قراءة إنطباعيه في قصائد نواف الشيادي
02-13-2011 09:38 مساءً
0
0
2014
قراءة إنطباعيه في قصائد نواف الشيادي
للكاتب ياسر الغانم
يقول مجنون ليلى:
قالت جننتَ على ذكري فقلت لها
الحبُّ أعظمُ ممّا بالمجانينِ
الحبُّ ليس يفيقُ الدهرُ صاحبُهُ
وإنّما يصرَعُ المجنونُ في الحينِ
وقيل سابقا: المحبة شجرة أصلها الزيارة، قال الشاعر:
زُر من تحبُّ وإنْ شَطّتْ بكَ الدار
وحالَ من دونِهِ حجبٌ وأستارُ
لا يَمْنَعَنّكَ بُعْدٌ من زيارتِهِ
إنَّ المحبُّ لمن يهواه زوّارُ
وقال آخر:
وبعض العتاب إذا ما رفقت
يباعد هجر أو يدني وصالا
فعاتب أخاك ولا تجفه
فإن لكل مقام مقالا
لهذا جاءت هذه القصيدة تتساءل عن ذلك المحب الذي قد أطال الغياب عن حبيبه الذي أثقله الغياب ثقل لا يقوى لأن يتحمله أكثر من هذا، إن لهذه القصيدة وقع خاص وإحساس ينبض بعتاب صادق ورقيق من قبل المحب للمحبوب، عبارة عن رسالة بنيت على التساؤل فلقد بدأها بلفظة (وينك) وهذه اللفظة تفيد الاستفهام الاستئناسي وشيءٌ من الإبطاء والتنكر، وكأن المحبوب قد جاء إلى محبوبه من بعد غياب فيسأله ليستأنس بالإجابة منه، فالعاطفة هنا قد طغت على العقل وسبقت كل شيء كان إذ نراه (الشاعر) يسترسل في الكلام ووصف حالته النفسية في الأبيات بقوله: (هو عاد ... ، في غيبتك...يعني الجروح... مرت سنة... ولا صورتك...وعيني تشوفك... لك صرت أحبك... واخاف أحبك... باموت من كثر... ولك حالتي...) حتى لم يستطع أن يخفي ما بنفسه وأن يكبته مدى العمر فلقد ضاقت نفسه من كثر الوله وفاضت بالشعر، وأي شعر هذا؟ إنه سلاحه الذي يهدي به نفسه كلما ثارت ولم يستطع أن يكبحها من شدة الوله والشوق وكأنه طائر يطير ليستقر بعشه، إلا إن هذا الطائر قد كُتِبَ له بأن لا يجد مكانه وعشه ليستقر، فإذا ما ولجنا إليها لوجدناها تنقسم إلى قسمين أساسيين وهما: القسم الأول هو قول الشاعر:
وينك؟ لقيت العمر في بعدك أشباح
هو عاد ترضى صاحبك يخذله عمر
في غيبتك// زادت جروحي مع جراح
يعني الجروح... إتزيد في غيبتك كثر
كثر الطيور (اللي ملّت) عشك صياح
وكثر اشتياق أوراقي إل خافق الحبر
مرت سنه/.. وشهرين/.. واسبوع/.. واتراح
ولا صورتك مرت//.. ولا صوتك يمر
وعيني تشوفك/.. والمسافات.. يا صاح
ضاقت من جناح الوله/.. وانفضت شعر
والشعر عندي سلاح في هيئة جناح
ولا قر شخصك داخل الجوف... يا البدر
وكما قلنا سابقا بدأ الشاعر نصه بلفظة جميلة جدا وذكية، وبها شيء من اللهفة والشوق والرقة، وهي عبارة عن سؤال لشد انتباه السامع ، بعدها استرسل في شرح ما في ابتعاد محبوبه عنه فترة ذكرها الشعر وحددها وهي: سنة وشهرين واسبوع، وكيف كان يكتب الشعر له، إذ كان يأمل أن يحرك شيئا ما في قلب من كُتِبَ له، فالإبطاء والتنكر قد رحلا ما أن وقف المحبوب أمام محبوبه، فهذا الاسترسال السريع في شرح ما ضمه الصدر يأتي لشدة الشوق لهذا المحبوب فالمحب حين يرى من أحب فإنه يسترسل في الكلام وقد يطول به المقام وهو لا يشعر بذلك ولا يلام على هذا، فالشاعر يقول :
