• ×
الجمعة 10 أكتوبر 2025 |

حواس الطائي في مفردات المعنى

0
0
1149
 
حواس الطائي في مفردات المعنى
ثلاث وخمسون حبة من الزبرجد الحر

للكاتب شوقي حافظ
* عضو اتحاد كتاب مصر



(ليس كل سالف خراباً وليس كل تمرد ثورة)
هكذا قال ذات مرة الشاعر المصري حلمي سالم، وقد شاغلتني تلك الرؤية وأنا أطالع (بن) الكتاب الجديد لعبد الحميد الطائي فما بين زبرجدة الألف، وياقوتة الباء. ثمة حواس طالعة للحروف تحتويها ست وعشرون أيقونة من حرف الألف، كل أيقونة مركبة منه يصحبها من الأبجدية بقية من حروفها، وسبع وعشرون مثلها من حرف الباء، وتنثر الألف أربعمائة وخمس وسبعون درة، بينما تنثر الباء دررا تصل إلى أربعمائة وسبع وعشرين درة. بينما حظي حرف الباء والنون فقط بإحدى وثمانين درة منفردين، ووردا بآخر هذه الزبرجدة الجميلة (بن).

هذا هو المبنى العام لـ(بن) وفهمنا للباء والنون أنتج فينا وعي البناء بذخائر الحرف العربي، وهو المفتون به أيما افتتان، والموغل في تضاريسه أيما إيغال، والقاطف رحيقه بعشق جعلني لا أستهين وأشحذ ذائقتى اللغوية والمعرفية كي أتعاطاه.

تقوم تقنية الطائي الكتابية على درجة عالية ومعقدة من الوعي الحروفي، يحيل الكتابة بحد ذاتها إلى عملية مزدوجة من اجترار المعاني المستبعدة بفعل النمو التاريخي والإنساني.

بعبارة أخرى، الكتابة لديه أقرب إلى تمرير منشور لغوي داخل عربة من الأوراق. ولضمان نجاح تمريره يعمد إلى تمزيقه إلى حروف وعبارات مجتزئة، ليُصار إلى إعادة صياغتها وقراءتها في الجانب الآخر لدى المتلقي.

هذه التقنية/ الغرائبية في اللغة والأسلوب أراها من أصعب أنواع الكتابة، لأنها تعتمد درجة متناهية من الوعي والقصدية للتعبير عن فكرة (عبث). لأن تحويل (عبث) إلى فكرة، يمنحها معنى غير موجود في أصله. وهنا تكمن (متاهة) الكائن في (عقله). وهي المرجعية الأساسية في فكر الطائي الذي صاغه في نصوص مكثفة كاشفة، يمتلك كل واحد بنفسه خاصية نص كاملة. ليضيف إليها أيضا خاصية لغوية مميزة طغت على سواها.من كتابات صنفت مسبقا.

واستناداً إلى هذه المرجعية الثقافية حين نريد الحديث عن نص واحد للكاتب لابد أن نتخذ إطارا للحديث عن التجربة بسعتها وعمقها ما أمكن ذلك، دون الانحسار في داخل النصوص القصيرة المكثفة المتلاحقة.

تمتح تجربة الطائي في مفهومنا من منابع فكرية/ فلسفية/ وجودية، أكثر من أي شيء آخر. وقد اتخذت النصوص شكل الوصايا الأيقونات. أو الرؤى التاريخية الغائب عنها ضمير المخاطب لإضفاء خطاب تاريخاني شفيف في تلافيف رؤيته الوجودية.

