الصورة المبصرة
05-23-2010 06:06 مساءً
0
0
1053
الصورة المبصرة
دراسة في بنى الاستعارة في الصورة الشعرية للشعر الشعبي
النصوص الفائزة في مسابقة المنتدى الأدبىّ2009م نموذجا
بقلم / هشام مصطفى
Hesham9994@hotmail.com
ما من شكٍّ في أن الصورة الشعرية في النص الأدبي عموما والشعري خصوصا تحتل المرتبة الأولى من الدراسات النقدية إذ أنها الحامل للعاطفة والمسئولة عما يسمى التداعي الذي على أساسه يتفاعل المبدع والمتلقي من خلال عملية الإبداع الأولى والثانية فالصورة في نظر كودوج ( هي الإحساس الذي يهيمن على القصيدة كلها ، والعاطفة في نظره أيضا بدون صورة عمياء ، والصورة بدون عاطفة فارغة ) المجمل في فلسفة الفن ـ كروتشيه .
وهذا ما قرره سابقا الآمدي إذ يرى الصورة ( التشبيه والاستعارة وغيرها ) في داخل القصيدة الواحدة ليست مجرد تقرير معنى أو توكيده فحسب وإنما مهمتها أن تتعاون مع غيرها على إبراز رؤية الشاعر وتحديد موقفه من الشيء الذي يصوره .
إذن فنحن أمام اتفاق غير معلن بين الآمدي وبندتو كروتشيه الناقد الإيطالي في كونهما يريان أن شخصية الأديب أو الشاعر تتجلى في صورة صدق شعوره وعدم تكلفه أو أصالة تعبيره عن نفسه ومشاعره التي تعلن عنها الصورة الشعرية داخل العمل الفني ذاته لذا فمن المهم أن نحاول قدر الإمكان فهم الصورة والأصوات المجازية أو بنى المجاز وتحديدا الاستعارة .
ونحن إذ نحاول فهم ماهية الاستعارة بعيدا عن المفهوم المدرسي للمصطلح والذي شاع لسهولته أو لأننا لم نجد غيره أمامنا كي نتعرف على هذا المجاز الأكثر عطاء وفاعلية في تداعي العاطفة من الشعور الجواني للمبدع الأول كي يلامس لب المبدع الثاني / المتلقي وعليه لعلنا في عجالة نضع تصورا تاريخيا للمصطلح .
فابن جني فيما نقله عن السيوطي يرى أن ( الحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة والمجاز ما كان بضد ذلك ) الخصائص ـ وأما عن الاستعارة فيراها في وضع الكلمة للشيء مستعارة من موضع آخر ، أما الثعالبي في فقه اللغة وأسرار العربية فيقول عنها ( أنها من سنن العرب ، وهي أن تستعير للشيء ما يليق به ويضعوا الكلمة مستعارة له من موضع آخر ) على حين يرى أبو عبيدة في كتابه ( مجاز القرآن ) أن الاستعارة ( هي انتقال المعنى من لفظ إلى لفظ آخر ) وبذلك فهو يضع توسعا للمعنى الاستعاري للمصطلح إذ لا يكتفي بكونها استعارة للشيء بل يتبع ذلك تأثرها في المعنى أو التركيز على صفة الانتقالية للمعنى .
أما ابن قتيبة ( أبو عبد الله بن مسلم بن قتيبة ) فيضيف على فهم التوسع السابق للاستعارة شيئا هاما ألا وهو المبالغة فهو لا ينكر أن تقوم الاستعارة على المبالغة بل يجعلها سبيلا للتوضيح واستقصاء الصفة وانطباع الصورة في المخيلة وإن كان قد اشترط أن تكون في حدود الذوق ( أي المبالغة ) و مستحسنة في حيز التعبير ، ولعل المبرد قد توسع في تتبع مواضع الاستعارة على أساس مفهوم النقل السابق لابن قتيبة إذ يرى أن الاستعارة تصل إلى حروف الخفض ( الجر ) حيث تأخذ وظائف الحروف الأخرى فقوله تعالى ( ولأصلِّبَنَّكم في جذوع النخل ) إذ إن حرف الخفض ( في ) أخذ عمل الحرف ( على ) حيث الصلب يكون بالاستعلاء لا بالظرفية ما يعني أن انتقال معنى الإحاطة للنخل هو ما جعلت ( في ) بمعنى الوعائية لعملية الصلب واستحقت أن تأخذ مكان ( على ) .
