• ×
الجمعة 10 أكتوبر 2025 |

قراءة في نص \" على السفح إياه \" لحسن المطروشي

0
0
1585
 
قراءة في نص \" على السفح إياه \" لحسن المطروشي
الغياب والتأسيس

للكاتب : د . حمود الدغيشي


\" لعلك تجد على هذا السفح شيئا من أعشاب القلب\"

أكاد أذهب قبل قراءتي في سفح المطروشي إلى أن جيلنا الشعري مصابٌ بحساسية مفرطة تجاه عصره وواقعه أكثر من أي جيل في تاريخنا الشعري العربي، وأكاد أذهب إلى أنه ما من عصر من عصور تاريخنا العربي تمرّغ شعراؤه في وحل الاغتراب أكثر من العصر الحاضر؛ لحساسية قضاياه وتأزم واقعه، حتى أصبحت التراجيديا الشعرية سمة ملازمة له، وأصبحت الرؤية الشعرية رؤية مشلولة تنضح بالبكاء المرّ، وتحفر لذاتها أخدود الفناء. وهي رؤية لم تكتف بأن الشعر يخرج من رحم المعاناة، بل زادت على هذه المعاناة أن جعلت من الواقع عدوًّا ورمزا للفناء يطاردها كلّ حين وساعة . قد تبدو نظرتي هذه خاطئة إذا طبقت على شعرنا العربي المعاصر كله، ولكنها تبدو سليمة في مساحة غير قليلة منه. ودعنا ننظر في سفح صديقي المطروشي الذي كتب على هديته الشعرية العبارة الأولى السابقة. ولست معنيا هنا للبحث عن أعشاب القلب في المجموعة الشعرية كلها، ولكنني سأكتفي بالبحث في قصيدة \"على السفح إياه\" التي عنون بها مجموعته، على أنني أجد في هذه المجموعة شيئا من الربكة الشعرية ـ إذا صحّ القول ـ وشيئا هو خارج عن الاستحقاق النقدي الجمالي، كما هي الحال في بعض القصائد العمودية، وعلى كل حال فهو أمر لا يقلل من قدر المجموعة الشعري والفني.

لقد بعثت لفظة \"السفح\" التي جعلها المطروشي جزءا رئيسيا في عنوان مجموعته في نفسي تساؤلات عدّة، لعل أهمها: لماذا اختار الشاعر السفح بدلا من الجبل؟ وهل السفح في مدلوله يختزل حركة هابطة سابقة؟ ومن المسؤول عن حركة الهبوط هذه؟ ألم يقل عمر أبو ريشة:

أصبح السفح ملعبا للنسور فاغضبي يا ذرى الجبال وثوري

على أنها حالة متغيرة أصابت نسره بالشلل حين قهره الواقع وأجبره على الهبوط .

ودعك من سفح \" أبو ريشة \" واهبط معي إلى سفح \" المطروشي \" الذي افتتح قصيدته بـ :

على بعد أكثر من عزلتين
بعيدا يلوح اليمام المغادر نافذتي
موغلا جهة المنحدر

إن رؤية الشاعر إلى الواقع من حوله بكل تجلياته هي رؤية ضبابية تُفقده القدرة على فهم مفردات الأحداث، وتشلّ حركة الوعي لديه . فلعلك منذ الوهلة الأولى تدرك العزلة المكثفة التي تعيشها الذات على المستوى النفسي، ليس لأن اليمام ـ رمز المحبة والسلام ـ غادر النافذة فحسب، وإنما لأن الذات قبل حركة المغادرة تلك كانت تسعى إلى المصالحة مع الواقع فأضحت تعيش رتق الواقع، والنافذة كانت تشكل وسيلة للرؤية تمنح الذات شيئا من الألفة، وتُشعرها بصدى الكون من حولها . واليمام في حالته تلك صورة شعرية فنية كثّفت حدّة الاغتراب بمغادرة اليمام وسيلة الرؤية المتبقية (النافذة). ولعل صورة اليمام أضفت بعدا نفسيا حادا في قضية اختيار المكان البديل للشدو والسكنى وهو \"المنحدر\" . ذلك أن اليمام ينطوي في ذاته على قيمة رمزية هامة في الثقافة الإنسانية، فهو جسر المحبة والسلام، ومن هنا أصبح رمزا روحيا وفكريا للإنسان على مرّ التاريخ .

