• ×
الخميس 9 مايو 2024 |

قراءة شاملة في القصائد المشاركة بمسابقة الملتقى الأدبي بصلالة (2)

0
0
1334
 

أتواصل معكم أعزائي الشعراء والقراء بقراءة القصائد المشاركة في مسابقة الملتقى الأدبي الرابع عشر بصلالة، لنكمل معا قراءة القصائد المتبقية والتي أتت في المستوى الثاني، حيث تميّزت بلغتها الشعرية وبناءها الفني مقارنة بقصائد المستوى الثالث، فالصور الشعرية أكثر وعيا وأقل أخطاءً والجمل التعبيرية أكثر بلاغة ، كما أن الأفكار أصبحت أكثر وضوحا وترابطا، وفي المقابل سنمر على العيوب الفنية التي وقع فيها شعراء هذا المستوى، والتي ظهرت جليا في تركيب بعض الجمل الشعرية، والسطحية التي وقع فيها البعض حينما أراد نقل حالته النفسية عن طريق الصور والصيغ الشعرية.كما سنلاحظ تكرارا لا مبرر له في بعض الأفكار المطروحة، وتساهلا غريبا في استخدام القافية، وكأن الشاعر وهن وضعف وأراد إنهاء البيت الشعري فكانت غايته هو البيت وليس المحتوى والقيمة الفنية والشعرية التي يتضمنها البيت..والمفاجأة الكبيرة هي: أن تأتي القصيدة الفائزة في المركز الأول (الريح قنديل) في هذا المستوى أي المستوى الثاني، فبرغم لغتها الأنيقة إلا أن الشاعر وقع في الكثير من الأخطاء التي سنتحدث عنها. وهذا هو الترتيب التنازلي لقصائد المستوى الثاني :

8-عشق الأصداف للشاعر سليمان الجهوري
7-يتيمة للشاعر طلال الغساني
6-الريح قنديل للشاعر حمد البدواوي
5- أعماق الحكي للشاعر ابراهيم الرواحي
4-جرح امي للشاعر عبدالله المشايخي



(8) قصيدة عشق الأصداف و(أخطاء لا مبرر لها)!!

image

أضعف قصائد هذا المستوى قصيدة (عشق الأصداف) للشاعر سليمان الجهوري، والتي كثرت فيها الأخطاء ووضحت فيها العيوب منذ القراءة الأولى ،القصيدة كتبت على بحرمجزؤ الهجيني والذي يلتقي في الشعر الفصيح مع بحر الرمل :
فجاءت على تفعيلة: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فعلن في الصدر، وفاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن في العجز، يقول الشاعر في بيت تفعيلته سليمة:
لي بقي من رزمة الأقدار حزنٍ كافي
نلاحظ أن الشطر تتوزع فيه ثلاث تفعيلات متساويات وهي
( لي بقى من)(رزمتلأق) (دارحزنن) + (كافي)
فاعلاتن//فاعلاتن//فاعلاتن+فعلن
وهذا شطر آخر من عجز البيت
لا ظروفٍ تعتريني وأكتفي بالعربده
لاظروفن//تعتريني//وكتفيبل//عربده
فاعلاتن//فاعلاتن//فاعلاتن//فاعلن

من المآخذ على الشاعر عدم توظيفه لإمكانياته الشعرية بشكل يتناسب مع روح الشعر، تلك الروح السلسة الحالمة التي تحلّق في فضاء الكون بخفة مدهشة، فالشاعر لم يكن مقنعا في الكثير من استعاراته الشعرية:
رياح العرى، والكسور أيتام، لحد اللحاد، نصفه النافي، تركت المعبده، مثل هذه التراكيب الغريبة تحتاج إلى تراكيب أخرى تمدها بالإشعاع الشعري حتى تصبح أكثر حيويّة وإغراء للقارئ. لقد مارس الشاعر أسلوبا سهلا في ربط الاستعارات مع بعضها البعض، ففقدت سحرها وانطفأت وأصبحت ثقيلة ومزعجة وغير قابلة للقراءة المكثفة المتمعنة الباحثة عن سلاسة الشعرونظارته وعمقه وفرادته، فالشاعر يخلق حلقات كثيرة من العلاقات المتنافرة :
(الكسور أيتام مع قحف الصلاة بمعبده!!)، (ينهش بلحد اللحاد المنطوي بالأفئدة)، (لعبت أشيائي بصبح طاح نصفه النافي)، (آخري مع اولي مع منتصف أطرافي)، (يا رياحي لا أماني ولا جراحٍ نخمده !!)، (كسرت حتى الصلاة ولا تركت المعبدة!!)، نلاحظ ثقلا في هذه الصور وجفافها، حاول الشاعر تكريس كل قواه لإظهار علاقات غريبة محاولا إقناع القارئ بها:
الوكاد إنك كثر ما تلعبي بأصدافي
صار لك عاشق لعين ولا قدرنا نبعده
أو
لا تخافي واعذريني من سجودٍ اسجده
أعتقد بأن الشاعر لم يوفّق في سبر أعماقه بطريقة فنية جميلة، كما يجب أن أشير إلى تسرعه أحيانا- في إكمال القافية وكأنه تعب من تدوير الفكرة في ذهنه فملأ القافية بمفردة تنهي معاناته رغم ضعفها مثلا:

يا رياحي لا أماني ولا جراحٍ ٍنخمده

فمردة \"نخمده\" لا تتناسب مع الأماني والجراح والصحيح نخمدها، وحتى البيت الأخير والذي يقول فيه:
كسّرت حتى الصلاة ولا كسرت المعبده
\"فالمعبده \"مفردة خاطئة ختم بها الشاعر قصيدته حينما أراد تدوير البيت الأول والذي يقول:
والكسور أيتام مع قحف الصلاة بمعبده
فالفرق شتان ما بين \"بمعبده\" الأولى والثانية \"المعبده \"، حيث أن الأولى أصلها معبد، ومضاف إليها هاء الضمير العائد على قحف الصلاة ، أما الثانية فهي أسم مؤنث خاطئ للمعبد الذي أصله مذكر. ..
ورغم كل هذه العيوب الفنية إلا إن القصيدة احتوت على جماليات شعرية تستحق الذكر والإشادة علّ وعسى أن يشتغل عليها الشاعر بعمق وكثافة واجتهاد أكثر، وربما هذا الشطر يؤكد لنا ذلك:
من يحاسب برد يطغى وينسكب بلحافي
في هذا الشطر نقرأ شعرا فريدا ونلتمس صورة شعرية نادرة التقطها فنان موهوب، أن البساطة في اللغة والوعي في تركيبها والعمق في صياغة الفكرة هو الذي يدهش القارئ ويجبره
على التأمل والوقوف طويلا أمام روعة ما يقرأ، كنت أتمنى من شاعرنا أن لا يتنازل عن هذا المستوى ولا يضعف ويتعب أمام موضوع قصيدته، فالموضوع صعب وغير واضح رغم الرموز التي استدعاها الشاعر وانطلق منها قحف الصلاة، المعبد، العربدة، وحارتي يرثى عليها، شلتي أهلي، صحبي الوافي)، كل هذه الرموز مجتمعة لم تشكّل موضوع القصيدة الذي فقد شكله النهائي بسبب تسرّع الشاعر أحيانا وتساهله أحيانا أخرى..


(7) (يتيمة، قصيدة جميلة ذات أبعاد إنسانية..)

جاء بعد نص (عشق الأصداف) نص الشاعر طلال الغساني(يتيمه) والذي انكشفت ملامح فكرته من العنوان، وهو نص جاء على بحر المسحوب مستفعلن مستفعلن فاعلاتن وهذا البحر هو الأكثر شيوعا في الشعر النبطي وهو بحر غنائي جميل، ولقد أجاد الشاعر استخدامه واظهر مهارة أكتسبها من ممارسته الكثيرة بالكتابة عليه، نص يتيمه ، نص إنساني يوجِّه فيه الشاعر أبياتا تحمل مشاعر المواساة والمعاضدة والنصائح في قالب شعري جميل، ورغم وضوح القصيدة إلا أن شاعرنا مزج هذا الوضوح بجمل ٍ شعرية تضمنت استعارات شعرية جميلة لابد من ذكرها والمرور عليها، فإن تمعنا في القصيدة منذ البيت الأول حتى البيت الأخير سنلاحظ ترابط القصيدة وكأنها كتلة واحدة متراصة، متحدة الأجزاء. فالشاعر أفتتح قصيدته بمطالبة اليتيمة بعدم التفكير المقلق والمتعب وبأن ترخي ستائر الليل إشارة إلى طلب النوم وترك السهر، في القصيدة الكثير من الإيحاءات والتلميحات الجميلة التي أستخدمها الشاعر والتي أفادت موضوع القصيدة وارتفعت بمستواها:
(قومي أندهي للشمس، شدي نفس ذا الصبح، دوسي بطيف الهم)..

