• ×
الجمعة 10 أكتوبر 2025 |

التحرير للتحرير

0
3
1193
 
التحرير للتحرير
للكاتبة : د . سعيدة بنت خاطر الفارسية


( تقولُ وكالة ُ الأنباءِ ماتوا
أقولُ لها ... لكلِّ هوىً ضريبة
لهم في الحبِّ قاموسٌ جديدٌ
همُ العشاقُ والأرضُ الحبيبة
دمُ الثوارِ تعرفه الطغاةُ
وتعرفُ أن قطرتــَه مهيبه
توضأتم به لأداءِ فرضٍ ...
سيغسلُ فجرهُ ذنبَ العروبة
ولي صحبٌ هناك
ولستُ أدري ...
شمالَ الموتِ أضحوا أم جنوبَه )

هكذا يلهمنا الحدث قصائد...وبدون أن نستدعي الشعر يهطل علينا هطول توالي الأحداث .. ويلهم البعض قصصا روايات لوحة تشكيلية رسمة كاريكاتير أغانٍ ونكت في غاية الطرافة ... أليس شر البلية مايضحك .

في روايته( ملائكة الجبل الأخضر ) يصف الأستاذ الشاعر الروائي عبدالله بن محمد الطائي ميدان التحرير و كيفية لقاء بطل الرواية العماني خالد المفاجيء بالأستاذ فاضل زميله العراقي الذي كان يعمل معه مدرسا في المدرسة السعيدية حتى عام 1947 م وهو الآن في 1956م يقول خالد واصفا ميدان التحرير آنذاك ( لقد تعودتُ أن أقضي أمسياتي في القاهرة بميدان التحرير ، وبينما أمشي بين حشائشه الخضراء.. أتطلعُ إلى قطرات الماء المتلألئة بالأضواء الملونة المتقافزة بين حبات النافورة بالميدان ، إذا بي ألتفتُ إلى يساري فأنظر شابا أتخذ له مكانا في أحد المقاعد ..) لاتهمنا بقية الحكاية بل يهمنا وصف الميدان الرائق الهادئ الذي يتخذه الناس مكانا لقضاء أمسياتهم مع وجود مقاعد ونافورة وحشائش خضراء يانعة... هذا المكان اليوم لايحمل شيئا من ملامح الرومانسية هذه ، فهو يعتبر أكبر ميادين القاهرة بل هو صرة البلد التي تتفرع منها دروب كثيرة حتى ليكاد المثل العربي (عمان كلها دروب ، والأفرنجي كل الدروب تؤدي إلى روما ) ينطبق تماما على ميدان التحرير فهو ميدان يعج بالضجيج والحركة الهستيرية .

وكنتُ إذا عدتُ من جمعية الكتاب أمر بميدان التحرير وإذا ذهبت للأتيليه أمر بالتحرير وإذا عدت من رابطة الأدب الإسلامي ، أو رابطة الأدب الحديث أو نادي القصة أو رابطة الأدب الأفريقي الآسيوي وكثير غيرها من المقاهي الثقافية الخاصة أو العامة أمر بالتحرير ... إذن لابد ، لابد من التحرير .. وكثيرا ما نستعمل الأرجل لقطع تقاطعاته المتعددة متجهين إلى مترو الأنفاق أو إلى النيل حيث التقاط المواصلة الأنسب ، إن هذا المرور السريع لميدان التحرير لم يكن إلا هروبا من ضجيجه وتلاحم الحركة المرورية فيه. وتربض في محيط التحرير معالم في غاية الأهمية كالمتحف المصري مجلس الشعب مجلس الشورى ، مجلس الوزراء ، وزارة الصحة ، الكومسيون الطبي العام ، وزارة المالية ، وزارة العدل ، وزارة المواصلات السلكية واللاسلكية ، السفارة الأمريكية ، وفيه مجمع التحرير الذي صور فيه عادل إمام فيلم الإرهاب والكباب وفيه جامعة الدول العربية ، ومعظم الفنادق الكبيرة ، بالإضافة طبعا لتفرع كثير من الشوارع التجارية الرئيسية الهامة التي تصب حركتها فيه .
اليوم ميدان التحرير وما أدراك ما التحرير .. أنه المكان الذي يغير حياة مصر والمصريين وربما الأمة العربية بأسرها... في هذا الميدان رأينا الشباب الذي كان يعاكس البنات لدرجة تصل للإغتصاب أحيانا ... رأينا هذا الشباب يقف بقرب الفتيات لاينظر إليهن ولا يجرح مسامعهن بأي لفظ يخدش الآداب العامة ، ولا تلتفت الفتاة إلى الشاب إلا لتشدّ أزره في الهتاف باسم الوطن والهتاف للحرية ... إنهما في التحرير للتحرير جاءا يحرران نفسيهما وبلادهما من ومن ومن ومن ... إذن ماكان يحصل هو سلوك ليس من طباع الشعب المصري ، إنه مجرد تنفيس لطاقات معطلة تنفيس عن غضب عن رفض عن تذمر لما آل إليه الحال من بطالة وتجاهل و... و.... و...و...