لا تنكروا خفقان قلبي
والحبيب لدي حاضر
ما القلب إلا داره
دقت له فيه البشائر
والآخر يقول:
يقول لي حين وافى
قد نلت ما ترتجيه
فما لقلبك قد جا
خفقه يعتريه
فقلت وصلك عرس
والقلب يقرص فيه
فقد يظن البعض بأنه عتاب (الاسترسال) يثقل على المحبوب وقد يجعله ينفر من محبوبه وهذا جائز إلا إني أرجّحُ عكس ذلك، فإن القدامى قالوا فيه: \" العتاب خيرٌ من الحقد، ولا يكون العتاب إلا على زلة، والعتاب حدائق المتحابين ودليل على بقاء المحبة\" فقد قال أبو الحسن المنقذ:
أسطو عليه وقلبي لو تمكن من
يدي غلّها غيظا إلى عنقي
واستعير له سطوتي حنقا
وأين ذل الهوى من عزة الحنق
فكل ما كتبه الشاعر من أشعار ومن ذكرى لم يحرك ساكنا بقلب من أحب، والقارئ أو السامع العادي حين ينظر للأبيات يتبادل إلى ذهنه أن الشاعر أمام محبوبه وقد وقف ليعاتبه ويستذكر معه ما كان، وهذا الأمر ما يدلنا عليه قوله في القسم الثاني من النص :
يرضيك.. أخبر سيرتك كل من راح
واني أكون إنسان قاسي من القهر
لك صرت (أحبك) حب مقياسه رماح
وأخاف (أحبك) حب الأشواق للنحر
باموت من كثر السهر// وأنت مرتاح
ولك حالتي حاله// يسمونها الفقر
يرضيك جاري ينام بوسادة أفراح
وينام فيني الليل// واصافح الفجر
واتمتمك// والجرح محتاجك وشاح
واقبلك// لا مر طيفك على الجمر
وفي هذا القسم يظهر شيء من الشدة على المحبوب من قبل المحب، إذ يرسل له عبارات تهديد ووعيد من قبل الاستفام الاستعطافي الذي بدأه بالفعل المضارع بأول الشطر الأول والذي ذكره(يرضيك) والذي حذفه في الشطر الثاني في وقوله (وإني أكون..)، حيث نجد إن الشاعر بكامل وعيه حين قال البيت السابق إذ يذكر لنا السبب في ذلك بقوله: (لك صرت.. وأخاف أحبك...باموت من كثر...لك حالتي..) فهذا يدلنا على ضيق الشاعر وكبر محنته التي لم يعد يتحملها، هنا يبدأ الشارع بالانفجار تدريجيا في وجه محبوبه حزن وأسى وحيرة وذلك بأسئلته التقريرية والتي تكون إجابتها بنعم أو لا، والمتضمنة بالاستعطاف (يرضيك جاري ينام... وينام فيني الفجر... واتمتمك والجرح... واقبلك لا مر...)، إلا إن المحبوب لم يعير الشاعر أيّ اهتمام لذا يَصل إلى ذروة الإنفجار فيرسل له هذه الرسالة والتي تدل على أن المحبوب لم يكن أمام الشاعر، أو إننا نفهم منها إن المحبوب قد ضاق من استرسال الشاعر في العتاب.
أما تجي.. وترد ل طيورك أرواح
أو هي تموت ويحفر اجناحك القبر
فالتخيير يبدوا واضحا للكل ولكن الاشكالية تكمن في مفردة (طيورك، اجناحك)، فالطيور أراه يقصد بها تلك القصائد التي طارت من صدره دون أن يملك الخيار في ردعها فالطير حين يشتد عوده ويكبر يطير من العش الذي تربى فيه وذلك ليكمل سنة الحياة التي أنشأها الله عز وجل, وجناحك من الجُنح وهو الميل، بمعنى آخر إن ميلك يحفر القبر لهذه الأرواح الجميلة كما يحفر القبر, فمجيئك أيها المحبوب هو الحل الوحيد ليجعل هذه الطيور بأرواحها.