هذا المدخل على اختصاره الشديد سواء أكان تتابعا تاريخيا للمصطلح أم أنه محاولة لطرح الاستعارة لا من زاوية الشكل بل من ناحية المضمون والهوية حيث أن جعلها تشبيها حذف أحد طرفيه يجعلها تابعا للتشبيه لا مستقلة عنه وهنا نحاول أن نجعلها مستقلة .
فالاستعارة إذن هي عملية خلق جديد في اللغة وهي لغة داخل اللغة فيما تقيمه من علاقات جديدة بين الكلمات وهي بهذا كأنما منحت التركيب تجانسا كان مفتقده وبهذا تصبح الاستعارة أكثر من كونها مجرد مقارنة بين عنصرين أو كلمتين بل هي ربط لسياقين ربما يكونان بعيدين جدا عن بعضهما في السابق ، وهذا ما جعل نلسون جودفان في كتابه ( لغة الفن ) المدخل السياقي لدراسة الاستعارة حيث أنها تمنح الكلمة بناء على هذا خصائص جديدة هذه الخصائص لا تبدو جلية إلا من خلال السياق الكلي للجملة الشعرية ( وهنا التقاء مع نظرية النظم للعلامة عبد القاهر الجرجاني )
فإن كانت الاستعارة عملية خلق جديدة داخل اللغة فإن بنية العتبات للنصوص الثلاثة دالة على ذلك بطريقة رائعة حيث النص الأول ( قربان الفقر ) تجعل من مدلول الفقر كأمر ذي شأن اعتباري له مكانة يحق له تقديم ما يقربه من محاولة الخلاص هذا الفهم للمعنى الجديد للفقر لم يأخذ حيز المعنى المولد إلا من خلال الإسناد بين القربان كدال وبين الفقر كدال آخر مغاير للأول ، هذه العلاقة الجديدة التي أنشأها الشاعر لم تكن لتولد إلا من خلال الأسلوب الاستعاري من جهة ومن جهة أخرى فهمنا لها من خلال رؤية الاستعارة النظرية السياقية للاستعارة أو عملية انتقال المعنى ذاته من القربان إلى الفقر ليأخذ مكانه في الحقيقة وذلك فإن الرؤية النمطية التقليدية لفهم الاستعارة على أنها تشبيه حذف أحد طرفيه يقضي على هذا المعنى ويحيلنا إلى فهم آخر للتركيب ذاته حيث يصبح استعارة تصريحية وتصبح القصيدة ذاتها أو محمولها هو ذاته الذي يوازي أو يتعادل في صفة القربان كشيء مقدم مذبوح ولا أعتقد أن الشاعر كان يقصد ذلك إذ يصرح في نهاية النص بقوله ( حطبت الجوع لك قربان ) وبذلك يجعل الفقر ذاته هو المشكل للقربان لا المكتسب لهذه الصفة .
على حين يأتي النص الثاني ( حزين وشارعي مسكين ) لتجعل الاستعارة للجماد مؤنسنة من خلال اكتساب الصفة وتداعيها لتتعاضد مع الحزن ليشكلا معا حيزا مكانيا للذات يتسم بما يدعو للحزن والمشاركة فيه وهنا أيضا تنعكس عملية الانتقال ذاتها فالنص الأول يأخذ الفقر ( أو المضاف إليه من المضاف ) أما هنا فإن الموصوف يأخذ من الصفة أنسنتيها ليتحول الجماد إلى حيزا إنسانيا ذات طبيعة حزينة تتناسب وحالة الذات جراء استخدام صيغة المبالغة فعيل والدالة على الموصوف والصفة معا ، أما النص الثالث فأنه ( شمعدان ) فإن البنية الأساسية له قائمة على تداعي مدلول الشمعدان وإلصاقها بالمشبه المحذوف وعلى حين نجد النص الأول يعتمد على التزاوج بين الاستعارة المكنية والتصريحية معا يأتي الثاني فيعتمد على الاستعارة المكنية فقط من خلال واو المعية لإكساب المصاحبة أما الثالث فيأتي مقتضبا بالاستعارة التصريحية فقط وكأنه إحالة للوظيفة التي سيكتسبها المشبه من خلال النص ولعل بذلك يجعل النص مفسرا للعلاقة المخفية في الاستعارة التصريحية .
