• ×
السبت 1 نوفمبر 2025 |

الانحياز للوطن الحلم

0
0
1443
 

الانحياز للوطن الحلم
للكاتبة : د. سعيدة بنت خاطر الفارسية


حينما تشاهد فيلم انتقال جلالة السلطان من صلالة إلى مسقط كي يقسم قسم الولاء معلنا بداية عهد جديد في تاريخ الأمة العُمانية ومسجلا لحظة ميلاد الدولة الحديثة ، فإن السؤال الذي يلح عليك في هذه اللحظة التاريخية ، ما الذي يدور في ذهن هذا الشاب الذي اعتلى عرش عُمان ؟ هذه البلاد التي لا أبواب لها ولا نوافذ بل ولاطاقة صغيرة تطل منها على وهم التحضر ، هذه البلاد القابعة في انتظار مخاض جديد قد يأتي وقد يكون نتاج حمل كاذب ؟ ، هذه البلاد التي لم تنل حظها من أي فعل يحلم فيه شعبها بالتحضر بعد ، وهل كان العرش هدفا يحلم به ذلك الشاب مرصعا بالأعمال التي تنتفخ بها الذات و محاطا بزخارف المجد الشخصي ؟ مثله في ذلك مثل كل آت جديد على عرش بلد أنهكه الفقر ، ونهش في بنيانه الجهل ، ومزقته الحروب الداخلية والقبلية ، وتوارى خلف هذا كله تراث عظيم ضارب في عمق التاريخ بجذوره .

إن هذا السؤال لم تفجِّره تلك الأحداث المباغته الجارية في طول البلاد وعرضها ، أو ذلك الحراك المجتمعي والسياسي ، والذي يؤشر إلى ظاهرة صحية تؤكد يقظة وحيوية الشعب العُماني ، وذلك ضمن رياح التغيير التي هبت نسماتها على بلداننا العربية ، فعصفت بأنظمة وارتجفت لها أنظمة أخرى انتظارا وترقبا ، وإنما الذي فجره هي تلك الخطوات التي قام بها هذا الشاب الحالم بالوطن منذ اعتلاء عرشه ، والتي أعتقد الكثيرون ممن عاصروها ، أنها خطوات ضمن منظومة للبحث عن المكانة في صفحات التاريخ ، إلا أن ما قام به جلالته منذ بداية الأزمة في صحار وإراقة أول قطرة دم عُمانية ، قد أبان وبصورة جلية عن إجابةٍ للسؤال الملح والمبهم في آن واحد ، إنه الانحياز إلى الحلم أو الوطن ، فالوطن لم يكن في ذهن الشاب المعتلي عرشه حينذاك جغرافية المكان ، أو ألوان علم زاهية ترفرف مع عزف السلام السلطاني ، بل كان الوطن هو الحلم هو الإنسان ، هو الإيمان بهذا الشعب وقدراته وحقه في التواجد بقوة بين الأمم الأخرى كريما رافعا رأسه . وأن محو هذا الحلم هو محو لكل عناصره المتنوعة المتداخلة .

إن الخطوات الجادة والمتسارعة لتحقيق طموحات الشعب وتلبية تطلعاته على مستوى جميع طبقاته الكادحة والعاملة في شتى مجالات الحياة صغيرها وكبيرها ، حلوها ومرها ، إنما هو في واقع الأمر انحياز للحلم وللوطن وللشعب ، الأمر الذي دفعه دون تردد أو تأخر إلى نسيان الذات والأنا في تلك اللحظات التي يمكن أن تفاجئ رأس الحكم ، وكما شاهدنا إياها في العديد من الأنظمة المتهاوية والتي مثلت نموذجا صارخا لابتعاد رأس الحكم عن جسده ، لذا لم يتردد جلالته لحظة واحدة لتعطيل مراسيم كان قد اتخذها بنفسه سعيا لتحقيق مطالب الشعب ، فلم تأخذه العزة كما أخذت الكثيرين ممن سقطوا ولذلك لم نشهد دماء مسالة في الميادين والشوارع كما نشاهد ونرى في بقاع أخرى ممن تثبتوا بشهوة الكراسي ، وهذا الإنكار للذات وعدم التردد هو ما جعلنا نعتقد بل ونجزم ، أن ما دفعه لذلك هو انحياز للحلم الذي كان في ذهنه وقت اعتلاء العرش .

