الشاعر هو تمكنه الكبير ودرايته الواسعة لأوزان وبحور الشعر الشعبي أكد لي بأن الشاعر قد تعمد ذلك للإشارة إلى براعته في العروض وهذا ما حاول الشاعر إثباته أيضا في قصيدة (حذر)، والتي كتبها الشاعر بوزنين مختلفين هما المسحوب والرجز من خلال تحوير التفعيلة الثالثة في الشطر ما بين مستفعلن وفاعلاتن وذلك على مستوى القصيدة ككل، ومثال ذلك (وين الذي في غيبته كلٍٍَّ ْيغيب) (مستفعلن مستفعلن فاعلاتن) وهنا يظهر بحر المسحوب، أو تستطيع أن تقرأ المقطع السابق كالتالي ( وين الذي في غيبته كلٍٍّ َيغيب) (مستفعلن مستفعلن مستفعلن) مع زيادة ساكن في كلا التفعيلتين، وبالتالي فإن القارئ يستطيع قراءة النص بالوزنين دون خلل في 13 بيت، ومما يسهل ملاحظته في الإصدار على مستوى البناء العضوي هو خلوه من قصيدة التفعيلة، مع أن الشاعر له تجربه معها ولكني أعتقد بأن الشاعر ومن خلال إصداره الأول أراد أن ينقل للجمهور وللنقاد وللقراء بشكل عام رسالة مفادها بأنه قادر على خلق فضاءات رحبة واسعة ومتناسلة بالرغم من ضوابط وقيود الوزن والقافية. ثالثا: على صعيد البناء الموضوعي، يتناول الشاعر تقريبا جميع مجالات الشعر ويطرق معظم أبوابه الوطنية والقومية والاجتماعية والعاطفية والذاتية، بل أنه تناول حتى الهجاء ولكن بلغة متأدبة تحفظ للشعر قيمته وللشاعر إنسانيته، وقد استطاع الشاعر من خلال هذا الإصدار أن يثبت شاعريته وتمكنه من خلال جعل القصيدة جسد واحد محكم ودقيق لا حشو فيه ولا رتابة، فالقارئ للنص يشعر وكأنه يعايش الشاعر في حزنه وحلمه وألمه وغضبه وكأنه يتغلغل في نفسه ويرى طريقة تفكيره وحياته، وهذا يدل على نضج تجربة الشاعر الفنية والأخلاقية وصدقها على حد السواء، كما بدا لي أن الشاعر كان وفيا للحزن وللحلم وللوهم من خلال كثرة ورودها سواء كان بالتصريح أو التلميح داخل النصوص ولعل وفاءه هذا أنعكس ايجابيا على شاعريته، فهو في صومعة هذا العشق يقيّض بأطراف الصقيع المر، وكلّما جدّت طعون الحلم يتساقط حنينه على ضفاف نهر من رخام، درّاقا ينعي القحط بكاريزما تفاحة معلقة في طرف عنقود من وهم متحقق. كما أن الشاعر ومن خلال اللغة التي يستخدما بدا متفهما ومحترما لحالة المتلقي وثقافته، وواعيا للرسالة التي يحاول إيصالها، فهو في طرحة أعتمد على لغة شفافة رقيقة معتدلة ووسطية بين التعقيد والبساطة، محافظا على نقاط التقاءه مع المتلقي من خلال التركيز على عنصري الجمال الفني والعاطفي في النص بشكل متوازن بعيدا عن الترف الفكري المعقد ومجانية الطرح والإسفاف، وبذلك فهو يحقق المعادلة الصعبة في تحقيق الرضا النفسي والذاتي لشاعريته وإرضاء جمهور المتلقين بكل شرائحه، وقد بدا وكأنه يفصّل لغته على مقاس فكرته والوزن العروضي للنص، ورغم شعورنا بتلقائيتها إلا أن عمقا كبيرا يثير دهشتنا ويجعلنا مشدودين لها، فالشاعر يهيئ للفظ نظاما ونسقا يحقق المعنى دون أن يكون مطابق له معجميا، يقول (وأنا ترى لا بغيت أمر بصلّي قصر) للإشارة إلى انتفاء صفة الإقامة له في المكان المشار إليه، فهو في حالة سفر طويل ومستمر، ويقول (الليل مطفي والقمر قاطع وصال) للإشارة إلى قطع الرجاء من فرج قريب، ويقول (أمنح رخام الصبح نقش التباشير) ليدعونا إلى التفاؤل، وغيرها من الأمثلة كثير، بالإضافة إلى ما سبق على صعيد اللغة فإن الشاعر يتقن استخدام هندسة الصوت لإحداث إيقاع أعمق وأكثر تأثيرا في نفس المتلقي، وذلك من خلال تكرار حرف معين أو حروف لها نفس المخرج في كل أو معظم المفردات الممثلة للجملة في الشطر أو البيت مثل (صوتها يستدرج السامع ونبضة يستجيب)، (كم ثكلى ما