إن الولوج إلى داخل النصوص المشار إليها يستدعي فهما أكبر للوظيفة الاستعارية أو للصوت الاستعاري داخل الصورة الشعرية ما يجعلنا نتراجع قليلا إلى رؤية مشتركة بين العلامتين الآمدي وعبد القاهر الجرجاني حيث أنهما يعتبران أن وظيفة الصورة هي التمثيل الحسي للتجربة الشعرية الكلية وهذا يعني بالضرورة فهما أوسع للاستعارة حيث أنها ليست مجرد تقليد بل هي إبراز للمشاعر وهما بذلك لا يرفضان التقليد في الاستعارة لما لها من أهمية في الصورة الشعرية بل يجعلان التقليد سببا للغموض وإن لم يرفضا الغموض كليا بل هما يريان أن الغموض الذي يكسب المعنى شرفا وزائدة في فضله وهذا ما فسره عبد القاهر بقوله ( إن التعقيد المطلوب ينبغي أن يكون بالقدر الذي يصبح المعنى به كالجوهرة ) أسرار البلاغة ص 134 ـ وهذا ما أكد عليه إحسان عباس بقوله ( أن الوضوح ليس من جوهر الشعر ) فن الشعر ص 197 .
إذن فجمال الاستعارة نابع على ما سبق من غموضها المتناسب مع الحالة وأن حالة الغموض هي من طبيعة الصورة الفنية ولغة الشعر وهذا أيضا ما صرح به د / يوسف أبو العدوس في كتابه ( الاستعارة في النقد الأدبي ـ الأبعاد المعرفية والجمالية ) حيث يرى أن الانحراف عن التعبير هو مظهر ثانوي للاستعارة أما عن المظهر الأساسي فهو في كون الاستعارة تنتج أنواعا من الاستعمالات اللغوية والتي تدعو القارئ لاكتشاف أنواع معينة من ترابط الأفكار وتداعيها فيجعل من الاستعارة مجسمة مرة مثلما جاء في النص الأول ( المطر معذور / نلوم القمح / نبكي طواحين الشتا / خان الصباح / نلوم الصباح ) أما في النص الثاني فيختفي أو يكاد هذا النوع من الاستعارة إلى النوع المتحول مثل ( ينتعل نبضي / يتخشب الحكي / بابه / الجم الدمعة ) وفي النص الثالث فيعتمد على التنوع في الاستخدام فنجد المجسم في ( عيون الوقت / ضاق ذرعه / شاخ ضلعه ) وكذلك يستخدم النوع المتحول ( شتا الإحساس / نضوي / سرابك / سكنتي شمعدان / هامش كتابك ) على حين لم يستخدم أي نص الاستعارات من الحيوان ولا يعني هذا قصورا وإن كان التوسع والتنوع يعطي للنص زخما إلا أن هذا لا يعني بالضرورة السقوط بل السؤال هل تم توظيف ذلك لخدمة المعنى والصورة ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تعني التحول لفهم التجربة ذاتها فإن كان النص الأول يعرض لتجربة العلاقة بين الحرمان والجوع من جهة وبين الحياة المعاصرة وبالطبع محاولة الشاعر رسم طبيعة هذا الصراع أو وجه هذه الحياة الملونة بطابع الجوع الحرمان والذي يجعلهما القربان للفقر تقربا لهذه الحياة في مشهد أقرب للجاهلية ما يجعل التداعي للصورة المقيتة للصراع المتوحش داخل هذه الحياة فإن الاستعارة هنا تعتمد إذن على أنسنة الجمادات والمظاهر المشكلة لطبيعة هذه الحياة كي تعطي الحيوية المطلوبة للصورة وقربها من المشاعر الإنسانية فلنأخذ مثلا قول الشاعر عبد العزيز العميري ( نلوم القمح أو نبكي طواحين الشتا المغدور / حصاد الصيف ما كفّى يصون الفارس المقدام / حصير الفقر لو خان الصباح وما هداه فطور / نلوم الصبح أو فقر السنين الناحبات عضام ) فيمكن من تكوين العلاقات الجديدة نخرج معنى قد يبدو أكثر جدة من ذي قبل فالمعنى المسطح للبيتين يقوم على رؤيتنا للحياة حيث الخطأ في الخطاب والإسناد ( إسناد اللوم والبكاء معا ) وهذا ما يؤكد عليه البيت الثاني حيث يأتي معاكسا للأول فإن كان الأول بدأ بفعل اللوم نتيجة الخطأ في الرؤية فإن الثاني يعتمد على فعل اللوم لكنه نتيجة بناء على اعتقاد الخيانة أما لو حاولنا تحليل الأصوات الاستعارية أو بنى الاستعارة في البيتين نجد ما يلي : 1 ـ القمح إنسان ملام والذات تلوم / 2 ـ الطواحين مصدر للبكاء والحزن لأنها مغدورة / 3 ـ عدم اكتفاء الفارس بما قدمه الصيف وعليه فإن 1 = نقل الصفة الإنسانية للفعل الخطأ المستحق للوم ما يعني التحول لا للإنسانية فقط بل لإسنادها الفعل الحقيقي للخطأ / 2 = اكتساب صفة المغدور للطواحين والتي تستحق البكاء والحزن عليها وعليه فإن المعادلة التالية ( 1 + 2 = الخطأ الحقيقي ناتج من غدر القمح للطواحين والمستلزم اللوم والبكاء وهما فعلان متجانسان يحيلنا إلى تداعي الرؤية غير الواعية لأصل المشكلة ذاتها .
