• ×
الجمعة 10 أكتوبر 2025 |

يـ البعيدة : ما لنا جنحان

0
0
923
 
يـ البعيدة : ما لنا جنحان

يقرؤه نخلة ، نخلة : حمود الحجري
hadakeh44@hotmail.com


ثمة نصوص لا تسلم نفسها للقارئ من الوهلة الأولى ، نصوص عنيدة ، نصوص مشاكسة ، نصوص مراوغة ، ترهق المتلقي ، وتعذبه ، لكنه عذاب لذيذ ، محبب ، يمنحنا لذة الاكتشاف ، ومتعة الوصول بعد عناء المثابرة .
ليست القراءة العابرة ، وليس المرور العابر ، بالطبع ، من يفتح الأبواب الموصدة ، ويمنحنا مفاتيح القصيدة ، وأسرارها ، وخباياها
نص صالح الرئيسي ، حنايا الأرض(1) ، على هذه الشاكلة من النصوص ، نص يتخلق من طينة الإبداع الأصيل .
سمانا ، يالبعيدة ، يالبعيدة ما لنا جنحان
المفارقة تبدأ من الشطر الأول !!
الشاعر ينادي سماءه ، بدون أن يستخدم ( يا ) المنادى ، للدلالة على القرب ، على شدة القرب والالتصاق والحميمية ، فهي ، أي السماء ، قريبة إذاً ، إلا أنه يصدمنا بوصفها بالبعيدة ، بعد هذا الإيحاء ، الذي لا يقبل الشك ، بالقرب ، ويؤكد على ثيمة البعد بالتكرار ( يالبعيدة ، يالبعيدة ) .
إنها إذا سماؤه القريبة ، البعيدة في آن واحد .
نموت أحرار دام ان النجاة آخر أمانينا
أيتها القريبة من الحنايا ، بالله عليك : أي جنحان بمقدورها أن تجوب آفاقك البعيدة ، البعيدة ؟! ، \" ما لنا جنحان \" بمقدورها أن تختزل مسافاتك الحميمة الشاسعة ، المترامية ، فلا حدود لاتساعك ، ولكن لا بد أن نكرر المحاولة ، ونعبرك كـ \" عصافير ... تجتاز على صغرها المحيط الواسع العظيم \"(2) ، وهذه شيمة الأحرار ، وهذا ديدنهم دائما ، لا يقفون مكتوفي الأيدي ، بل يرمون بأنفسهم في قلب الوطيس ، لأن \" النجاة آخر أمانينا \" ، في آخر القائمة ، بينما الحرية هي من يقف في أول الطابور ، متصدرة كل الأولويات .
رمينا الملح في كل المدن ما نحسب البلدان
نسافر ما طعمنا سكر الفرقى خطاوينا
توادعنـا كـثـيـر ولا عـرفـنـا ضحكة البيبان
ولا في بـالنـا أول هـوانـا لـو يـخـطـيـنـا
تعبنا كثير ما نكتب عن الفرقى على الجدران
حبيبي : ما لها الجدران ما تسمع مآسينا
كتبنا : يا العمر شابت ليالينا أسى وحرمان
ولا قـدر لنـا قـبـلـة لـقـانـا في ليالينا
أيـادينـا نبـت فيهـا الحنيـن وحظها الفنجان
نقلب حلمنا .. خطوط الأماني في أيادينا
نلون في أمانينا من أحجـار السهـر ألـوان
ونكبر .. لو تموت أحلامنا .. تبقى أسامينا
كبرنا اليوم ما نرمي مآسينا على الأوطان
بتبقى أوطاننـا مهمـا تغربنـا .. منـافينـا
محطات حياتنا سفر متواصل ، ووجع مستمر ، من وداع إلى وداع ، ومن غربة إلى غربة ، لا يقودنا الليل سوى إلى ليل مثله أو أشد حلكة .
تغربنا كثيرا ( رمينا الملح في كل المدن / ما نحسب البلدان ) ، مدن كثيرة ، وبلدان عديدة ، لا تحصى ، ولا تعد ( تأتي لفظة ( الملح ) للإشارة إلى الدمع والحزن- التعب والمكابدة )
نسافر ما طعمنا سكر الفرقى خطاوينا
هذا الشطر استوقفني كثيرا ...
ربما لتعدد قراءاته
بيد أن من يهوى استدراج المعاني ، واصطياد الأفكار في النص بالقراءة المتواترة التي يتيسر من خلالها الوصول إلى المعنى البعيد المختبئ بين السطور ، وهي ميزة القارئ العنيد ، والخلاق ، الذي لا يرضى بالجاهز من المعاني ، ويظل يراود القصيدة عن نفسها ، وهي بلا شك يروقها كثيرا ، بل وتحب أن ندللها ، وأن تتخطفها الأعين ، لا أن تعامل بجفاء ، أقول من يهوى سبر أغوار القصيدة ، حتما ستمنحه القصيدة خبيئتها الثمينة ..
نسافر ما طعمنا سكر / الفرقى خطاوينا :
هذه الحياة المتشربة بالمرارة ، المعجونة بالألم ، ليس ثمة متسع فيها لفرح ، لوقت سكّري ، إنما هي ( الفرقى ) ، تتناسل من كل حدب وصوب ، أينما نيمم قلوبنا ثمة فرقى ( الفرقى خطاوينا ) .