يقول الشاعر:
لا أستطيع سلوًا عن مودّتها
أو يصنع الحبُّ بي فوق الذي صنعا
وهذا ما يتعب نفسية الشاعر ويؤرقها، حيث يتجلى ذلك في أحرف القوافي فصفاتها وأعني بذلك قافية الصدر وقافية العجز فإننا نجد أن قافية الصدر انتهت بحرف المد (الألف) وحرف الحاء، فحرف المد من الحروف اللينة والمنخفضة والجهورية والدالة على الافتراق والانشراح، وأما حرف (الحاء): فإنه من الحروف الهامسة والرخوة والمنخفضة والمنفتحة والمصمتة، فالشاعر حين ينطق بالقافية هنا يحس براحة نفسية وإن كانت غير محسوسة إلا إنه يشعر بها نوع ما، مما يدل على أن الموقف هنا به شيء من الراحة والطمأنينة بين الشاعر والمحبوب، رغم ما يخفيه الشاعر في نفسه خوفا من أن يجرح محبوبه في الكلام ويفقدهُ، وهذا ما يلوّح به صوت حرف الحاء فهو من حروف الاصمات والانفتاح، والهمس، والاصمات في اللغة الصمت، والانفتاح الافتراق, والهمس الخفاء، فالشاعر هنا يخفي أشياء كثيرة في جوفه ويرسلها لمحبوبه بطريقة غير مباشرة مراع ٍ فيها مشاعره وأحاسيسه وهنا يكمن الحب الحقيقي، إذ يقول الشاعر:
إذا ما أتَتْ من صاحب ٍ لك زلةٌ
فكن أنتَ مُحتالا لزلتهِ عذرا
ويقول الآخر:
وكنتُ إذا الصديقُ أرادَ غيظي
وشرَّقني على ظمأ بريقي
غفرتُ ذنوبَهُ وكظَمتُ غيظي
مخافةَ أن أعيشَ بلا صديق ِ
وأما قافية العجز فقد انتهت بحرف الراء، قبلها حرف ساكن، فالسكون الذي بالحرف يدل على القبض عند النطق به وعلى شدة تتمركز هذه الشدة في الضغط على مخرج الحرف مما يوحي لنا أن الفراق قد آلم الشاعر لدرجة لم يعد يستطيع الاستمرار في الحديث، وكأن حاله حال الشاعر الذي يقول:
خاضَ العواذلُ في حديثِ مدامعي
لمّا غدا كالبحرِ سرعةُ سيرِهِ
فحبستُهُ لأصونَ سرَّ هواكمو
حتى يخوضوا في حديثٍ غيرِهِ
وهذا الحرف (أي الراء) من الحروف الدالة على الافتراق، وإعادة الشيء مرة بعد أخرى، والميل عن الشيء والعدول عنه، فحين نسمع صوت هذا الحرف فإنه يوحي لنا بأن هناك الكثير من المحاولات لاستلطاف المحبوب ومحاولة ميله عن الأمر الذي هو فيه، وأمره في إعادة النظر في قراره بكل رقة، وهذا الاصرار على المحاولة وإعطاء المحبوب الوقت الكافي لمراجعة نفسه وعدم اليأس من رجوعه يذكرني بالبيت الشعري الذي يقول:
لأخــرجــن مـــــن الـدنــيــا وحـبــكــم
بـيــن الـجـوانـح لـــم يـشـعـر بــــه أحــــد
ويذكرني بقول تلك المرأة التي مر عليها أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك ومعه يزيد بن المهلب وهي تبكي على قبر حبيبها وسألها يزيد أن تكون زوجا لأمير المؤمنين وقالت:
فإن تسألني عن هواي فإنه
يجول بهذا القبر يا فتيانِ
وإنّي لأستحْييه والقبر بيننا
كما كنت استَحييه وهو يراني
للكاتب ياسر الغانم
يقول مجنون ليلى:
قالت جننتَ على ذكري فقلت لها
الحبُّ أعظمُ ممّا بالمجانينِ