على حين النص الثاني للشاعر عبد الناصر السديري يبدأ بقوله ( كدا مروا / فقير يدور فتات الطعام وينتعل نبضي / كذا مروا والرجاء جف وتكسر والعمر عكرة سنينه اختصاره بي غدا به عباءة عجوز بريحة الصندل / كذا مروا وجع يستمطر أشباه الجروح ويهطل بصمتي ) فهناك ثلاثة حالات للمرور بثلاثة تشبيهات على حين يأتي المشبه به في صورة استعارية مركبة أو بسيطة وعليه فيمكن لنا تصوره في صورة رياضية كالتالي : 1ـ فقير ينتعل النبض / 2 ـ الرجاء جاف ومتكسر مع العمر المقارب للموت لمروره السريع / 3 ـ الوجع يطلب تدافع الجرح أو أشباه الجرح كي يسقط على صمته ولذلك فإن المعادلة للصورة تأتي ( 1 + 2 + 3 = الحالة ترتكز على الفقر كحامل له والتطلع جاف مفتت تحول بالحالة للموت ما يجعل الألم يسارع في طلب صوت الصمت الساكن في الذات كي تبوح بما تحتويها .
أما النص الثالث للشاعر حمد سعيد المشرفي فيبدأ نصه بقوله ( وجيتك في شتا الإحساس شمعه م من الحرمان نضوي ومن غيابك / بليل سرمدي ضاق ذرعه / ينادي الشمس تطلع من حجابك ) فالصورة في هذين البيتين تقوم على تواجد الذات ( جيتك ) خلال الحيز الزمني الليل وهما أي الذات والحيز الزمني يتبادلان الأدوار في الفعل حيث المجيء في صورة الشمعة ( تشبيه ) ليتداعى وجه الشبه ( الإنارة / التدفئة / الاثنين معا / الجمالية للمشهد ) ليكون علاقة مع شتا الإحساس منطلقا من الحرمان والغياب ليصل غلى حالة الاشتعال في إطار الحيز الزمني ( الليل الممتد ) الموصوف بالتضجر والتطلع للغد هذه الصورة كانت بنيتها مرتبطة تماما بالتشبيه وعليه فإن 1 ـ شتا الإحساس = التجمد المحتاج إلى التحول والتدفئة / 2 ـ نضوي = الاشتعال أتٍ انطلاقا من الشعور بالحرمان والغياب / 3ـ ضاق ذرعه ـ ينادي = الليل متطلع للانفراج انطلاقا منها وبهذا تصبح الصورة في هيئة معادلة كالتالي ( 1 + 2 + 3 + = الذات تحاول أن تكون مصدر الفكاك والتحول من الجمود الزمني الممتد والمتطلع للتحول من خلالها هي لا من غيرها )
وعلى هذا فإننا يمكن أن نفهم ما عناه لاكان حيث صرح أن الاستعارة تزين ووشي لاحق باللغة وأثرها ينبع من تآلف المألوف مع غير المألوف ما يؤدي التجلية والإدهاش فالأولى تستقى من الأداء اللغوي للنسق والإدهاش من تقديم لذة ذهنية من إدراك المشابهة بواسطة البناء الاستعاري وعليه فإن الاستعارة تبدو بفائدة هامة من حيث إضفاء الحيوية والوضوح والاختصار وهي لا تقوم بذلك إلا من خلال الاعتماد على التفاعل الاستعاري بمعنى تبادل الصفات بين المستعار والمستعار له حيث أن كل واحد يعدل من صفات الآخر .