إن رؤية موضوعية تحاول أن تفك إسارها من لحظة الانبهار حتى لا تتهم من هنا أو هناك بالانحيازية أو ركوب موجة الحديث في الأحداث الجارية كي تجد لها موضع قدم ، يتحتم عليها أن تتسم بالنزاهة قدر الإمكان لرؤية الواقع من خلال تسلسل الأحداث وتحليل المواقف ، وهذا ما يجعلنا نقرر حقيقة لا جدال فيها ، وهي الانحياز الواضح للشعب الذي هو عنصر من عناصر الوطن الحلم ، والذي تجلى في أبهى صوره من خلال الخطوات المتسارعة للإصلاح وتحقيق تطلعات الشعب ، وهذا ما يعكس التالي :

إن جلالة السلطان بهذه الخطوات سواء أكانت على الجانب الاقتصادي أو السياسي إنما يرسخ مفهوم الضمانة الأساسية للشعب لا لتتماسك الدولة كهدف سام ، بل لوضع آلية تحكم من خلالها ما بين آمال وتطلعات الشعب وبين الأداء الحكومي تجاه ما تم إنجازه وأوجه التقصير أو الخروج عن المسار .

إن الانحياز الواضح للشعب جعل الأمر كله في ملعب الشعب ذاته ودرجة وعيه ، بحيث يجب على هذا الوعي أن يفرق بين السعي للإصلاح وبين مفهوم هدم الدولة وهيبتها ، فالإصلاح أمر لا عودة عنه ولا رجعة فيه ، وقد وضحت معالمه من خلال المطالبات التي أولاها عنايته ولم يجعل بينه وبينها فاصلا ، تجلى هذا سواء على مستوى تحقيق الكثير من المطالب أو التي مازالت محل دراسة وعلى ألسنة المحتجين ، وإن كانت الخطوات التي تمت هي في واقع الأمر دليل على حسن النوايا للإصلاح الجاد والحاسم مادامت تحقق تطلعات غالبية الشعب من جهة ، ومن جهة أخرى ترسخ مبدأ المشاركة والرقابة الشعبية ومن جهة ثالثة تؤسس لمرحلة جديدة تتناسب ومدى الوعي الشعبي والحراك المجتمعي وتفتح آفاقا واسعة لمستقبل واعد تتجنب فيه الدولة العديد من الأخطاء التي يمكن أن تقع فيها .

إن الحالة العُمانية هي حالة إصلاحية منذ البداية ، إذ يتفق الجميع على التمسك بالنظام السياسي وبجلالة السلطان قائدا وضمانة لتحقيق الآمال والطموحات ، لذا فمن المهم أن يتفهم المجتمع أن الحركة الإصلاحية هادئة الطباع تأتي بعد دراسة وخاصة فيما يتعلق بالجانب السياسي والموازنات بين التيارات الفكرية المختلفة في الفكر العُماني الجديد والذي هو نتاج هام لما قامت به المرحلة السابقة من النهضة والتي يجب أن يتفق الجميع على كونها هامة وآتت أكلها وأن ما يحدث من حراك سياسي ومجتمعي ما هو إلا نتيجة ودليل على قوة النهضة وحيوية الشعب العُماني المتطلع لمستقبل واعد وقيادة متفهمة وواعية لشعبها ، لذا فخطوات الإصلاح تتراوح بين الهدوء مرة والمتسارعة أخرى تبعا لماهيتها وارتباطها بالحالة ، وهي بذلك تفرق بينها وبين خطوات الثورات في مصر مثلا أو تونس حيث أن مفهوم الثورة ذاته يعني التغيير الشامل لنظام لوضع نظام آخر أتت به الثورة ، وهذا ما يجعل على الشعب ووعيه بهذه الفروقات مهمة تفهم تأخير بعض المطالب أو الإسراع بالأخرى أو إتاحة الفرصة لمساحة أوسع للمناقشة الدارسة لها ، وهي بذلك تأتي متسقة مع الحفاظ على النظام القائم دون الإخلال بماهية المطالب وجوهرها .

إن الانحياز الكامل لمطالب الشعب من قبل رأس الدولة يتطلب هو الآخر الانحياز الكامل من الشعب لمساندة ومعاضدة رأس النظام بغية تحقيق كامل المطالب في ظل تغيير هادئ لا يخل بالحياة والاقتصاد القومي والصورة الخارجية للدولة ، حتى لا تتعطل خطط التنمية وتثير فزعا لدى المستثمر العُماني أو الأجنبي ، بل ويعطي ثقة تامة في عُمان كشعب واع ودولة راسخة ذات مؤسسات فاعلة لا ترتبط بعصر أو شخوص بل بالقانون والمبادئ ، وهذا في حد ذاته إنجاز هائل يفتح الآفاق أمام التغييرات مع عدم التأثر على الوضع العام وخاصة في منطقة تموج بمتغيرات إقليمية ودولية توصف على أقل تقدير بأنها على صفيح ساخن ، وتأتي مهمة الطبقة المثقفة والقائدة لحركة التغيير والإصلاح مهمة نشر الوعي المتسق بأهداف التغيير الرزين غير الهوجائي أو غير المسئول ، وهذا هو ما نقصده بالانحياز الواعي للدولة ورأس الحكم فيها .