الحبُّ ليس يفيقُ الدهرُ صاحبُهُ
وإنّما يصرَعُ المجنونُ في الحينِ
وقيل سابقا: المحبة شجرة أصلها الزيارة، قال الشاعر:
زُر من تحبُّ وإنْ شَطّتْ بكَ الدار
وحالَ من دونِهِ حجبٌ وأستارُ
لا يَمْنَعَنّكَ بُعْدٌ من زيارتِهِ
إنَّ المحبُّ لمن يهواه زوّارُ
وقال آخر:
وبعض العتاب إذا ما رفقت
يباعد هجر أو يدني وصالا
فعاتب أخاك ولا تجفه
فإن لكل مقام مقالا
لهذا جاءت هذه القصيدة تتساءل عن ذلك المحب الذي قد أطال الغياب عن حبيبه الذي أثقله الغياب ثقل لا يقوى لأن يتحمله أكثر من هذا، إن لهذه القصيدة وقع خاص وإحساس ينبض بعتاب صادق ورقيق من قبل المحب للمحبوب، عبارة عن رسالة بنيت على التساؤل فلقد بدأها بلفظة (وينك) وهذه اللفظة تفيد الاستفهام الاستئناسي وشيءٌ من الإبطاء والتنكر، وكأن المحبوب قد جاء إلى محبوبه من بعد غياب فيسأله ليستأنس بالإجابة منه، فالعاطفة هنا قد طغت على العقل وسبقت كل شيء كان إذ نراه (الشاعر) يسترسل في الكلام ووصف حالته النفسية في الأبيات بقوله: (هو عاد ... ، في غيبتك...يعني الجروح... مرت سنة... ولا صورتك...وعيني تشوفك... لك صرت أحبك... واخاف أحبك... باموت من كثر... ولك حالتي...) حتى لم يستطع أن يخفي ما بنفسه وأن يكبته مدى العمر فلقد ضاقت نفسه من كثر الوله وفاضت بالشعر، وأي شعر هذا؟ إنه سلاحه الذي يهدي به نفسه كلما ثارت ولم يستطع أن يكبحها من شدة الوله والشوق وكأنه طائر يطير ليستقر بعشه، إلا إن هذا الطائر قد كُتِبَ له بأن لا يجد مكانه وعشه ليستقر، فإذا ما ولجنا إليها لوجدناها تنقسم إلى قسمين أساسيين وهما: القسم الأول هو قول الشاعر:
وينك؟ لقيت العمر في بعدك أشباح
هو عاد ترضى صاحبك يخذله عمر
في غيبتك// زادت جروحي مع جراح
يعني الجروح... إتزيد في غيبتك كثر
كثر الطيور (اللي ملّت) عشك صياح
وكثر اشتياق أوراقي إل خافق الحبر
مرت سنه/.. وشهرين/.. واسبوع/.. واتراح
ولا صورتك مرت//.. ولا صوتك يمر
وعيني تشوفك/.. والمسافات.. يا صاح
ضاقت من جناح الوله/.. وانفضت شعر
والشعر عندي سلاح في هيئة جناح
ولا قر شخصك داخل الجوف... يا البدر
وكما قلنا سابقا بدأ الشاعر نصه بلفظة جميلة جدا وذكية، وبها شيء من اللهفة والشوق والرقة، وهي عبارة عن سؤال لشد انتباه السامع ، بعدها استرسل في شرح ما في ابتعاد محبوبه عنه فترة ذكرها الشعر وحددها وهي: سنة وشهرين واسبوع، وكيف كان يكتب الشعر له، إذ كان يأمل أن يحرك شيئا ما في قلب من كُتِبَ له، فالإبطاء والتنكر قد رحلا ما أن وقف المحبوب أمام محبوبه، فهذا الاسترسال السريع في شرح ما ضمه الصدر يأتي لشدة الشوق لهذا المحبوب فالمحب حين يرى من أحب فإنه يسترسل في الكلام وقد يطول به المقام وهو لا يشعر بذلك ولا يلام على هذا، فالشاعر يقول :
لا تنكروا خفقان قلبي
والحبيب لدي حاضر
ما القلب إلا داره