دراسة في بنى الاستعارة في الصورة الشعرية للشعر الشعبي
النصوص الفائزة في مسابقة المنتدى الأدبىّ2009م نموذجا
بقلم / هشام مصطفى
Hesham9994@hotmail.com
ما من شكٍّ في أن الصورة الشعرية في النص الأدبي عموما والشعري خصوصا تحتل المرتبة الأولى من الدراسات النقدية إذ أنها الحامل للعاطفة والمسئولة عما يسمى التداعي الذي على أساسه يتفاعل المبدع والمتلقي من خلال عملية الإبداع الأولى والثانية فالصورة في نظر كودوج ( هي الإحساس الذي يهيمن على القصيدة كلها ، والعاطفة في نظره أيضا بدون صورة عمياء ، والصورة بدون عاطفة فارغة ) المجمل في فلسفة الفن ـ كروتشيه .
وهذا ما قرره سابقا الآمدي إذ يرى الصورة ( التشبيه والاستعارة وغيرها ) في داخل القصيدة الواحدة ليست مجرد تقرير معنى أو توكيده فحسب وإنما مهمتها أن تتعاون مع غيرها على إبراز رؤية الشاعر وتحديد موقفه من الشيء الذي يصوره .
إذن فنحن أمام اتفاق غير معلن بين الآمدي وبندتو كروتشيه الناقد الإيطالي في كونهما يريان أن شخصية الأديب أو الشاعر تتجلى في صورة صدق شعوره وعدم تكلفه أو أصالة تعبيره عن نفسه ومشاعره التي تعلن عنها الصورة الشعرية داخل العمل الفني ذاته لذا فمن المهم أن نحاول قدر الإمكان فهم الصورة والأصوات المجازية أو بنى المجاز وتحديدا الاستعارة .
ونحن إذ نحاول فهم ماهية الاستعارة بعيدا عن المفهوم المدرسي للمصطلح والذي شاع لسهولته أو لأننا لم نجد غيره أمامنا كي نتعرف على هذا المجاز الأكثر عطاء وفاعلية في تداعي العاطفة من الشعور الجواني للمبدع الأول كي يلامس لب المبدع الثاني / المتلقي وعليه لعلنا في عجالة نضع تصورا تاريخيا للمصطلح .
فابن جني فيما نقله عن السيوطي يرى أن ( الحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة والمجاز ما كان بضد ذلك ) الخصائص ـ وأما عن الاستعارة فيراها في وضع الكلمة للشيء مستعارة من موضع آخر ، أما الثعالبي في فقه اللغة وأسرار العربية فيقول عنها ( أنها من سنن العرب ، وهي أن تستعير للشيء ما يليق به ويضعوا الكلمة مستعارة له من موضع آخر ) على حين يرى أبو عبيدة في كتابه ( مجاز القرآن ) أن الاستعارة ( هي انتقال المعنى من لفظ إلى لفظ آخر ) وبذلك فهو يضع توسعا للمعنى الاستعاري للمصطلح إذ لا يكتفي بكونها استعارة للشيء بل يتبع ذلك تأثرها في المعنى أو التركيز على صفة الانتقالية للمعنى .
أما ابن قتيبة ( أبو عبد الله بن مسلم بن قتيبة ) فيضيف على فهم التوسع السابق للاستعارة شيئا هاما ألا وهو المبالغة فهو لا ينكر أن تقوم الاستعارة على المبالغة بل يجعلها سبيلا للتوضيح واستقصاء الصفة وانطباع الصورة في المخيلة وإن كان قد اشترط أن تكون في حدود الذوق ( أي المبالغة ) و مستحسنة في حيز التعبير ، ولعل المبرد قد توسع في تتبع مواضع الاستعارة على أساس مفهوم النقل السابق لابن قتيبة إذ يرى أن الاستعارة تصل إلى حروف الخفض ( الجر ) حيث تأخذ وظائف الحروف الأخرى فقوله تعالى ( ولأصلِّبَنَّكم في جذوع النخل ) إذ إن حرف الخفض ( في ) أخذ عمل الحرف ( على ) حيث الصلب يكون بالاستعلاء لا بالظرفية ما يعني أن انتقال معنى الإحاطة للنخل هو ما جعلت ( في ) بمعنى الوعائية لعملية الصلب واستحقت أن تأخذ مكان ( على ) .
