قراءة أسلوبية لقصيدة ( هاكِ اعتذاري ) للشاعر علي المعشني
12-28-2009 05:11 مساءً
1
0
3077
قراءة أسلوبية لقصيدة ( هاكِ اعتذاري ) للشاعر علي المعشني
قراءة : د . سعيدة بنت خاطر الفارسي
( هاكِ اعتذاري )
أساقيةَ الهوى هاكِ اعتذاري
وَبَعْضَا من تَفاصيلِ اخْتِصَاري
حَبستُ مواجعي وقَديمَ حُمْقي
وطارِقَةَ النوى وحَنينَ غاري
وجِئْتُ بِلَهْفَةٍ حَرى وقَلْبٍ
وبوحٍ مُسْتَغيثٍ، باصْطباري
ألوذُ عن الهمومِ وبَعْضُ جُرحي
يَئِنُ من الجدار ِإلى الجدارِ
وأشْرِعَتي التي خَارتْ وحُلْمٍ
تَوارى خَلْفَ نَزْفي وانكساري
كأن مدائني وَضَجيجَ حرفي
رواحِلُ والرياحُ لها مَذاري
تُسَابِقُ رِحْلَةَ العُمْرِ إليكِ
لتدنو بَعْدَ وجْدٍ وانتظارِ
فكوني لي سَماءً والتقيني
على قَدْرِ امتداداتِ البِحَارِ
ومُري بَين َأهْدابي بِرِفْقٍ
وذوبي فُوقَ صَدْر ِالانتصارِ
وبوحي يا سراجَ القَلْبِ حتى
تَموجَ مشاعري ولَهيبُ ناري
ومن كَفِّ الندى مُدي سَخاءً
وفُضْي رَسَْفَ أزْرارِ الحِصَارِ
لِتُدْمي كُلَّ أَوردةِ المرايا
تَرانيمُ التَجلي بانْصِهَاري
فَمَالي مِنْ كؤوسِ الحُبِّ إلا
هُياماً مُسْتَجيراً لاحْتِضَاري
جنوناً أقْتَفيكِ وحَالُ صَمْتي
سَيُنْبئُ عن تَراتيل اعْتِذَاري
رِضاءً ألتْقيكِ وَنزْفُ قَلْبي
وَحتفي بين حُضْنكِ باختياري
يقودنا العنوان إلى فضاء سردي مرتديا رداء حكاية لحدث حواري يدور بين شخصين، يرتكز على ما يموج في العمق الإنساني من خصومة وعتاب، يقابله فعل ظاهري في الخارج يتمثل في تقديم الاعتذار من مشاعر محبة متأججة، كما تقودنا الجملة الفعلية (هاكِ) إلى دلالات المنح بالرضا من قبل أحد طرفي الحكاية، كما يجسد طرفا أنثويا، يشكله ضمير المخاطب المتصل/الكاف المكسورة، وتدعم جملة (اعتذاري) جو التلطف والتودد والاعتذار، وما نكاد نستسلم للذة السرد الحكائي، الذي يؤسسه عنوان النص حتى تأخذنا القصيدة إلى فضاءات مختلفة عما وصلنا من إيحاءات العنوان، فالعنوان يجسد حبيبة غاضبة من الحبيب ، والحبيب يقدم اعتذاره لها، لكن متن النص يأتينا بمعادلة أخرى، ونجده ينتهي ولا أثر فاعل للطرف الآخر/المحبوبة، فالحبيب يقوم بكل الأدوار، يتغزل ويقدم الاعتذار ويتلطف ويطلب الغفران، وهو لم يفعل ما يستحق الاعتذار منه، فهو بالأصل خاضع يريد من الحبيبة أن تحتويه وتلملم مشاعره ويجسد ذلك الطلب طوال القصيدة من أول بيت إلى نهايتها :
وجِئْتُ بِلَهْفَةٍ حَرى وقَلْبٍ
وبوحٍ مُسْتَغيثٍ، باصْطباري
ألوذُ عن الهمومِ وبَعْضُ جُرحي
يَئِنُ من الجدار ِإلى الجدارِ
وقد جسَّد الشاعر معاناته في صُور متحركة حية مستخدما الصور البيانية من تشبيه واستعارات ومجاز معتمدا على صور مجزئة أحيانا وممتدة أحيانا أخرى لكنه كثيرا ما يتخلص من العلائق المقولبة للبلاغة العربية القديمة، فالعلائق بين أطراف الصورة والإسناد لدى المعشني كثيرا ما تكون علاقة غير مترابطة غير متجانسة التكوين ووجه الشبه بعيد لا يتأتى إلا بتأويل، كقوله
كأن مدائني وَضَجيجَ حرفي
رواحِلُ والرياحُ لها مَذاري
تُسَابِقُ رِحْلَةَ العُمْرِ إليكِ
لتدنو بَعْدَ وجْدٍ وانتظارِ