وهذا ، وربي ، شعور فضيع بالعبثية واللاجدوى ، وإحساس مقيت بالاغتراب .
نسافر ما طعمنا سكر الفرقى خطاوينا :
هذا السفر المتواصل ، في نواحي الألم والشقاء ، لم يتح لنا أن نُطعِم خطاوينا \" سكر الفرقى \" ، ولم يدع لنا فسحة بسيطة للتقرفص على حصيرة الحلم ، للتخفيف من حدة المرارة ، الحلم الذي هو بمثابة الكريمة ، التي نضعها على كعكة أيامنا ، إن جاز لنا أن نشبه أيامنا بالكعكة ، أو لنقل أنه ليس سفرا للترفيه والمتعة وتزجية الوقت ، سفر كهذا ليس في هذه الحضرة أبدا .
وحديث الفرقى طويل ، طويل ، متشرب بالأسى والحرمان ، ونحسب من فرط التوحد بالأشياء والجمادات أنها تشاركنا بوحنا وأحزاننا وتفاصيل أوجاعنا وشؤوننا الحميمة ، وننفعل إزاء سلبيتها أحيانا ( سلبيتها المفترضة )، ونوجه لها اللوم والعتاب !! \" حبيبي : ما لها الجدران ... \" ، ما أكثر ما كتبنا عن \" الفرقى على الجدران \" وما أكثر ما كتبنا ...
نحن المرهونون للسفر ، لهذا الحلزوني ، الأفعواني ، لوباله ، ونكاله ، لم يتسنى لنا وقت ولو للقاء عابر ، \" ولا عرفنا ضحكة البيبان \" ، وتلويحتها المحببة والعفوية للقادم الحبيب ، حتى الهوى الأول ، الحنين الأول ، المنزل الأول ، بقعة الضوء العامرة التي تتوالد منها شتى التفاصيل الجميلة \" ولا في بالنا \"، وهي خطيئة بلا شك ، خطيئة لا تغتفر ، فلم يعد سوى ( الحنين وقراءة الحظ المائل وأحجار السهر التي نتفنن في تلوينها كي تبدو مستساغة وأحلام ميته ومآسي \" ما نرمي مآسينا على الأوطان \" وهنا تأتي المفارقة الثانية ( أوطاننا ، منافينا ) التي تدعم وتؤازر المفارقة الأولى ( القريبة ، البعيدة ) وهنا يتضح أن غربة الشاعر غربة ذاتية صرفة ، وليست سفرا ماديا ملموسا .
كريم يا النهر مجـراك لـو يسقي فم الخلجـان
لنـا الأقـدار يـم ٍ ويـن ما حـطت مـراسـينـا
سقى الله من لها بين المحاني مورد العطشان
عـلـى سـدرة صبـاها كـم ننوح وكم تـأسينا
عزانا الأرض نزرع في حنايا ترابها إنسان
قـريـبـة .. لـو رحلنـا .. أرضنـا باكـر تنادينا
بـعـيـدة يا السمـا .. واللي مثلنا ما لهم جنحان
نمـوت أحرار لو شاب العمر .. تبقى أمانينا
ماؤك عذب ، ومجراك كريم ، وسيرتك عطرة ، ناصعة البياض ، ولكن هكذا هي الأنهار ، المعين العذب الذي \" يسقي فم الخلجان \" وستظل سيرتك العذبة تحرك دفائننا وتوقد أشواقنا ، وتثير دخائلنا ، وسنظل \" نرمي الملح في كل المدن \" ولكن ماذا في أيدنا ؟!!
لنا الأقدار يم ٍ وين ما حطت مراسينا
أين ما ذهبت سفننا ، وأين ما قادتها الرياح والعواصف ، وأين ما رست سيظل القدر ، قدر الموت ، هو اليم الأخير الذي ترسوا فيه هذه الألواح .
هييييييه يا سماء ، ما أبعدك !!
أما وقد رجَعَت إليك راضية مرضية ، تلك النفس المطمئنة ، والروح الشفيفة ، النقية ، والعذبة كالنهر ، ماذا نملك من حيلة \" واللي مثلنا ما لهم جنحان \" !!!.
إن الشوق والأسى على \" من لها بين المحاني مورد العطشان \" جارف فوق طاقة سدود الصبر ، \" على سدرة صباها كم ننوح وكم تأسينا \" ، ولكن ماذا بوسعنا سوى \" أمانينا \" التي استحالت في أيادينا خطوطا وتعرجات نحيلة كزاهد أضناه الزهد وأرهقته الصلاة المتواصلة ..
\" أمانينا \" بلقاء منتظر ، لقاء فردوسي أخضر .
وهذا عزاؤنا \" عزانا الأرض \" ، \" لو رحلنا أرضنا باكر تنادينا \" .
أيتها القصيدة ...
منا هذه المكابدة ، وهذا الجهد .
ومنك هذا السحر الأبدي كحجر لازوردي
ألا ما أبعد مراميك \" واللي مثلنا ما لهم جنحان \" .

الهوامش :
(1) حنايا الأرض ، النص الفائز بالمركز الثاني في مهرجان المجلس الثالث
(2) فيكتور هيجو ، أحدب نوتردام ، نقلها للعربية رمضان لاوند