إن ما قام به جلالة السلطان قد أضاف في حقيقة الأمر مفهوما آخر للشرعية الحاكمة ، إذ أن شرعية الحكم الآتي من التوارث قد أضيف له الشرعية الشعبية المؤيدة له ، حيث ظهر هذا جليا من خلال الانحياز الكامل من قبل جلالته لشعبه والانحياز الكامل من شعب عُمان إلى قيادته ، وهذا ما يجعل الشرعية الحاكمة تنتقل من مجرد ملكية إلى كونها ضمانة للاستقرار والتقدم ، وتعبيرا عن الحركة الإصلاحية الدائمة . وقد لمسنا مدى انحياز الشعب الكامل إلى قيادته برفع صور جلالة السلطان لدى جميع المعتصمين وتوجيه المطالب والمقترحات لشخص جلالته الأمر الذي يترجم مدى ثقة هذا الشعب بقيادته ومدى الاعتراف بفضله وبحبه لهذا الوطن واستقراره ومن ثم التفاف الجميع حول جلالته واتفاقهم على محبته ، إن هذه الجوانب التي تم استعراضها سلفا تقودنا إلى جملة من المبادئ التي يجب أن ترسخ في عدد من المحاور تتمثل فيما حققه جلالة السلطان من أن الوطن يأتي أولا و فوق كل اعتبار أو أي شخوص أو قيادات بل فوق الأنا ذاتها من خلال المثل والقدوة فيما اتخذه من تعطيل لقرارات وتغييرها متجانسة ومطالب الوطن والشعب .

كذلك إن الشعب يجب أن يرتفع وعيه لطبيعة التغيير الإصلاحي وكونه يفرق عن الطبيعة الثورية حتى لا تتم مقارنات زائفة أو خلط ينتج عنه افتقاد الثقة فيما يتخذ من قرارات .
وليعي الشعب أن تباطؤ بعض الخطوات التي هي محل الدراسة والتمحيص هو تباطئ لجعلها الأفضل ، وكذلك كون الرأي لا ينفرد به تيار على حساب آخر حيث أننا شركاء في هذا الوطن وعليه يجب الأخذ بعين الاعتبار تحقيق الأفضل بغض النظر عما إذا كان يوافق تيار أو يخالف آخر ، فإن اجتماع الشعب والقيادة على هدف واحد هو الوطن ومستقبل عمان ونهج الشورى الإسلامي يجعل التيارات المختلفة تتقبل تحقيق رؤيتها أو تحقيق رؤية مغايرة لها دون فقد الثقة أو الاتهامات والتخوين للآخر .

أما عن النخبوية سواء المثقفة أو التشريعية أو التنفيذية أو الإعلامية فيجب أن تعي هي الأخرى أن عليها مهمة التنوير لا الترويج و أن الحجة لا تقاوم إلا بالحجة وأن الخروج عن هذا المسار ما هو إلا هدم للدولة ومستقبلها وتلاعب بمقدرات الشعب والتي هي خط أحمر لا يجب المساس به تحت أي ظرف من الظروف أو حجة من الحجج ، حتى ترتفع إلى مراتب الآمال والطموحات للشعب والقيادة ، وذلك من خلال ترسيخ مبدأ الشفافية والطرح العقلاني المؤسس على رؤى تنطلق من الوطن للوطن لا من الأنا إلى الأنا ولنا في جلالته القدوة والمثل .

كما يجب أن تتمتع تلك النخب وخاصة الثقافية والسياسية منها بروح المشاركة الجادة في التوعية واتخاذ موقف واضح إذ لاينفع في مثل هذه الأوقات الاكتفاء بالفرجة والانكفاء على الذات أو إمساك العصا من المنتصف لشراء خواطر فئة ما ، فالسلبية هنا مضرة وسينعكس ضررها على الجميع في وقت لا ينبغي أن نشترى فيه سوى الصالح العام لهذا الوطن . وأخير هل يمكن أن نختلف الآن ـ وهذا وارد بالطبع ـ في أن السؤال الملح منذ بداية المقال قد وجد إجابته الواضحة والقاطعة في أن ذلك الشاب حينما اعتلى عرش البلاد لم يكن يسعى إلى كرسي أو منصب أو مجد شخصي زائل وإنما كان يسعى لتحقيق حلمه في وطن عال وشعب حر كريم ، وليبقى السؤال الأهم والأكثر إلحاحا والذي سيجاب عنه في الأيام والسنوات القادمة : هل يؤمن الشعب بحلم الوطن كما آمن جلالته به ؟ وهل سيبذل الشعب مثلما بذل جلالته ؟ وهل سينكر الشعب أناه مثلما فعل جلالته ؟
كلي ثقة في هذا الشعب وأن إجابة السؤال ستكون حتمية بالإيجاب وذلك من خلال التاريخ الذي يقول ذلك ومن خلال الفهم الجيد للشخصية العُمانية المؤمنة بربها ووطنها وسلطانها .