فالعلاقة بين المدائن وضجيج الحروف/ شعر الشاعر علاقات ليست مترابطة وتشبيههما بالرواحل المسافرة في جو مغبر تذروها فيه الرياح ، لا يتضح منها العلاقة التشبيهية الواضحة بين الأطراف في البلاغة العربية، إلا إذا أولنا وجه الشبه هنا تأويلا بعيدا وهو أن مدائن الشاعر وشعره في حالة تشرد دائم وبالتالي فهو متشرد من خلالهما ، وهو تشرد ليس سهلا ميسرا أو برغبة الشاعر بل هو تشرد الوعي والمعاناة التي يغلفها متاعب الحياة وغبارها الوجودي (الرياح لها مذاري) إلى أن وجد هذه الحبيبة المنادمة التي يتناسب تكوينها مع تكوينه الوجداني الروحي والفكري ، والتي يتمنى أن يلقي برحلة عمره الممتدة بالعناء في أحضان حنانها( لتدنو بعد وجد وانتظار) وينتقل الشاعر من تلك الجملة الإنشائية الطلبية التي افتتح بها حكاية الخبر ليقدم به مشهده الحكائي ويخبرنا عن ماهية هذه الحكاية في قالب سردي كقوله :
أساقيةَ الهوى هاكِ اعتذاري
وَبَعْضَا من تَفاصيلِ اخْتِصَاري
حَبستُ مواجعي وقَديمَ حُمْقي
وطارِقَةَ النوى وحَنينَ غاري
وجِئْتُ بِلَهْفَةٍ حَرى وقَلْبٍ
وبوحٍ مُسْتَغيثٍ، باصْطباري
وقد أفتتح الحدث بجملة النداء ( أساقية الهوى ) والهمزة من أدوات النداء للقريب مما ينم عن قرب المحبوبة المعنوي إلى دواخل الشاعر وهنا لا يشترط القرب المكاني/ المسافة، فالقرب هنا قرب شعوري، وحتى عندما بدأ البيت الشعري الثاني والثالث بجمل فعلية ( حبستُ مواجعي / وجئتُ بلهفة ) إلا أنني اعتبر الجمل إخبارية في بعدها الإيحائي، ( فعلية ) في تركيبها النحوي ، وذلك لأن الشاعر مازال يخبرنا عن حكايته ببعض التفاصيل المختصرة ( وبعضا من تفاصيل اختصاري) وقد يدعم هذا أن الجمل التي اختـارها الشاعر هي جمل فعلية لحدث تم وانتهـي/الفعـل الماضي ( حبستُ / وجئتُ ) وهذا يدل على سكون الحركة وخمودها على نقيض الفعل المضارع ذو الحركة المستمرة والحدث الدائر المتواصل، ومن ثم من السهل علينا أن نحيل هذه الجمل لتصب في خانة الجملة الاسمية الخبرية الخالية أصلا من الحركة، وذلك بتقدير ضمير متكلم محذوف تقديره أنا، يأتي قبل الفعل بمعني ( أنا حبستُ / أنا جئتُ ) وذلك ما أراده الشاعر المتدفق في أخبارنا عن تلك التي تساقيه الهوى ورحلته العمرية التي أوصلته بعد عناء على رواحل متعبة منهكة مغبرة بمذاري الرياح ( رمز التعب والمعاناة ) وتقوم واو العطف المتكررة بكثرة بعد الأفعال، والمفردات بالربط بين الدلالات مكرسا التوالي السريع للخبر والحكاية، ونتيجة لهذه المعاناة ورغبة الشاعر في التخلص من رحلة العمر المنكسرة، بحث عن حدث يتمثل فيه الخلاص، فتحول إلى الجمل الفعلية مرة أخرى ولكن هذه المرة إلى نوع آخر من الأفعال حيث تكاثرت جمل الأمر التي لا تنم عن أمر حقيقي من حيث الدلالة والإيحاء، ومن ثم لم يتسارع الحدث لأن الفعل جاء أيضا في صورة إنشائية المقصود منه الطلب والترجي، يقول علي المعشني :
فكوني لي سَماءً والتقيني
على قَدْرِ امتداداتِ البِحَارِ
ومُري بَين َأهْدابي بِرِفْقٍ
وذوبي فُوقَ صَدْر ِالانتصارِ
وبوحي يا سراجَ القَلْبِ حتى
تَموجَ مشاعري ولَهيبُ ناري
ومن كَفِّ الندى مُدي سَخاءً
وفُضْي رَسَْفَ أزْرارِ الحِصَارِ