في التحرير وجدنا القسيس المسيحي يقف ملتحما بالإمام المسلم لم يحرقا بعضهما ولم يصدّ أحدهما عن الآخر ولم يكيلا السباب والاتهام لبعضهما البعض .. هنا ردد كلاهما الهتاف نفسه في محبة ووحدة وطنية وتآلف قلَّ أن تجد له مثيلا في مكان آخر... إذن ليس حرق الكنائس أو المساجد من شيمة الشعب المصري . وقد رأيت المسلمين يحضرون زفاف المسيحيين في الكنائس مهنئين ، ورأيت المسيحيين يحضرون عقد قرآن المسلمين في مشيخة الأزهر مهنئين .. فمن أين للمصري روح العداء المحرقة هذه !!!

في التحرير رأينا عقد الزواج بين شابين لتبدأ الحياة من التحرير فالتحرر لايوقف حركة الزمان بل هو وقود لانتظام الحياة والزواج والتوالد وبدء حياة جديدة ... في التحرير لم تطلب الفتاة رصيدا بنكيا وشقه وعربية / سيارة ، وفرحا في فنادق الخمس نجوم أو القاعات الامعه... في التحرير تحررتْ الفتاة من أغلال اجتماعية رثة معيقة لاستمرارية الحياة واكتفت بدبلة بسيطة ورضى .. وكان المهر تحرير الوطن وكان العقد الهتاف للوفاء بحرية الوطن .

في التحرير رأينا الفنون تتبارز كاريكاتير رسومات شعر غناء تلحين سينما .. فالفنون أجنحتها الحرية ، والفنون تؤدي إلى مواكب النور والتحرر . كل هذا يتم في التحرير ، وماذا ياتحرير سنرى من أعاجيبك في الأيام التالية !! هل كان يخطر ببال أحدنا وهو يهرب سريعا من ضجيج التحرير أن هذا ماسيفعله بنا التحرير .. وعلى هامش التحرير استمعنا للأغاني الوطنية الجميلة التي ربما لم يسمعها جيل الشباب هذا فهي في قائمة المخدرات من المنع لدي النظام ، الذي يرغب في نشر أغان ذات إيقاع مختلف مثل ( السح أدح امبوه ...وولعها ولعها شعللها شعللها ، وشي ياحمار ياحمارشي ، والديك والفرخه.. الخ )

وفي التحرير سقطت أقنعة زائفة لأبطال زائفة فالفنان عادل إمام الذي اعتاد على مهاجمة البرادعي والسخرية منه مؤيدا التوريث بل ويروج لتوريث الحكم لجمال مبارك , ويهاجم مناوئيه ، نجده بعد التحرير يحاول أن يركب موجة الشعب فيقف مع الثورة فلا تتقبل منه التزكية المزدوجة النفاق ..

وفي التحرير لاتقبل المزايدات الثقافية فجابر عصفور المعروف بولائه الأمريكاني الخالص وولائه الشديد لحرم الريس وأسرتها ، يقبل منصب وزير لوزارة الثقافة في البدء وعندما يرى الثورة قد عمت وهمت أن تأكل أمثاله من المتربعين على عرش الموالين للنظام المترنح يتراجع ويرفض الوزارة لظروف صحية كما يقول ، ولا أنسى الفرق بين موقفه وموقف نقيب المحامين السابق ورئيس الحزب العربي الناصري المعارض حاليا ( سامح عاشور ) في إحدى المحاضرات التي جاءا ليتحدثا فيها عن موقف المثقف العربي من الإحتلال الأمريكي للعراق حيث كال فيها عصفور السباب للعرب والمسلمين لكوننا ظاهرة صوتية وحفنة من المتخلفين ، لأننا نقر الاستشهاد في سبيل تحرير الأوطان .. وعندما ناقشته ثار وهاج وماج وقال في شبه لهجة طاردة من لديه شجاعة لايظهرها هنا يذهب لبلاده ويظهرها هناك .. الأمر الذي جعل القاعة تنقلب عليه وصار حديثا للصحافة لأسابيع بعد أن كلتُ له الكيل كيلين . وفي التحرير أيمن نور الذي دخل المعتقل لا لشيء فقط لكونه تجرأ ورشح نفسه للانتخابات في وجود من قال أنا ربكم الأعلى ... دخل نور المعتقل سليما معافى مكتمل البنية الجسدية وخرج من المعتقلات محطما مريضا بالسكر والضغط والقلب وسوء أولئك رفيقا من الأمراض... ولعل الميزة الوحيدة التي أهدتها سجون النظام له كونه خسر نصف وزنه مرضا لا صحة .

إنه ميدان التحرير حيث يصدح صوت سيد درويش ، الشيخ إمام ،عبدالوهاب ، أم كلثوم ، بأغانٍ هي من ضمن الممنوعات كما قلتُ في الإعلام المصري .

ميدان التحرير الذي توج قناة الجزيرة تاجها الإعلامي المعروف فضح في المقارنة الإعلام المصري الذي هو في واد ومجرى الأحداث في واد آخر ... وفضح العربية وتغطيتها الباردة التي عللت برودها بالاتزان وتحرى الحقائق بينما السبب معروف سلفا لكل من له بصيرة .
آه يا أنظمة ... ليتكِ استمعتِ للتاريخ وهو ينشد للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ...


وراع صاحب كسرى أن رأي عمرا
بين الرعية عطلا وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أنَّ لها
سورًا من الجند والأحراس يحميها
رآه مستغرقا في نومه فرأى
فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا
ببردة كاد طول العهد يبليها
وقال قولة حق أصبحت مثلا
وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنتَ لما أقمتَ العدلَ بينهُمُ
فنمتَ نوم قرير العين هانيها

___________