هذا المدخل على اختصاره الشديد سواء أكان تتابعا تاريخيا للمصطلح أم أنه محاولة لطرح الاستعارة لا من زاوية الشكل بل من ناحية المضمون والهوية حيث أن جعلها تشبيها حذف أحد طرفيه يجعلها تابعا للتشبيه لا مستقلة عنه وهنا نحاول أن نجعلها مستقلة .
فالاستعارة إذن هي عملية خلق جديد في اللغة وهي لغة داخل اللغة فيما تقيمه من علاقات جديدة بين الكلمات وهي بهذا كأنما منحت التركيب تجانسا كان مفتقده وبهذا تصبح الاستعارة أكثر من كونها مجرد مقارنة بين عنصرين أو كلمتين بل هي ربط لسياقين ربما يكونان بعيدين جدا عن بعضهما في السابق ، وهذا ما جعل نلسون جودفان في كتابه ( لغة الفن ) المدخل السياقي لدراسة الاستعارة حيث أنها تمنح الكلمة بناء على هذا خصائص جديدة هذه الخصائص لا تبدو جلية إلا من خلال السياق الكلي للجملة الشعرية ( وهنا التقاء مع نظرية النظم للعلامة عبد القاهر الجرجاني )
فإن كانت الاستعارة عملية خلق جديدة داخل اللغة فإن بنية العتبات للنصوص الثلاثة دالة على ذلك بطريقة رائعة حيث النص الأول ( قربان الفقر ) تجعل من مدلول الفقر كأمر ذي شأن اعتباري له مكانة يحق له تقديم ما يقربه من محاولة الخلاص هذا الفهم للمعنى الجديد للفقر لم يأخذ حيز المعنى المولد إلا من خلال الإسناد بين القربان كدال وبين الفقر كدال آخر مغاير للأول ، هذه العلاقة الجديدة التي أنشأها الشاعر لم تكن لتولد إلا من خلال الأسلوب الاستعاري من جهة ومن جهة أخرى فهمنا لها من خلال رؤية الاستعارة النظرية السياقية للاستعارة أو عملية انتقال المعنى ذاته من القربان إلى الفقر ليأخذ مكانه في الحقيقة وذلك فإن الرؤية النمطية التقليدية لفهم الاستعارة على أنها تشبيه حذف أحد طرفيه يقضي على هذا المعنى ويحيلنا إلى فهم آخر للتركيب ذاته حيث يصبح استعارة تصريحية وتصبح القصيدة ذاتها أو محمولها هو ذاته الذي يوازي أو يتعادل في صفة القربان كشيء مقدم مذبوح ولا أعتقد أن الشاعر كان يقصد ذلك إذ يصرح في نهاية النص بقوله ( حطبت الجوع لك قربان ) وبذلك يجعل الفقر ذاته هو المشكل للقربان لا المكتسب لهذه الصفة .
على حين يأتي النص الثاني ( حزين وشارعي مسكين ) لتجعل الاستعارة للجماد مؤنسنة من خلال اكتساب الصفة وتداعيها لتتعاضد مع الحزن ليشكلا معا حيزا مكانيا للذات يتسم بما يدعو للحزن والمشاركة فيه وهنا أيضا تنعكس عملية الانتقال ذاتها فالنص الأول يأخذ الفقر ( أو المضاف إليه من المضاف ) أما هنا فإن الموصوف يأخذ من الصفة أنسنتيها ليتحول الجماد إلى حيزا إنسانيا ذات طبيعة حزينة تتناسب وحالة الذات جراء استخدام صيغة المبالغة فعيل والدالة على الموصوف والصفة معا ، أما النص الثالث فأنه ( شمعدان ) فإن البنية الأساسية له قائمة على تداعي مدلول الشمعدان وإلصاقها بالمشبه المحذوف وعلى حين نجد النص الأول يعتمد على التزاوج بين الاستعارة المكنية والتصريحية معا يأتي الثاني فيعتمد على الاستعارة المكنية فقط من خلال واو المعية لإكساب المصاحبة أما الثالث فيأتي مقتضبا بالاستعارة التصريحية فقط وكأنه إحالة للوظيفة التي سيكتسبها المشبه من خلال النص ولعل بذلك يجعل النص مفسرا للعلاقة المخفية في الاستعارة التصريحية .