ما يحسب للشاعر هو: ابتكاره لصورا شعرية جديدة أفادت موضوعه و ترابطت بشكل سلس وأنيقخفي نظر، وأرخي ستارك، سلة بيد الليل تلقط ثمارك، وعقد بلون النيل)..
نلاحظ مقدرة الشاعر على تركيب جمله بسهولة وبدون تعقيد وتكلّف، وهي جُمل تمتلك إمكانية الـتأويل وتختزن عمقا وبعدا فلسفيا شعريا جميلا ، ولولا تساهل الشاعر وتهاونه في بعض الأبيات لكان للقصيدة مكان آخر، فالجماليات التي تضمنتها القصيدة لم تفلت من وحش المفردة الذي تربّص جيدا بالقصيدة فأفترس سحرها وروعتها وشوّه وجهها الفاتن، لقد تنازل شاعرنا للأسف باستخدامه ألفاظا حطمت البناء الجميل لقصيدته، ودائما الجمال الطاغي يفسده حتى الخدش البسيط !!، فالشاعر رغم بدايته القوية في البيت الأول إلى أنه هبط من القمة إلى القاع في البيت الثاني :
خفي نظر هالليل وارخي ستارك
ما فيه داعي تحسبي كل النجوم

كل العلوم تجيك لحظة قرارك
وإذا قرارك مل بتجيك للنوم

نلاحظ التباين الغريب بين البيت الأول والبيت الثاني، وأعتبُ على الشاعر استخدامه عجز البيت الثاني (وإذا قرارك مل بتجيك للنوم) ، فليس هناك ما يبرر ويسوّغ هذا التنازل والانحدار، رغم أن القصيدة في بدايتها والشاعر في أوج انفعاله وتفاعله، فمثلا (كل العلوم) أو(قرارك مل) أو (اتخبشي لوم) كان يجب على الشاعر أن لا يلجأ إليها في قصيدته، ومن الأشطر التي أضعفت القصيدة ولم يجتهد فيها الشاعر ولم يضع عليها لمسته الخاصة فأتت كالسرد لا أكثر لو تملكي جيش من الفرس والروم، يا هاليتيمه الصبر من سنة القوم، سنة بني آدم ما زيد له يوم)، مثل هذه القوالب الجاهزة لا تضيف للقصيدة شيئا ولا تثير انتباه القارئ ولا تستفز ذهنه، فكلما ابتعد الشاعر عن الحشو والسرد اقترب من جوهر الشعر وروحه.
إن شاعرنا يمتلك خيالا خصبا ووعيا مدهشا في التقاط صورا غير مكررة وغير مستهلكه وعليه أن يواصل نحت لوحته الشعرية بأزميل التمهّل والتركيز وتطوير أفكاره حتى يصل بقصيدته إلى الذروة الفنية.


6-(الريح قنديل ..وأسباب التراجع)

image

القصيدة القادمة والتي يجب أن نمنحها الكثير من الجهد والوقت هي القصيدة الفائزة بالمركز الأول في المسابقة، والتي جاءت في المستوى الثاني، فلماذا جاءت القصيدة الأولى في المستوى الثاني حسب هذه القراءة؟
(الريح قنديل)، عنوان مركب يستفز الذهن ويغري للقراءة، فالرمز يحضر بقوة منذ العنوان الكبير الذي وسم به الشاعر قصيدته، إن العلاقة ما بين الريح والقنديل هي علاقة موت وحياة، انطفاء واشتعال، أن الشاعر لا يشبّه الريح بالقنديل بل يدمجهما معا في جسد واحد، جاعلا من القوتين والرمزين رمزا متوحدا يتكئ عليه في قصيدته التي شارك بها . القصيدة كُتبت كحال أغلب القصائد المشاركة على بحر المسحوب مستفعلن مستفعلن فاعلاتن بزيادة حركة في الصدر وهي حرف اللام .
كما أن القصيدة كتبت بلغة لامستها الرموز الدينية والتاريخية والإنسانية ، وموضوعها يدور حول محاورة ربما تكون مونولوج داخلي ما بين الشاعر وذاته أو مع طرف آخر اقترب من ذات الشاعر إلى حد التطابق ومن ثم ابتعد إلى آخر حدود الاختلاف والتمايز..
إذا.. بلغة شعرية رمزية أراد الشاعر أن يكتب قصيدته الشعرية الفلسفية فهل نجح في ذلك وهل تمكن من أدوات القصيدة الكثيرة؟ ، لنفرد أجنحتنا مع أعماق الريح قنديل ولنبدأ أولا بالتقطيع العروضي:

بيتك رمل يا مشعل الريح قنديل
بيتك رمل//يا مشعلل//ريحَقـَنْدي+ل
مستفعلن+مستفعلن+فاعلاتن+حركة واحدة

والعجز جاء على هذا التقطيع
ما كنت تهديني من الشوك حربه
ما كنتهــ//دينيمنل//شوكحربه
مستفعلن//مستفعلن//فاعلاتن

أن تفكيك صدر البيت الأول يشي لنا بآلية كتابة هذه القصيدة:
بيتك رمل ، هو نداء موجه لمن؟ إلى :مشعل الريح قنديل !!
إن الصورة القريبة لهذا البيت هي: أن الشاعر يقول لمن أشعل الريح كقنديل، إن بيتك من الرمل !!، وهذا لا يوحي بشي بالنسبة للقارئ ولا يعني له سوى تركيبه لغوية ليس لها معنى ولا تدل على حالة انفعالية وشعورية معينه وليس بها صورة شعرية بالإمكان تصورها أو حتى تخيلها في أذهاننا، إنها ليست سوى مفردات متقاربة وغير مترابطة وليس لها معنى..
بعكس عجز نفس البيت (لا الصمت يشفعلك وهالسور كذبه) هنا تتضح الصورة وينكشف الضباب ويصبح للجملة معنى شعريا يستحق عناء التأويل :
صدرك مقابر وهم والشك أزميل
كل عرف من وجهتك كيف دربه
لا زال الشاعر يوجه حديثه إلى الآخر بلكنة عاتبه ومُعَرِّية وكاشفة ، ونلاحظ في أغلب أبيات القصيدة أن صدر البيت أكثر غموضا وصعوبة في التركيب من العجز، كما أننا لا نجد أية علاقة ما بين (صدرك مقابر وهم ) وجملة(الشك أزميل) إننا نشعر بانقطاع تام ما بين أول الجملة وآخرها برغم الصورة الجميلة للشك حيث شبّهه كالأزميل الذي يحفر في الخشب، فالشك يحفر في داخل الإنسان بكل قسوة وعنف وألم..
في الشطر الأول من البيت الثالث يواصل الشاعر حديثه إلى الطرف الآخر وفي العجز ينتقل بشكل مفاجئ للحديث عن نفسه:
كانت لك العتمة من عيونك تسيل
وأنا نثرت الطيب في الصدر تربه

إن الصورة الجميلة لمنظر العتمة التي تسيل من العيون في إيحاء شعري جميل للخداع والكذب والزيف الذي يُشاهد في عيون المخاطب قد أضعفها شطر العجز من نفس البيت، والذي جاء مفاجئا ولم يحتوى على جملة قوية توازي الشطر الأول بصورة شعرية قوية أو بجملة بلاغية تستحق الإقحام، فأنتقل الشاعر للحديث عن ذاته وكان حريا به أن يكون أكثر جزالة وعمقا وابلغ تصويرا، ليعود شاعرنا بعد ذلك لتوجيه حديثه للآخر مبتدئا بلو :
لو كان ينفعك العتب والمواويل
إننا ننتظر بعد هذا الشطر الإشتراطي أن يقول شاعرنا ما يسوّغ له أداة الشرط ، ولكنه قال بطريقة غريبة:
ما كان تهديني من الشوك حربة
وربما تكون الفكرة واضحة في القراءة وهي أنه لا فائدة ولا طائل من المخاطب، فهو لا يلين ولا يرحم بل يزداد قسوة وتعنتا وجبروتا ودائما ما يجدد طعناته بطعنات جديدة، وهذا المعنى المستوحى من الجملة الأخيرة هو المعنى العام الذي سيصل إليه أي قارئ فليس هناك ما يتوارى خلف (حربة الشوك) من معنى قوي التأثير .وهذا ما نشعر به في البيت الذي يليه:
ما كنت تسمع فيني وشاية الليل
تضمى سنين طوال والصدق شربه
لن نجد في هذا العجز ما يبهر ويدهش، بل أنها جملة تقترب من السرد كثيرا، نعم نستطيع أن نفهم ونصل إلى معنى تقريبي وقريب من الفكرة التي يتضمنها البيت ولكن هذا المعنى في ذروته لا يصل إلى درجة الإدهاش، بل هو معنى لا يحتمل أكثر من تفسير واحد، فالجملة الشعرية لا تحمل إلا ما تعني فقط!!، فالشاعر مثلا في هذا البيت يتحدث عن الوشاة الذين استطاعوا خداع صاحبه ويعاتبه على استماعه إليهم وفي الشطر الثاني يقول للمخاطب أنك ستبقى في حالة ضمأ من الحب لأن الصدق هو الشراب الذي لا تستطيع تذوقه، وهكذا يواصل شاعرنا سرد تفاصيل عتبه إلى الآخر فيقول في بيت يحمل معنى مكرر:
مديت لي جرح الخيانه مناديل
أتعبتني ما بين سهلة وصعبه