(فكوني لي سماء ، والتقيني ، ومري بين أهدابي ، وذوبي ، وبوحي ، ومدي ، وفضي ...) إن تدفق أفعال الأمر هذه ذات الصيغة الرجائية/ الطلبية ينبغي أن يخرج لنا أصواتا ذات ديالوج خارجي بين شخوص أو اثنين على الأقل لكننا لا نسمع إلا صوت الشاعر، مما يبرهن أنها قصيدة داخلية تدور في نفس الشاعر، وأن الحوار أحادي الصوت/ مونولوج يرتد صداه وفق معاناة الشاعر من ( الجدار إلى الجدار) وساقية الهوى / الحبيبة أقرب للنديم المنادم فالساقي في التراث العربي هو من يدير خمرة الساهرين والنديم الذي ينادمهم، لكن الشاعر يجسد الساقية هنا بساقية الهوى أي المنادمة التي تربطها علائق الحب المتجرد من الحس والتي تساقي الشاعر خمرة المنادمة، ولهذا يطلب منها أن تفك قيوده التي يرسف تحتها وتسبب له الحصار والمعاناة ، وتخلصه من هموم ترتد من الجدار إلى الجدار، وأرى أن هذه الجدران التي تحيط بالشاعر، والحصار الذي يريد أن يفك أزرته هو معاناة الإنسان وحصاره في سجنه الوجودي الأبدي، وهو يجد في الحبيبة المخلص ليقهر لديها اغترابه وهمومه ، ومن ثم كانت ساقية الهوى هي المنادمة المقربة والحبيبة المشتهاة التي تساقيه حبها العذري والراحة ، ولهذا جاء ختام القصيدة يتجاوب مع بدايتها :
فَمَالي مِنْ كؤوسِ الحُبِّ إلا
هُياماً مُسْتَجيراً لاحْتِضَاري
جنوناً أقْتَفيكِ وحَالُ صَمْتي
سَيُنْبئُ عن تَراتيل اعْتِذَاري
رِضاءً ألتْقيكِ وَنزْفُ قَلْبي
وَحتفي بين حُضْنكِ باختياري
نعم لن يجد الشاعر من كؤوس هذا الحب إلا هياما يستجير من الرمضاء بالنار ، وجنونا يقتفي أثر هذا الغرام ولا يصل إلى ارتواء ، ويظل الحال صامتا( حال صمتي سينبئ عن تراتيل اعتذاري ) وحال الصمت هو ما يعني بان النص جواني/ داخلي التشكل ، يبث به الشاعر حواره مع نفسه فيعتذر للحبيبة ولكن عن ماذا يعتذر الشاعر ، وهو لم يخطئ أصلا؟ ربما يعتذر للحبيبة التي قد تكون جاءت في التوقيت/ الزمان الخطأ والمكان غير المناسب، والتي لا يستطيع أن يكمل معها تجربة الحب الإنساني لترتوي وتروي، ومن الواضح أن هناك فوارق بين الحبيبين لعلها فارق زمني في العمر ، أو فارق مكاني في البيئة، أو فارق من أي نوع المهم أن هناك حاجزا يحيل بينهما ، وهو الأمر الذي جعل الشاعر يعتذر للحبيبة التي تحددت مهمتها في تساقي الهوى والمنادمة، واحتضان الشاعر لتخليصه من الهموم، وربما هو يعتذر من نفسه التي يعلم أنه يوردها بهذا الحبِّ موارد الهلاك، وهو يعرف أن هذا الحب هو نزف قلبه و حتفه وانه لا يستطيع الارتواء منه والوصول إلى قرار فيه ، لكنه يختار هذا النزف والحتف باختياره ورضاه
رِضاءً ألتْقيكِ وَنزْفُ قَلْبي
وَحتفي بين حُضْنكِ باختياري
الخلاصة :
أن الشاعر يمرّ بحالة من المعاناة الإنسانية المتمثلة في حبٍّ مادي جنسي الملامح ظاهريا، عذري المنحى حقيقة ، ويحمِّل هذه التجربة مضامينه الفلسفية/ الفكرية التي جاءت على شكل اعتذار للحبيبة من معاناة الإنسان الوجودية القدرية التي تحيل بينه وبين ما يريد، وقد يرتأي البعض أن النص أسهل مما ذهب إليه مجهر النقد، إلا أننا ننسى أن حالة تخليق بعض النصوص هي حالة أقرب إلى اللاوعي، الأمر الذي يجعله يومض بإشارات بعيدة قد لا يلتفت إليها كاتب النص ومبدعه في حدِّ ذاته ، وقد أوحتْ اللغة في إشعاعاتها البعيدة وأساليبها الواضحة، ما يعتمل في دواخل الشاعر فالنص داخلي التدفق والمدار، نفسي الحياكة ومن ثم فاللاوعي ينشط في مثل هذه النصوص ويحيك لنا حياكة قد تكون مختلفة عما تظهره لنا الألفاظ على مستوى الخارج .