مع استثناء اللغة والأسلوب. تعتبر شخصية المفكر والفيلسوف عند عبدالحميد الطائي أقوى من الكاتب. لأن النص الأدبي بقدر ما هو وثيقة اجتماعية تاريخية مرتبطة بمرحلة محددة (منغلقة) زمنياً، فإن الخطاب الوجودي الإنساني منفتح في الزمان والمكان والمطلق، وهو ما يمنحه الاستمرارية أو صفة الأبدية. وهذا ما يجعل النص إزاء مستويين في المرجعية القرائية، فلسفية وجودية، واجتماعية سياسية. بمعنى آخر، أننا هنا أمام نموذج، يجمع بين كل من عبدالحميد الطائي ولقمان الحكيم وأرسطو بين القلق والحيرة من جهة، ووضوح الغاية والوسيلة، في شخصية واحدة، وهنا سرّ الالتباس والدهشة في آن.
وتعدّ التعددية التقنية (النص المركب) والتعددية الدلالية (اللغة المتشظية أو الغرائبية) وتغيّر مفاهيم الحداثة النافذة. في طلاق غير رجعي مع النصوص النمطية التقليدية أو المركّبة.


إزعاج النفس
بتعجيزها
**
بحجج مبتكرة
دمر الإنسان
**
امتياز التنقيب
ليس للمستغل
**
بزعم الجفاف
تنضب الأزهار
**
بطولة الإنكفاء
منصة بلا تتويج
**
بقنوات السقى
عطاء
**
بنبرة آمرة
دمر إرث انسجام
**
بنبشه لغبار الأحقاد
يمحو ذاته ،ويقرر
الابتعاد



ففي مثل هذه النماذج، تظهر لعبة الكتابة المائلة للكلمات بما يولد نوعا من أنواع التدرج وضمنه بعض مظاهر التوازي الأفقي والرأسي اللافتة للانتباه لكن اللعبة الشكلية تظل غير موظفة جماليا ودلاليا إلا في أضيق الحدود.

فالمركز الجاذب في المقاطع لا يتمثل في الشكل، الذي أصبح معتادا وسائدا من قبل في كتاباته ولا في هذه اللغة الشعرونثرية لفرط منطقيتها وقلقها الأسلوبي الواضح، وإنما في هذه النبرة الوثوقية العالية برغم إلغازها الدائم واحتياج متلقيها إلى ديمومة تأمل.
كذلك حرف الألف وبقية الأبجدية الذي سيكون موضوع تأمل عميق وتشكيل متطور في مرحلة لاحقة لن يكون في هذه المرحلة أكثر من حرف أبجدي يعين ويحدد بداية الكلمة المركزية في المقطع ومن ذات المنظور أو ثمة تحول كبير في منهج الطائي في التعامل مع ذاته واللغة والعالم حيث سيتجه إلى كتابةأيقونية جديدة تماما وفي المستويين الجمالي الشكلي والدلالي الفكري كما نجده في كتبه السابقة يغامر معتمدا على الاختزال والتكثيف من جهة كما يعتمد علي إيقاعية داخلية تجعله يمثل انحرافا حادا عن المدونة الشعرية العربية القديمة والحديثة في مجملها.

أما في \"بن\" فتظل الثيمات المركزية في هذا المقطع الطويل المتعدد البالغ إحدى وثمانون فقرة الذي تتشكل منه بداية هارمونية من الباء والنون توحي بأن الطائي يقارب عالما داخليا شديد الخصوصية.


بنور الداخل ... لن يخفت الظاهر
بنجم خافت قنعت
سماؤه
فلا لمعان يضيء ذاته


إنها شعرية الشعار المفضية إلى شعرية الرؤية والكشف لأقانيم الذات/ العالم التي لم تكن الرؤى المسهبة والخطابات الكتابية لتفضي إليها.

إنها خلخلة بفضل سلسلة من العمليات الشكلية/ التشكيلية التي تدل على تبلور الوعي بأهمية الانحراف الشكلي من موقع آخر غير موقع الكتابة الشعرية المنثورة.
فالأمر لا يتعلق هنا بالتنكر للمبادئ والقيم الكتابية وأقانيم الكتابة المرعية والمنظورة والسائدة ولا تشبه كتابة الطائي عملية هروب في متاهات الرؤى الصوفية التقليدية وإنما بمحاولة جادة لتطوير أدوات الكتابة وتعميق مجالات الإبداع الكتابي وتنويع أفق الإدراك والتفاعل مع كتابة لم تعد تتمركز حول الدال اللغوي فقط وتختفي منها صورة ذلك الإنسان ـ التجربة ـ الإنسان الحياة ـ الإنسان التراكم الخبراتي أو الحكيم الذي يثق في قوله الذي ينثره أمام مريديه الحاضرين أو الغائبين وفي قدرته على غرسه في وعيهم، ويثق في تحقيقه كل الثقة.