إن التكثيف اللغوي لألفاظ الغياب (بعد ـ عزلتين ـ بعيدا ـ المغادر ـ موغلا ـ المنحدر) مع توظيف حركة اليمام الدرامية، هو أسلوب الوعي الشعري في التعبير عن حركة الصدام بين الواقع الموغل في منحدر التلوث الحضاري وبين الذات التي دفع بها هذا التلوث إلى البحث عن الألفة والسلام في ملكوت الغياب، من خلال الهروب إلى اللا شيء، إلى اللا إنساني، إلى البحر الممتد في عمقه إلى اللا نهاية، والبحث عن الحقيقة خارج حيّز الحقيقة :

ألفت النزوع إلى ملكوت الغياب
رحلت .. هو البحر تعويذة للمريد،
ويحدث أن أتقصى رذاذ الأساطير ليلا
وأغرق في لغة من حـجـرْ

أن يحدث النزوع إلى خارج الواقع فهو غياب، والرحيل غياب، وتقصي الأساطير غياب، والغرق غياب. فماذا هذا التفتت الداخلي الذي تفقد فيه الذات كل مظاهر الحياة، وتفقد فيه ماهيتها ؟

ودعني أحدثك عن \"الغرق في لغة من حجر\"، فاللغة ـ أيًّا كان شكلها ومفرداتها ـ مظهر رئيسي لصورة الحياة القائمة على الحوار والتواصل، وفقد اللغة هنا يعني غياب الصلة بين الذات والعالم من حولها، وحين تتحول اللغة إلى حجر يعني أنها فقدت نظامها الأساسي في الحوار والتواصل، وبالتالي فقدت الذات هنا من خلال رحيلها الرغبة في المشاركة، أو قل سعت الذات إلى الانفصال عن العالم؛ هروبا من الواقع. وكذا فإن الوعي الشعري ينطلق بعد ذلك إلى بناء حقيقته الخاصة أو قل حلمه على سفح اللا شيء، يرسم \"ملاكه\"، هذا القروي البسيط المُحمّل بصفائه ونقاوته، وحين تعي الأنا شيئا من ذاتها ترتدّ إلى الواقع محمّلة بعناصر البقاء البسيطة الجميلة:

وأخطف من غابة الروح
نرجسة وهلالا
وآتي إليك بنخلي،
أسميك عيدا
وأشتق مفردة للبقاءِ

النرجسة رمز للعطور، والهلال رمز للنور، والنخل رمز للبقاء، كلها مفردات تجدّد الأمل في الذات، ولعلي لا أميل إلى أن هذا الأمل الذي تتنفسه الذات بين هذه المفردات الرامزة إلى التجدد تعني شكلا من أشكال المقاومة، أو شكلا من أشكال الإصرار على المواجهة والتشبث بجذور الأمل بقدر ما تعني ـ في طابعها الجمالي الرامز ـ شكلا من أشكال الطقس النفسي اللغوي، تستمد منه الأنا ـ بالخطف ـ صورة للبقاء ليس أكثر؛ على أن اللغة نوع من الجنون العذب، فعند الحديث بها يرقص الإنسان فوق جميع الأشياء. كما قال نيتشه . حتى وإن أبدت الأفعال (أخطف ـ آتي ـ أشتق) حركة درامية مستمرة، إلا أنها حركة دائرية مغلقة على نفسها، تكثف حالة الفقد والاستسلام، وتتجه إلى نتيجة انهزامية أكثر منها نتيجة ذا طابع ثوري أو تمردي على الواقع الأول. فالمقطع السابق الذي يزخم \"بالغابة والنرجسة والهلال والنخل\" ما هو إلا صورة للرؤية الرومانسية تلفّ الذات في واقعها المخيّم بالفضاءات الملوثة، وهي صورة انهزامية تنسحب الذات إليها من أجل البقاء. وإذا أردت أن تنظر إلى هذه الصورة فانظر بعد ذلك في هذه الاستغاثة بالتلبية:

وأجأر : لبيك .. لبيك
لو لحظة تتجلى،
ادنُ مني لعلي أراني

لعلك ناظرٌ في الفعل \"أجـأر\" وما يحمل من دلالات الاتكاء على الآخر ( معادل الذات ) والاستغاثة به، وهذا التكرار الذي تفصله نقاط الانقطاع المُغيّب كدلالة على استمرار التلبية الحاضرة الغائبة هو إمعان في الغرق الذاتي، وتأكيد على انفصال الذات عن الواقع من حولها .