قراءة : د . سعيدة بنت خاطر الفارسي
( هاكِ اعتذاري )
أساقيةَ الهوى هاكِ اعتذاري
وَبَعْضَا من تَفاصيلِ اخْتِصَاري
حَبستُ مواجعي وقَديمَ حُمْقي
وطارِقَةَ النوى وحَنينَ غاري
وجِئْتُ بِلَهْفَةٍ حَرى وقَلْبٍ
وبوحٍ مُسْتَغيثٍ، باصْطباري
ألوذُ عن الهمومِ وبَعْضُ جُرحي
يَئِنُ من الجدار ِإلى الجدارِ
وأشْرِعَتي التي خَارتْ وحُلْمٍ
تَوارى خَلْفَ نَزْفي وانكساري
كأن مدائني وَضَجيجَ حرفي
رواحِلُ والرياحُ لها مَذاري
تُسَابِقُ رِحْلَةَ العُمْرِ إليكِ
لتدنو بَعْدَ وجْدٍ وانتظارِ
فكوني لي سَماءً والتقيني
على قَدْرِ امتداداتِ البِحَارِ
ومُري بَين َأهْدابي بِرِفْقٍ
وذوبي فُوقَ صَدْر ِالانتصارِ
وبوحي يا سراجَ القَلْبِ حتى
تَموجَ مشاعري ولَهيبُ ناري
ومن كَفِّ الندى مُدي سَخاءً
وفُضْي رَسَْفَ أزْرارِ الحِصَارِ
لِتُدْمي كُلَّ أَوردةِ المرايا
تَرانيمُ التَجلي بانْصِهَاري
فَمَالي مِنْ كؤوسِ الحُبِّ إلا
هُياماً مُسْتَجيراً لاحْتِضَاري
جنوناً أقْتَفيكِ وحَالُ صَمْتي
سَيُنْبئُ عن تَراتيل اعْتِذَاري
رِضاءً ألتْقيكِ وَنزْفُ قَلْبي
وَحتفي بين حُضْنكِ باختياري
يقودنا العنوان إلى فضاء سردي مرتديا رداء حكاية لحدث حواري يدور بين شخصين، يرتكز على ما يموج في العمق الإنساني من خصومة وعتاب، يقابله فعل ظاهري في الخارج يتمثل في تقديم الاعتذار من مشاعر محبة متأججة، كما تقودنا الجملة الفعلية (هاكِ) إلى دلالات المنح بالرضا من قبل أحد طرفي الحكاية، كما يجسد طرفا أنثويا، يشكله ضمير المخاطب المتصل/الكاف المكسورة، وتدعم جملة (اعتذاري) جو التلطف والتودد والاعتذار، وما نكاد نستسلم للذة السرد الحكائي، الذي يؤسسه عنوان النص حتى تأخذنا القصيدة إلى فضاءات مختلفة عما وصلنا من إيحاءات العنوان، فالعنوان يجسد حبيبة غاضبة من الحبيب ، والحبيب يقدم اعتذاره لها، لكن متن النص يأتينا بمعادلة أخرى، ونجده ينتهي ولا أثر فاعل للطرف الآخر/المحبوبة، فالحبيب يقوم بكل الأدوار، يتغزل ويقدم الاعتذار ويتلطف ويطلب الغفران، وهو لم يفعل ما يستحق الاعتذار منه، فهو بالأصل خاضع يريد من الحبيبة أن تحتويه وتلملم مشاعره ويجسد ذلك الطلب طوال القصيدة من أول بيت إلى نهايتها :
وجِئْتُ بِلَهْفَةٍ حَرى وقَلْبٍ
وبوحٍ مُسْتَغيثٍ، باصْطباري
ألوذُ عن الهمومِ وبَعْضُ جُرحي
يَئِنُ من الجدار ِإلى الجدارِ
وقد جسَّد الشاعر معاناته في صُور متحركة حية مستخدما الصور البيانية من تشبيه واستعارات ومجاز معتمدا على صور مجزئة أحيانا وممتدة أحيانا أخرى لكنه كثيرا ما يتخلص من العلائق المقولبة للبلاغة العربية القديمة، فالعلائق بين أطراف الصورة والإسناد لدى المعشني كثيرا ما تكون علاقة غير مترابطة غير متجانسة التكوين ووجه الشبه بعيد لا يتأتى إلا بتأويل، كقوله
كأن مدائني وَضَجيجَ حرفي
رواحِلُ والرياحُ لها مَذاري
تُسَابِقُ رِحْلَةَ العُمْرِ إليكِ
لتدنو بَعْدَ وجْدٍ وانتظارِ