بكت)، (جسرك تسرب من مساماته )، (لا طاح يا حادي الجمل طاح الجمل بما حمل) وغيرها كثير. وتأتي الصورة الشعرية لدى الشاعر ناصر الغيلاني خصبة متعددة المصادر والأشكال، وقد تجاوز الشاعر التشبيه والاستعارة من خلال تقديمه للصورة البصرية المعتمدة على الخيال ودقة الملاحظة، فقد استغل الشاعر اللقطات البصرية القائمة على الإيحاءات التي تخلقها المناظر الطبيعية وغيرها من السمات البشرية الطبيعية ليمنحنا صورة فنية بديعة ذات دلالة بليغة تخدم المعنى وتشرحه دون التصريح به من خلال استدعاء الذهن لبعض الصور المخزونة فيه، مثل قوله (متسنّدٍ راس القمر كف الأتراح) للدلالة على الحزن، وقوله (المشاعر ريح في صدري وأحلامي ذرات) للدلالة على الشتات، وقوله (التطور جاك يسعى رافع يدينه) للدلالة على تذليل حضرة صاحب الجلالة حفظة الله على أسباب التطور وتطويع معيقاته، وقوله (مات الجمر وترملت بعده دلال) للإشارة إلى الفقد، وغيرها من الصور الكثيرة التي لا يتسع المجال لذكرها. كما تجدر الإشارة إلى ما حققه الشاعر من نجاح ووعي ذكي في استخدام القافية لخدمة الفكرة العامة للنص، فعلى سبيل المثال في نص (وينك عمر) والي يرثي فيه الشاعر حال الأمة وما وصلت إليه من هوان فإنه يستخدم قافية نائحة في كل من الصدر والعجز (بوح ، نوح، ..)، (جراح، أشباح، ..)، وفي نص آخر يعاكس فيه الفكرة السابقة وهو نص (درّاق) والذي تناول فيه فكرة القوة والصمود والبقاء يستخدم حرف الدال في القافية ( جيادي، عنادي، ..) والمعلوم بأن هذه القافية قافية حديدية تمتاز بالقوة، فقد كان الشاعر في معظم إن لم يكن جميع النصوص حريصا على أن تكون القافية مكمل دلالي وموسيقي للبيت الشعري وليس مكمل موسيقي فقط ولذلك فإن المعنى يكتمل بنهاية آخر كلمة في البيت ولا تستطيع أن تبتر الكلمة الممثلة للقافية لأن دلالة البيت ستنقطع وهذا ما يحافظ على تصاعد الدفقة الشعورية داخل البيت الشعري ليتم تفريغها في ذهن المتلقي كاملة في نهايته. ومما تجدر الإشارة إليه في إصدار سكة الشريان هو وضوح ثقافة الشاعر وسعة إطلاعه على الموروث العربي والشعبي التاريخي والأدبي وذلك من خلال مجموعة الإسقاطات والرموز التي استشهد بها الشاعر في أكثر من موقع في الإصدار، مثل (أبو جعفر المنصور) وسيدنا (عمر بن الخطاب) و(الزير سالم) و (ابن زيدون) وغيرها من الشخوص والأحداث التاريخية، بل أن الإصدار كشف أيضا عن المخزون المعرفي الذي يمتلكة الشاعر حتى في مجال العلوم التطبيقية عندما حاول التمثيل بالجاذبية وبعض المظاهر الفلكية والفيزيائية، وفي السياق نفسه برزت البيئة كمؤثر هام على كتابات الشاعر فتحدث الشاعر عن الصحراء وطفل البدو والدلة والقهوة كرموز للمكان الذي تربى فيه وما زال متأثرا بقيمة النبيلة والأصيلة فجاءت قصائده مفعمة بروح الحكمة والموعضة مستشهدا ببعض الأقوال المأثورة التي تتناقلها الأجيال وهذا ما يجعل لقصائد الشاعر ناصر الغيلاني صدى قوي وطويل الأمد في نفس المتلقي ولن أستغرب أن أجد العديد من جمهوره يحفظون بعض قصائده أو يجعلون من بعضها أمثالا سائرة. في الختام أود أن أشير إلى نقطة مهمة جدا وهي أن الشاعر ناصر الغيلاني في هذا الإصدار قد تجاوز مرحلة التأثر وبدأ فعلا في شق طريقه الخاص وإبراز سماته الكتابية الشخصية، حيث أنني لم أجد من بين قصائده ما يشير إلى روح شاعر آخر وهذا محل فخر، ونحن نسعد بأن تزخر ساحتنا الشعرية الشعبية العمانية بشعراء على هذه الشاكلة. علي بن سالم بن سيف الحارثي مجلس الشعر الشعبي العماني 21/رمضان/1429هـ الموافق 22/سبتمبر/2008م | ||
![]() | ![]() |