لقد تحول الطائي من كتابة التغيير الخارجي إلى \"فعل\" التغيير في المجال الذي يخصه أكثر من سواه في الداخل، وتحول النص القصير المكثف لديه من وسيلة تبشيرية تحريضية إلى مجال اشتغال على كل ما يمكن الذات والآخر من تكثير المعاني والدلالات بعيدا عن سلطة أي مرجعية معطاة ومحددة سلفا وتحولت الكتابة من تدوين ونقل لكلام مسبق إلى عملية رسم وتشكيل للكلمات وبالكلمات، وبالمعنيين المجازي والحقيقي الملموس المحسوس كما رأينا وسنرى.

والتحول الآخر في سياق هذه التجربة المتميزة يمكن تحديده بانفتاح الكاتب على الآخر المبدع أيضا باعتباره قرين الذات وامتدادها المختلف عنها المتشاكل معها في آن واحد.
فالنص الطائي القصير هنا يخضع لعمليات إعادة صوغ وتشكيل تجمع بين جماليات فن الخط الكاليغرافي والرسم التجريدي إذ تتعاضد أحيانا في العمل ذاته الوظائف الدلالية للكلمة مع الوظائف الجمالية المجردة للحروف، وأحيانا تمحي الأولى لتبرز الثانية فقط مما يدل على غلبة القيمة التشكيلية للحرف على كل دلالة للكلمات مباشرة أو إيحائية.

ورغم أن هذا الكتاب يمكن اعتباره إنجازا جماليا مستقلا بذاته إلا أن مجرد حضوره، وترقيم صفحاته وتبويبها بالأبجدية سواء مفردة أو مركبة كجزء من المجموعة يدل على أن لعبة التشكيل الكاليغرافي ـ التجريدي هذه تمثل امتدادا ما للعبة الكتابة التي استهوت وأغوت الآخر المبدع باعتباره القرين الآخر للذات المبدعة كما أسلفنا.

ما يهمنا في سياق المقاربة الحالية أن عمليات موضعة وهندسة الـ(بن) في كل مقاطعه، تتخذ هنا مظاهر متعددة هي أول وأقوى ما يثير انتباه القارئ ـ الناقد.

فنسبة كبيرة من مقاطعه الأولى موزعة في فضاء الصفحة بطريقة هندسية صارمة تهيمن عليها الأشكال الثنائية المختلفة المواقع والأحجام.

كما يلعب الكاتب على علاقة المتن بالهامش الذى يبتدئ النصوص بحيث يبدو الثاني أبرز وأكثر أهمية من الأول. وتستمر اللعبة التشكيلية ـ الكتابية في كل المقاطع بشكل لافت للانتباه.

فإذا كانت لعبة تشكيل الشكل في (بن) موجهة بمقصديه تجريبية غير قابلة للتحديد الدقيق، فإن اللعبة هنا من طبيعة مماثلة لكن وظائفها الجمالية والفكرية والإيديولوجية أكثر قابلية للتحديد.


وكل عبارة أو صورة في كتابة عبدالحميد الطائي تبدو كما لو كانت تعاني من عزلة كلامية، أومن تفكك جوهري يجعل العلاقة شبة مقطوعة بين الجملة والتي تسبقها أو تليها. وبدلا من الإحساس بسعادة التملك والتشبث بالأشياء، لا تحيل نصوص الطائي إلا إلى لحظه فقدان الذات أو عدم النظر إليها في واقعها الزماني والمكاني المحدد. وهو ما يورث اللغة الطائية خصوصية تجعلها تقطع مع الأساليب اللسانية والبيانية السائدة.ومع أنماط الكتابة السردية أو الشعرية التى تكرس وجودها وتعريفها.