ما ينطبق على عجز البيت السابق ينطبق على عجز هذا البيت، ويبدو أن الشاعر عند هذا الشطر تحديدا قد أنتبه إلى أن القصيدة قد وصلت إلى اضعف مستوياتها، وهذا واضح في الشطر الثاني (أتعبتني ما بين سهلة وصعبه)، فهذا الشطر هو اضعف جمله قالها الشاعر في كل أبيات قصيدته، فحاول تدارك ذلك فبدا ببيت شحذ فيه رموزه وعاد إلى لغته الرمزية من جديد، فنلاحظ أن بداية البيت السابع مختلفة وسوف نلاحظ أن القصيدة سوف تأخذ منحى آخر :
أدري قريت الطين فيني أناجيل
وأدري قريتك/ كنت للموت أشبه
حينما نحاول تفسير هذا البيت مثلا، فأننا لا نستطيع الوصول إلى صورة واضحة ومحددة بسهولة، بل أن هناك أكثر من تأويل وتفسير وهذا البيت تحديدا يحمل الكثير من الدلالات والمعاني لذلك فهو مختلف عن الأبيات السابقة التي تم تفسيرها بسهولة، فمثل هذه الأبيات تكون أكثر متعة في القراءة ولكنها تحتاج إلى الترابط والوعي والتمكن في تنفيذها حتى تُحقِّق الإبداع الذي يسعى إليه الشاعر ويعترف به القارئ وهذا ما ينقص البيت السابق.
الطين/أناجيل/الموت، كل هذه الرموز مجتمعة لم تنتج بمخيلة القارئ شيئا ذا أهمية في مسار القصيدة، فبرغم الهالة القدسية التي تلف البيت بأكمله إلا إن الصورة معقدة وغير واضحة رغم مفردة أدري والتي جاءت لليقين ولتؤكد وتقطع الشك، وحتى المطابقة ما بين الصدر والعجز أي بين القراءة الأولى أي قريت، وقريتك، لم تنتج الاختلاف الذي يوضَّح الفكرة التي تدور في ذهن الشاعر، ويواصل الشاعر بعدها استهلاك نفس المفردة أي \"أدري\" التي أصبحت مفتاح الأبيات القادمة:
وادري تفوق ابريل يا كذبة ابريل
وهكذا يواصل الشاعر صياغة قصيدته بدون أن يأتي بشي جديد يضيفه إلى موضوع قصيدته، ويساهم في تصاعد مستواها الفني، بل أنه يكرر نفس الأفكار بصياغة لغوية مختلفة لا أكثر:
ما يشبعك حزني ولو يشبه النيل
شوف الحنايا من مواجعك رطبه

استخدم الشاعر مفردة(يشبعك) للحزن الذي شبهّه بنهر النيل، وكان حريا به أن يقول: ما يرويّك حزني ولو يشبه النيل ،، وإن كان الإشباع هو الوصول إلى حد الاكتفاء، وللتنبيه فإنه لا يعد هذا الاستخدام خطأ فنيا في حالة الضرورة أو لأجل ترابط الفكرة وتناسقها ولكن الشاعر لم يكن مضطرا لاستخدامه فالبديل المناسب كان حاضرا ولم يستخدمه الشاعر.
إن هذه القراءة ليست من باب التفتيش عن الأخطاء، ولا من أجل إثبات نظرية شخصية، بل إنها من اجل التركيز على القصيدة الفائزة والتعمق فيها ووضعها تحت مجهر القراءة المتأنية والتركيز في تراكيبها وصورها وأفكارها ، فالقصيدة التي تنال التفوق لابد أن تتحمل النقد وتتوقع الرأي المخالف، فعلى مبدعنا وشاعرنا المتميز أن يأخذ من القراءة ما يعتقد بأنه مفيد ويترك ما لا يناسب توجهاته، فالقصيدة رغم فوزها بالمركز الأول إلا أنها لم تكن بأفضل القصائد المشاركة، لوقوعها في الحشو : (اتعبتني ما بين سهله وصعبه)، وفي السرد واعيش راسي فوق كل الأقاويل)، وفي الإبهام والتكلف(بيتك رمل يا مشعل الريح قنديل)، وفي البساطة والسطحية(وأكون تمثالك وبيديك لعبه) و(وأدري تفوق أبريل يا كذبة أبريل)
إن البيت الأخير يذكرني بمثل مشهور سأتجاوز واكتبه بهذا الشكل:

بيتك زجاج لا ترمي الناس بالطوب !!
فالشاعر لم يبتعد عن روح هذه الفكرة :
بيتك رمل .. لا تشعل الريح قنديل..
وفي الجهة الأخرى هناك أبياتا تضئ فضاء القصيدة وتشع بالحياة والخصب في كل اتجاهات النص، وبدون شك هي التي دعمت موقف الشاعر ورجحت كفة قصيدته في ميزان المسابقة ولكنني للأسف لم أستطيع اكتشافها وتذوقها وربما هذا يعود إلى جهلي وتواضع ذائقتي الشعرية.


(5) ( أعماق الحكي: نص غنائي جميل، وقع في فخ التجديد!!)

image

بعد قصيدة الريح قنديل جاءت في الترتيب قصيدة أخرى مبهجة ومختلفة كليا عن البقية ولكن شاعرها ظلم قصيدته حينما أفقدها هويتها وخرج بها من الأسلوب الغنائي الشعري إلى الغموض المتعمد والانتقال المزعج في الإيقاع الموسيقي، فذهبت هوية القصيدة ضحية التجديد. إنها قصيدة( أعماق الحكي )للشاعر إبراهيم الرواحي. قصيدة غنائية رقيقة كماء النهر في شكلها العمودي، والثقيلة الخشنة في قالب التفعيلة. تداخلت القصيدة مع مقطعين شعريين تضمنا إحالات رمزية ، الأول لم يخدم القصيدة بتاتا فجاء رتيبا رغم روعة الصورة الفنية التي احتواها ولكنه لم يكن مناسبا لروح هذا النص الغارق بالعاطفة وليس له سوى مبرر واحد وهو :محاولة الشاعر التجديد والتجريب في شكل القصيدة والانتقال في إيقاعها الموسيقى، من البحر العمودي إلى التفعيلة ورغم سمو المحاولة وجرأة الشاعر إلا أنه لم يوفق في تضمينها بهذا الشكل. فالتداخل ما بين العمودي والتفعيلة أحدث انتقالا مفاجأ للقارئ وكسر رتم البحر الغنائي بموسيقاه الهادئة المنسجمة مع مضمون القصيدة العاطفية العذبة، حيث كُتبت القصيدة العمودية
على بحر المسحوب (كأغلب القصائد)، والذي تفعيلته :مستفعلن مستفعلن فاعلاتن، مريت بأعماق الحكي لا انتشابك ، بينما المقاطع جاءت بتفعيلة مختلفة وهي مفاعيلن والتي تتكرر في كل المقطع : أسولف للسما عنك ووتساقط نجومه أغنياتٍ توقظ أحلام الرصيف وفي كفوف الصبح تنبت إبتسامه..
أسولف لل(مفاعيلن)+مساعننك(مفاعيلن)+وتتساقط(مفاعيلن)+نجومهأغ(مفاعيلن) ......الخ، غير أن الشاعر لم يكمل التفعيلة الأخيرة فجاءت ناقصة وربما اكتفى بتكملة الفكرة ولم يأبه للتفعيلة، عموما لو كان الشاعر قد كتب مقاطع التفعيلة بتفعيلة ٍ قريبة من تفعيلة المسحوب أي مستفعلن أو حتى فاعلاتن لكانت أقل نشازا من الانتقال من بحر إلى بحر آخر في نفس القصيدة، كما أن الفكرة التي كانت واضحة وبسيطة وغير معقدة في أول ثلاثة أبيات أصبحت في مقطع التفعيلة الأولى صعبة ً ومركبة ًوتحتاج إلى التأويل، فالشاعر أنتقل من مستوى غنائي وتراكيب شعرية فنيّة سهلة التذوق إلى استعارات أكثر عمقا وغموضا وهذا الانتقال لم يكن تدريجيا بل جاء عرضيا مفاجئا، عاد بعده الشاعر إلى الوضوح والأسلوب الغنائي الشفّاف في الأبيات العمودية التي تلت مقطع التفعيلة، هذا التداخل لا أعتقد بأنه كان ناجحا، وكأن الشاعر قد كتب أكثر من قصيدة ودمجهن في قصيدة واحدة، وبدون شك كانت القصيدة بأبياتها العمودية هي المحور الأساسي. فالقصيدة العمودية مترابطة بشكل رائع، وبها إضاءات فنية كثيرة تستحق الإشارة، ومنها:
النور يتسلق نوافذ شبابك
يا فرحة الريحان لا شم عطرك
لو غبت جاتك عيني تدق بابك
لقد احتوت القصيدة قاموسا شعريا رومانسيا عذبا (أغصان، أنوار، فجر، نعناع، ريحان
عطر،.....) هي قصيدة حالمة تتكاثف فيها الألوان وتمتزج لترسم لوحة جميلة تتحرك فيها الشمس من الفجر حتى الغروب لتبوح بما يضج به قلب الشاعر من حنين وعذاب وشوق ولهفه للحبيب الغائب.
القصيدة تضمنت أيضا مقطوعة غنائية شهيرة للفنانة (فيروز) والتي تتحدث عن شادي رمز الطفولة والسلام في الفترة التي سبقت الحرب الأهلية بلبنان، وقد وظف الشاعر هذه المقطوعة
ليستدعي من خلالها ذاكرته مع الحبيبة ويحنّ إلى فترة الوصل، وكل هذا على صوت فيروز كخليفة موسيقية جميلة، هي التقاطه جميلة تضاف إلى ثقافة الشاعر وذائقته، غير أنها لم تكن ضرورية في القصيدة!. إن مثل هذا النوع من القصائد لا يدخل أبدا في حسبة التنافس في المسابقات الشعرية، فعلى الشعراء جميعا أن ينتبهوا لهذه النقطة، فقصائد المسابقات لها اشتراطات خاصة ولها معايير فنية محددة تتبعها لجنة التحكيم في تقييم النصوص وهذه المعايير
تستبعد القصائد التي كتبت على هذا النحو أي القصائد المتداخلة ما بين العمودي والتفعيلة، أن قصيدة الرواحي هي للقراءة فقط، ولمحاولة التجريب وجس نبض القارئ وليست لمشاركة سريعة في مسابقة تنافسية، وفي المقابل لو بقى الشاعر ملتزما بالمحور العمودي وكثّف من صوره الشعرية لكانت القصيدة من ضمن أجمل القصائد المشاركة لما تميّزت به من سلاسة وجمال وعاطفة جيّاشة وما احتوته من صور فنية منسجمة مع روح الموضوع ومضمونه..