إن الولوج إلى داخل النصوص المشار إليها يستدعي فهما أكبر للوظيفة الاستعارية أو للصوت الاستعاري داخل الصورة الشعرية ما يجعلنا نتراجع قليلا إلى رؤية مشتركة بين العلامتين الآمدي وعبد القاهر الجرجاني حيث أنهما يعتبران أن وظيفة الصورة هي التمثيل الحسي للتجربة الشعرية الكلية وهذا يعني بالضرورة فهما أوسع للاستعارة حيث أنها ليست مجرد تقليد بل هي إبراز للمشاعر وهما بذلك لا يرفضان التقليد في الاستعارة لما لها من أهمية في الصورة الشعرية بل يجعلان التقليد سببا للغموض وإن لم يرفضا الغموض كليا بل هما يريان أن الغموض الذي يكسب المعنى شرفا وزائدة في فضله وهذا ما فسره عبد القاهر بقوله ( إن التعقيد المطلوب ينبغي أن يكون بالقدر الذي يصبح المعنى به كالجوهرة ) أسرار البلاغة ص 134 ـ وهذا ما أكد عليه إحسان عباس بقوله ( أن الوضوح ليس من جوهر الشعر ) فن الشعر ص 197 .
إذن فجمال الاستعارة نابع على ما سبق من غموضها المتناسب مع الحالة وأن حالة الغموض هي من طبيعة الصورة الفنية ولغة الشعر وهذا أيضا ما صرح به د / يوسف أبو العدوس في كتابه ( الاستعارة في النقد الأدبي ـ الأبعاد المعرفية والجمالية ) حيث يرى أن الانحراف عن التعبير هو مظهر ثانوي للاستعارة أما عن المظهر الأساسي فهو في كون الاستعارة تنتج أنواعا من الاستعمالات اللغوية والتي تدعو القارئ لاكتشاف أنواع معينة من ترابط الأفكار وتداعيها فيجعل من الاستعارة مجسمة مرة مثلما جاء في النص الأول ( المطر معذور / نلوم القمح / نبكي طواحين الشتا / خان الصباح / نلوم الصباح ) أما في النص الثاني فيختفي أو يكاد هذا النوع من الاستعارة إلى النوع المتحول مثل ( ينتعل نبضي / يتخشب الحكي / بابه / الجم الدمعة ) وفي النص الثالث فيعتمد على التنوع في الاستخدام فنجد المجسم في ( عيون الوقت / ضاق ذرعه / شاخ ضلعه ) وكذلك يستخدم النوع المتحول ( شتا الإحساس / نضوي / سرابك / سكنتي شمعدان / هامش كتابك ) على حين لم يستخدم أي نص الاستعارات من الحيوان ولا يعني هذا قصورا وإن كان التوسع والتنوع يعطي للنص زخما إلا أن هذا لا يعني بالضرورة السقوط بل السؤال هل تم توظيف ذلك لخدمة المعنى والصورة ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تعني التحول لفهم التجربة ذاتها فإن كان النص الأول يعرض لتجربة العلاقة بين الحرمان والجوع من جهة وبين الحياة المعاصرة وبالطبع محاولة الشاعر رسم طبيعة هذا الصراع أو وجه هذه الحياة الملونة بطابع الجوع الحرمان والذي يجعلهما القربان للفقر تقربا لهذه الحياة في مشهد أقرب للجاهلية ما يجعل التداعي للصورة المقيتة للصراع المتوحش داخل هذه الحياة فإن الاستعارة هنا تعتمد إذن على أنسنة الجمادات والمظاهر المشكلة لطبيعة هذه الحياة كي تعطي الحيوية المطلوبة للصورة وقربها من المشاعر الإنسانية فلنأخذ مثلا قول الشاعر عبد العزيز العميري ( نلوم القمح أو نبكي طواحين الشتا المغدور / حصاد الصيف ما كفّى يصون الفارس المقدام / حصير الفقر لو خان الصباح وما هداه فطور / نلوم الصبح أو فقر السنين الناحبات عضام ) فيمكن من تكوين العلاقات الجديدة نخرج معنى قد يبدو أكثر جدة من ذي قبل فالمعنى المسطح للبيتين يقوم على رؤيتنا للحياة حيث الخطأ في الخطاب والإسناد ( إسناد اللوم والبكاء معا ) وهذا ما يؤكد عليه البيت الثاني حيث يأتي معاكسا للأول فإن كان الأول بدأ بفعل اللوم نتيجة الخطأ في الرؤية فإن الثاني يعتمد على فعل اللوم لكنه نتيجة بناء على اعتقاد الخيانة أما لو حاولنا تحليل الأصوات الاستعارية أو بنى الاستعارة في البيتين نجد ما يلي : 1 ـ القمح إنسان ملام والذات تلوم / 2 ـ الطواحين مصدر للبكاء والحزن لأنها مغدورة / 3 ـ عدم اكتفاء الفارس بما قدمه الصيف وعليه فإن 1 = نقل الصفة الإنسانية للفعل الخطأ المستحق للوم ما يعني التحول لا للإنسانية فقط بل لإسنادها الفعل الحقيقي للخطأ / 2 = اكتساب صفة المغدور للطواحين والتي تستحق البكاء والحزن عليها وعليه فإن المعادلة التالية ( 1 + 2 = الخطأ الحقيقي ناتج من غدر القمح للطواحين والمستلزم اللوم والبكاء وهما فعلان متجانسان يحيلنا إلى تداعي الرؤية غير الواعية لأصل المشكلة ذاتها .