دقت له فيه البشائر
والآخر يقول:
يقول لي حين وافى
قد نلت ما ترتجيه
فما لقلبك قد جا
خفقه يعتريه
فقلت وصلك عرس
والقلب يقرص فيه
فقد يظن البعض بأنه عتاب (الاسترسال) يثقل على المحبوب وقد يجعله ينفر من محبوبه وهذا جائز إلا إني أرجّحُ عكس ذلك، فإن القدامى قالوا فيه: \" العتاب خيرٌ من الحقد، ولا يكون العتاب إلا على زلة، والعتاب حدائق المتحابين ودليل على بقاء المحبة\" فقد قال أبو الحسن المنقذ:
أسطو عليه وقلبي لو تمكن من
يدي غلّها غيظا إلى عنقي
واستعير له سطوتي حنقا
وأين ذل الهوى من عزة الحنق
فكل ما كتبه الشاعر من أشعار ومن ذكرى لم يحرك ساكنا بقلب من أحب، والقارئ أو السامع العادي حين ينظر للأبيات يتبادل إلى ذهنه أن الشاعر أمام محبوبه وقد وقف ليعاتبه ويستذكر معه ما كان، وهذا الأمر ما يدلنا عليه قوله في القسم الثاني من النص :
يرضيك.. أخبر سيرتك كل من راح
واني أكون إنسان قاسي من القهر
لك صرت (أحبك) حب مقياسه رماح
وأخاف (أحبك) حب الأشواق للنحر
باموت من كثر السهر// وأنت مرتاح
ولك حالتي حاله// يسمونها الفقر
يرضيك جاري ينام بوسادة أفراح
وينام فيني الليل// واصافح الفجر
واتمتمك// والجرح محتاجك وشاح
واقبلك// لا مر طيفك على الجمر
وفي هذا القسم يظهر شيء من الشدة على المحبوب من قبل المحب، إذ يرسل له عبارات تهديد ووعيد من قبل الاستفام الاستعطافي الذي بدأه بالفعل المضارع بأول الشطر الأول والذي ذكره(يرضيك) والذي حذفه في الشطر الثاني في وقوله (وإني أكون..)، حيث نجد إن الشاعر بكامل وعيه حين قال البيت السابق إذ يذكر لنا السبب في ذلك بقوله: (لك صرت.. وأخاف أحبك...باموت من كثر...لك حالتي..) فهذا يدلنا على ضيق الشاعر وكبر محنته التي لم يعد يتحملها، هنا يبدأ الشارع بالانفجار تدريجيا في وجه محبوبه حزن وأسى وحيرة وذلك بأسئلته التقريرية والتي تكون إجابتها بنعم أو لا، والمتضمنة بالاستعطاف (يرضيك جاري ينام... وينام فيني الفجر... واتمتمك والجرح... واقبلك لا مر...)، إلا إن المحبوب لم يعير الشاعر أيّ اهتمام لذا يَصل إلى ذروة الإنفجار فيرسل له هذه الرسالة والتي تدل على أن المحبوب لم يكن أمام الشاعر، أو إننا نفهم منها إن المحبوب قد ضاق من استرسال الشاعر في العتاب.
أما تجي.. وترد ل طيورك أرواح
أو هي تموت ويحفر اجناحك القبر
فالتخيير يبدوا واضحا للكل ولكن الاشكالية تكمن في مفردة (طيورك، اجناحك)، فالطيور أراه يقصد بها تلك القصائد التي طارت من صدره دون أن يملك الخيار في ردعها فالطير حين يشتد عوده ويكبر يطير من العش الذي تربى فيه وذلك ليكمل سنة الحياة التي أنشأها الله عز وجل, وجناحك من الجُنح وهو الميل، بمعنى آخر إن ميلك يحفر القبر لهذه الأرواح الجميلة كما يحفر القبر, فمجيئك أيها المحبوب هو الحل الوحيد ليجعل هذه الطيور بأرواحها.