(4) جرح أمي (قصيدة قومية بطابع يغلفه الحزن والانكسار):

على خلاف القصائد المشاركة، جاءت قصيدة جرح أمي مختلفة بموضوعها وبموسيقاها وبلغتها الشعرية، فالقصيدة كتبت على بحر الهزج حيث جاءت 3 تفعيلات تامة في كل شطر:

زمن يقرأ ضحاحٍ في صدور كتاب
وجرح امي تخضب دمه الخيبه
وهذا هو تقطيع الشطر الأول:

زمن يقرا/ضحاحن في/سطوركتاب
مفاعيلن/مفاعيلن/مفاعيلن

أما الموضوع فهو موضوع قومي يتحدث عن الوضع الراهن في الأمة العربية والإسلامية، إلا أن موضوعها القومي لم يجرف الشاعر للكتابة بحماسة الشعراء الذين كتبوا في نفس الموضوع من قبل، بل التزم الشاعر بمحور واحد وقد وضع من انكساره النفسي النقطة التي أرتكز عليها في كامل النص. وكعادة مثل هذه القصائد فالرموز التاريخية تحضر بقوة لتوجه القصيدة وتحدد مسارها، وهذا ما نجده في قصيدة جرح أمي ولكن الشاعر لم يكشف عن وجه هذا الرمز الذي يحدد موضوع قصيدته إلا في الثلث الأخير من قصيدته:
يا بابل شمس ٍ بكونك سناها غاب
وطال الليل وامتدت غياهيبه