على حين النص الثاني للشاعر عبد الناصر السديري يبدأ بقوله ( كدا مروا / فقير يدور فتات الطعام وينتعل نبضي / كذا مروا والرجاء جف وتكسر والعمر عكرة سنينه اختصاره بي غدا به عباءة عجوز بريحة الصندل / كذا مروا وجع يستمطر أشباه الجروح ويهطل بصمتي ) فهناك ثلاثة حالات للمرور بثلاثة تشبيهات على حين يأتي المشبه به في صورة استعارية مركبة أو بسيطة وعليه فيمكن لنا تصوره في صورة رياضية كالتالي : 1ـ فقير ينتعل النبض / 2 ـ الرجاء جاف ومتكسر مع العمر المقارب للموت لمروره السريع / 3 ـ الوجع يطلب تدافع الجرح أو أشباه الجرح كي يسقط على صمته ولذلك فإن المعادلة للصورة تأتي ( 1 + 2 + 3 = الحالة ترتكز على الفقر كحامل له والتطلع جاف مفتت تحول بالحالة للموت ما يجعل الألم يسارع في طلب صوت الصمت الساكن في الذات كي تبوح بما تحتويها .
أما النص الثالث للشاعر حمد سعيد المشرفي فيبدأ نصه بقوله ( وجيتك في شتا الإحساس شمعه م من الحرمان نضوي ومن غيابك / بليل سرمدي ضاق ذرعه / ينادي الشمس تطلع من حجابك ) فالصورة في هذين البيتين تقوم على تواجد الذات ( جيتك ) خلال الحيز الزمني الليل وهما أي الذات والحيز الزمني يتبادلان الأدوار في الفعل حيث المجيء في صورة الشمعة ( تشبيه ) ليتداعى وجه الشبه ( الإنارة / التدفئة / الاثنين معا / الجمالية للمشهد ) ليكون علاقة مع شتا الإحساس منطلقا من الحرمان والغياب ليصل غلى حالة الاشتعال في إطار الحيز الزمني ( الليل الممتد ) الموصوف بالتضجر والتطلع للغد هذه الصورة كانت بنيتها مرتبطة تماما بالتشبيه وعليه فإن 1 ـ شتا الإحساس = التجمد المحتاج إلى التحول والتدفئة / 2 ـ نضوي = الاشتعال أتٍ انطلاقا من الشعور بالحرمان والغياب / 3ـ ضاق ذرعه ـ ينادي = الليل متطلع للانفراج انطلاقا منها وبهذا تصبح الصورة في هيئة معادلة كالتالي ( 1 + 2 + 3 + = الذات تحاول أن تكون مصدر الفكاك والتحول من الجمود الزمني الممتد والمتطلع للتحول من خلالها هي لا من غيرها )
وعلى هذا فإننا يمكن أن نفهم ما عناه لاكان حيث صرح أن الاستعارة تزين ووشي لاحق باللغة وأثرها ينبع من تآلف المألوف مع غير المألوف ما يؤدي التجلية والإدهاش فالأولى تستقى من الأداء اللغوي للنسق والإدهاش من تقديم لذة ذهنية من إدراك المشابهة بواسطة البناء الاستعاري وعليه فإن الاستعارة تبدو بفائدة هامة من حيث إضفاء الحيوية والوضوح والاختصار وهي لا تقوم بذلك إلا من خلال الاعتماد على التفاعل الاستعاري بمعنى تبادل الصفات بين المستعار والمستعار له حيث أن كل واحد يعدل من صفات الآخر .