إن التلبية طقس روحي لإشباع الذات بفلسفة الوجود، وخلق توازن درامي بينها وبين الآخر، وتأسيس فضاء روحي موازٍ لفضاء الواقع، تسعى به للتأسيس والبقاء ضمن فضاء أوسع وأرحب من الواقع الإنساني الملوّث، إنها تسعى إلى ملكوت الغياب حتى تصل إلى الذلّ العاطفي في المتواليات الندائية .

ودعني قبل الحديث عن المتواليات الندائية أن أحدثك عن تلك الانزياحات الدقيقة التي تؤسس الرؤية الشعرية لقضية الغياب، وهي :

...... وأغرق في لغة من حجر ...
......ثـَمَّ على السفـح إيـّـاه
يغفو الملاكُ .. ملاكك مؤتلقا كقمر
.... ادنُ مني لعلي أراني

لعل اللغة أيضا تشكل في الحياة مؤسسا دراميا رئيسيا يمنح الذات حسّ الشِّركة وطاقة التفاعل، وحين توصف اللغة بالحجر فهذا يعني نفي الدور الفاعل والجميل للغة، وهو ما يمنحها بالمقابل صفة الجمود، والغرق في الجمود صورة مكثفة للغياب، وهي صورة رمزية لغياب شبكة التعالق بين الذات والواقع، والعلاقة في الصورة الانزياحية بين اللغة والحجر هي نفسها الصورة العلائقية بين الذات والواقع، بمعنى أن الصورة الأولى معادل موضوعي للصورة الثانية.

ولعل وجود القمر في وظيفته الشعرية دائما أو قل غالبا رمزا علويا يختزل الجمال والأمل، يتجسد في هذه التجربة بشكل انزياحي يختزل حركة درامية نازلة منذ بداية الرحلة الروحية، منذ أن هاجر اليمام النافذة موغلا جهة المنحدر، لتبدأ رحلة البحث عن ماهية الذات بين الأمكنة والأزمنة. وتتجلى قمة الغياب في البحث عن الذات في الذات نفسها:
ادنُ مني لعلي أراني

لعل هذه الجملة الشعرية تختزل قضية المطروشي بكاملها، وتؤكد على الغياب التام، وتؤكد على التشتت والتمزق والانفصال بين الأنا وماهيتها في إطار الفضاء الخارجي الملوث. ومن هنا جاءت هذه النداءات المتوالية:

حشاشة نجواي
يا وابل الوجد
خاتم سري
وفاتحة الزعفران
ويا قمرا قرمزيا
يجسدني في الأغاريد

لا تأخذك هذه النداءات بدلالاتها الجميلة بالظن في أمل الاستفاقة والنهوض، فثمة صراع داخلي يمزق الأنا، سببه هذا الانفصال وعدم التوازن بين ما هو ذاتي وروحي وبين ما هو واقعي. وثمة صراع آخر بين الأنا التي تحاول التكيّف مع واقعها وبين الذات التي تصرّ على صفائها، حين يقول :