ثم يتبعه بيت يستدعي فيه شخصية صلاح الدين التاريخية، ولكن بأسلوب بسيط هدفه استثارة ذهن القارئ، ولمعرفة الشاعر بأن هذه الشخصية معروفه ولا داعي لسرد بطولاتها من جديد فأسم صلاح يكفي لجلب التاريخ من أقصاه ببطولاته وأحداثه، وهذا التلميح يحسب لذكاء الشاعر بإسقاط مثل هذه الرموز التاريخية:
صلاح وغاب والجرح الندي ما غاب
كما إن بابل تكفي للإشارة إلى بغداد والوضع الراهن بكل قراءاته السياسية والإنسانية أيضا.
ولعل ما ميّز القصيدة هو لغتها الشعرية المعاصرة، نلاحظ أن الشاعر ركزّ كثيرا على انتقاء ألفاظه المناسبة ، فنقرأ مفردات حيّه تشع بالحياة ، وكأنها لم تقال من قبل ضحاح، تخضّب،
أجاج،وتينك،وجس....)، وكل هذه الكلمات الجميلة تأتي في أول ثلاثة أبيات بينما يبدأ الشاعر بعد ذلك بالاهتمام بموضوع القصيدة فنلاحظ خفوت اللغة وغياب المفردات التي على شاكلة المفردات السابقة، وبرغم هذا الخفوت إلا أن النص لم يقع في فخ المفردة المستهلكة .
إن من سلبيات الكتابة في مثل هذه المواضيع هي المباشرة، فالمواضيع القومية تجبر شاعرها على المباشرة في الطرح ، ولكن شاعرنا استطاع التحايل في بعض الأبيات ونستدل ذلك حتى من العنوان: جرح امي ، حتى يغلف الموضوع قناع شفّاف يحتاج من القارئ لبعض التركيز حتى يقرا ما خلف القناع..
يجيني القيظ بالنخلة تمر كذاب
تساقط من عذقها هالرطب عيبه
في هذا البيت تحديدا تظهر قدرة الشاعر على خلق علاقة رمزية شعرية واعية ما بين موضوع القصيدة العام وأسلوب الشاعر الرمزي في طرح هذا الموضوع، حيث طرحه بأسلوب غير مباشر وذلك بتوظيف الرموز (القيض، النخلة،التمر،العذق، الرطب) كل هذه الأشياء تجتمع في بيت واحد ليسقطها الشاعر على الوضع الراهن .
ولا يزال الشاعر يستخدم نفس الأسلوب الجميل في نقل مشاعره وأفكاره:

يا يمّه يغرسوا أهلي فظهرك ناب

الشاعر يخاطب في القصيدة أمه، والأم رمز يستوعب الكثير من الدلالات والمعاني الجميلة، أن القصيدة تضج بالحزن والانكسار وصوت الهزيمة ولعلّ هذا البيت يظهر حدة الحزن والكآبة:
وأنا في زينة الذكرى أجي مرتاب
وكسر ٍ داخلي في صمت أهذي به
انكسار، صمت، هذيان، هذا التشظي النفسي الذي يعيشه الشاعر كان يستحق أن يرتفع بمستوى القصيدة بشكل تصاعدي، ولكن القصيدة فقدت قدرتها على مقاومة فكرة الموضوع رغم محاولة الشاعر وتحايله، ومن النقاط التي يجب أن ينتبه إليها شاعرنا في النصوص القادمة هي :الابتعاد قدر الإمكان عن استخدام القافية التي تنتهي بضمير (مخاليبه،جيبه،عيبه،.... )، الثبات على استخدام المفردات الغنية بمعانيها وتوظيفها جيدا في القصيدة.. أن لا يستعجل في إنهاء الفكرة أو الصورة حتى تكتمل في ذهنه، فصورة هذا البيت تحتاج إلى إعادة من جديد:
ولك تفرش جفوني يالحبيبه أهداب
فكيف نستطيع تخيّل أن تفرش الجفونُ الأهداب؟
أولا للمسافة ما بين الجفون والأهداب وثانيا لصعوبة تخيلها ولو قال الشاعر مثلا:
ولك تفرش عيوني يا الحبيه أهداب .. لكانت الصورة قريبة من تخيلها في الذهن..

هذه هي القراءة في الجزء الثاني من القصائد وسوف ننتقل إلى الجزء الثالث، والقصائد الثلاث التي تستحق أن تكون في المستوى الأول حسب المعايير الفنية التي اعتُمدت في هذه القراءة.

وللحديث بقية