يقول الشاعر:
لا أستطيع سلوًا عن مودّتها
أو يصنع الحبُّ بي فوق الذي صنعا
وهذا ما يتعب نفسية الشاعر ويؤرقها، حيث يتجلى ذلك في أحرف القوافي فصفاتها وأعني بذلك قافية الصدر وقافية العجز فإننا نجد أن قافية الصدر انتهت بحرف المد (الألف) وحرف الحاء، فحرف المد من الحروف اللينة والمنخفضة والجهورية والدالة على الافتراق والانشراح، وأما حرف (الحاء): فإنه من الحروف الهامسة والرخوة والمنخفضة والمنفتحة والمصمتة، فالشاعر حين ينطق بالقافية هنا يحس براحة نفسية وإن كانت غير محسوسة إلا إنه يشعر بها نوع ما، مما يدل على أن الموقف هنا به شيء من الراحة والطمأنينة بين الشاعر والمحبوب، رغم ما يخفيه الشاعر في نفسه خوفا من أن يجرح محبوبه في الكلام ويفقدهُ، وهذا ما يلوّح به صوت حرف الحاء فهو من حروف الاصمات والانفتاح، والهمس، والاصمات في اللغة الصمت، والانفتاح الافتراق, والهمس الخفاء، فالشاعر هنا يخفي أشياء كثيرة في جوفه ويرسلها لمحبوبه بطريقة غير مباشرة مراع ٍ فيها مشاعره وأحاسيسه وهنا يكمن الحب الحقيقي، إذ يقول الشاعر:
إذا ما أتَتْ من صاحب ٍ لك زلةٌ
فكن أنتَ مُحتالا لزلتهِ عذرا
ويقول الآخر:
وكنتُ إذا الصديقُ أرادَ غيظي
وشرَّقني على ظمأ بريقي
غفرتُ ذنوبَهُ وكظَمتُ غيظي
مخافةَ أن أعيشَ بلا صديق ِ
وأما قافية العجز فقد انتهت بحرف الراء، قبلها حرف ساكن، فالسكون الذي بالحرف يدل على القبض عند النطق به وعلى شدة تتمركز هذه الشدة في الضغط على مخرج الحرف مما يوحي لنا أن الفراق قد آلم الشاعر لدرجة لم يعد يستطيع الاستمرار في الحديث، وكأن حاله حال الشاعر الذي يقول:
خاضَ العواذلُ في حديثِ مدامعي
لمّا غدا كالبحرِ سرعةُ سيرِهِ
فحبستُهُ لأصونَ سرَّ هواكمو
حتى يخوضوا في حديثٍ غيرِهِ
وهذا الحرف (أي الراء) من الحروف الدالة على الافتراق، وإعادة الشيء مرة بعد أخرى، والميل عن الشيء والعدول عنه، فحين نسمع صوت هذا الحرف فإنه يوحي لنا بأن هناك الكثير من المحاولات لاستلطاف المحبوب ومحاولة ميله عن الأمر الذي هو فيه، وأمره في إعادة النظر في قراره بكل رقة، وهذا الاصرار على المحاولة وإعطاء المحبوب الوقت الكافي لمراجعة نفسه وعدم اليأس من رجوعه يذكرني بالبيت الشعري الذي يقول:
لأخــرجــن مـــــن الـدنــيــا وحـبــكــم
بـيــن الـجـوانـح لـــم يـشـعـر بــــه أحــــد
ويذكرني بقول تلك المرأة التي مر عليها أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك ومعه يزيد بن المهلب وهي تبكي على قبر حبيبها وسألها يزيد أن تكون زوجا لأمير المؤمنين وقالت:
فإن تسألني عن هواي فإنه
يجول بهذا القبر يا فتيانِ
وإنّي لأستحْييه والقبر بيننا
كما كنت استَحييه وهو يراني