يا وابل الوجـد

ودعني أقف قليلا هنا : لعل النداء هو للملاك رمز الذات، فهو كل هذه الصفات الجميلة (حشاشة النجوى، خاتم السر، فاتحة الزعفران، قمرا قرمزيا) وهي صفات تؤسس مكانة الذات في حقيقتها عند الأنا، إلا أن هذه المكانة المؤسسة على حقيقة تلك الصفات تصبح من الألم والعذاب للأنا حين تصطدم بالفضاء الخارجي الملوّث، وهو ما نشأ عنه هذا الصراع، وبالتالي نشأ عنه ما أسميه بـ \"رحلة الانفصال\"، والانفصال هنا هو انفصال الأنا عن الذات، أي أن الأنا تحاول أن تحافظ على مكانة الذات كما هي في رحلتها مع الواقع. ومع هذا فإن الذات التي ما زالت تحاول أن تتشبث بحقيقتها، والتي منحتها الرؤية الشعرية قيمة خاصة في لونها الشعري الأسطوري تؤكد على السعي للتأسيس، لكن خاتمة السعي ترتدّ بنا إلى الخاتمة السابقة للغة \"الحجر\"، وهي هنا لغة المزامير القاحلة، أي أن الأنا لا تزال تحاول أن تبني لذاتها فضاء موازيا لفضاء الواقع خارجا على سطوته:

حتى تهيأت للريح مشتعلا فذراني
مرور الحداة
مررت على ضفة الحزن سهوا
وجدت المزامير قاحلة .. قاحلة

و\"التهيؤ \" حركة استشرافية للتأسيس، و\"المرور\" حركة مستمرة للبحث عن التأسيس، أما \"المزامير\" فهي تشكل حركة متنقلة للالتقاء بعناصر التأسيس في صورتها المجردة، كما تشكل خاتمة مأساوية في صورتها النهائية. ولعل الخاتمة في \"قحل\" المزامير يقود إلى عدم استطاعة الأنا الانفصال عن ذاتها، أو قل يقود إلى تماهي الأنا مع ذاتها بشكل يجعل من الصعوبة بمكان الانفصال لبناء فضاء مواز لفضاء الواقع الخارجي، وهو ـ في الوقت نفسه ـ أمر يصعب تحقيقه دون حركة الانفصال؛ ومن هنا جاء الغياب في \"قحل المزامير\".

وانظر في تأكيد الغياب مرة أخرى في المقطع الآتي، بين الذات المودِّعة وبين القافلة كعنصر أخير لأمل التأسيس والبقاء:

وإني لأذكـر
أنـي ودعـت يوما هنا آخـر الـقـافـلـة

لتنحرف الأنا بعد ذلك في رؤيتها إلى الفضاء الأسطوري، وانحرافها إلى هذا الفضاء هو سعي الأنا إلى إقصاء الذات عن التوغل في حقيقة الواقع من ناحية؛ حتى تكون بمنأى عن الفضاء الملوّث، ومن ناحية ثانية مواصلة الأنا نضالها في رحلة التأسيس:

هنا .. عشبة للخلود غرستك غرسا
وقلت: سأسقيك هذا السحاب
المسخّر بين السماء وروحي
أتتبعني ؟
هي معركتي الفاصلة

لا شك أن الخاتمة انحرفت بلغتها ـ وهو انحراف أضعف بنية النص الشعري ـ من واقع الجمود والانهزامية إلى واقع المواجهة والإصرار على استمرارية الرحلة المؤسسة، ليس بالانفصال وإنما بالالتحام بين الأنا والذات في نهاية مفتوحة على الرؤى الاستشرافية. إلا أن هذه الخاتمة في النص الشعري ـ في الحقيقة ـ لم تكن لتخدم درامية النص وتكثف من حركتها بقدر ما أودت بها. وانظر في مقطع \" القافلة \" ستشعر أن حركة النص توقفت عند \"وداع القافلة\" لأن رحلة البحث والصراع والانفصال في درامية النص هي رحلة انهزامية أكثر من كونها رحلة نضالية؛ وهذا الخط الدرامي جعل من الخاتمة خاتمة استسلامية، وبالتالي فإن تصاعد حركة النص الدرامية حتى نهايتها في \"وداع القافلة\" هو التصاعد الدرامي السيكولوجي نفسه الذي نشأ عند المتلقي حتى بلغ نهايته في \"الوداع\". أما وأن ينحرف النص بعد ذلك إلى حركة أخرى تكاد تكون خارج الإطار الدرامي السابق لتشكّل حركة درامية نضالية في مقطع واحد وأخير فلعله يفكك بنية النص، ويضع المتلقي في حركة مفاجئة ضعيفة من شأنها أن تشكّل عبئا على النص وفائضا لا مبرر له من الناحية الشعرية والفنية.