فالعلاقة بين المدائن وضجيج الحروف/ شعر الشاعر علاقات ليست مترابطة وتشبيههما بالرواحل المسافرة في جو مغبر تذروها فيه الرياح ، لا يتضح منها العلاقة التشبيهية الواضحة بين الأطراف في البلاغة العربية، إلا إذا أولنا وجه الشبه هنا تأويلا بعيدا وهو أن مدائن الشاعر وشعره في حالة تشرد دائم وبالتالي فهو متشرد من خلالهما ، وهو تشرد ليس سهلا ميسرا أو برغبة الشاعر بل هو تشرد الوعي والمعاناة التي يغلفها متاعب الحياة وغبارها الوجودي (الرياح لها مذاري) إلى أن وجد هذه الحبيبة المنادمة التي يتناسب تكوينها مع تكوينه الوجداني الروحي والفكري ، والتي يتمنى أن يلقي برحلة عمره الممتدة بالعناء في أحضان حنانها( لتدنو بعد وجد وانتظار) وينتقل الشاعر من تلك الجملة الإنشائية الطلبية التي افتتح بها حكاية الخبر ليقدم به مشهده الحكائي ويخبرنا عن ماهية هذه الحكاية في قالب سردي كقوله :
أساقيةَ الهوى هاكِ اعتذاري
وَبَعْضَا من تَفاصيلِ اخْتِصَاري
حَبستُ مواجعي وقَديمَ حُمْقي
وطارِقَةَ النوى وحَنينَ غاري
وجِئْتُ بِلَهْفَةٍ حَرى وقَلْبٍ
وبوحٍ مُسْتَغيثٍ، باصْطباري
وقد أفتتح الحدث بجملة النداء ( أساقية الهوى ) والهمزة من أدوات النداء للقريب مما ينم عن قرب المحبوبة المعنوي إلى دواخل الشاعر وهنا لا يشترط القرب المكاني/ المسافة، فالقرب هنا قرب شعوري، وحتى عندما بدأ البيت الشعري الثاني والثالث بجمل فعلية ( حبستُ مواجعي / وجئتُ بلهفة ) إلا أنني اعتبر الجمل إخبارية في بعدها الإيحائي، ( فعلية ) في تركيبها النحوي ، وذلك لأن الشاعر مازال يخبرنا عن حكايته ببعض التفاصيل المختصرة ( وبعضا من تفاصيل اختصاري) وقد يدعم هذا أن الجمل التي اختـارها الشاعر هي جمل فعلية لحدث تم وانتهـي/الفعـل الماضي ( حبستُ / وجئتُ ) وهذا يدل على سكون الحركة وخمودها على نقيض الفعل المضارع ذو الحركة المستمرة والحدث الدائر المتواصل، ومن ثم من السهل علينا أن نحيل هذه الجمل لتصب في خانة الجملة الاسمية الخبرية الخالية أصلا من الحركة، وذلك بتقدير ضمير متكلم محذوف تقديره أنا، يأتي قبل الفعل بمعني ( أنا حبستُ / أنا جئتُ ) وذلك ما أراده الشاعر المتدفق في أخبارنا عن تلك التي تساقيه الهوى ورحلته العمرية التي أوصلته بعد عناء على رواحل متعبة منهكة مغبرة بمذاري الرياح ( رمز التعب والمعاناة ) وتقوم واو العطف المتكررة بكثرة بعد الأفعال، والمفردات بالربط بين الدلالات مكرسا التوالي السريع للخبر والحكاية، ونتيجة لهذه المعاناة ورغبة الشاعر في التخلص من رحلة العمر المنكسرة، بحث عن حدث يتمثل فيه الخلاص، فتحول إلى الجمل الفعلية مرة أخرى ولكن هذه المرة إلى نوع آخر من الأفعال حيث تكاثرت جمل الأمر التي لا تنم عن أمر حقيقي من حيث الدلالة والإيحاء، ومن ثم لم يتسارع الحدث لأن الفعل جاء أيضا في صورة إنشائية المقصود منه الطلب والترجي، يقول علي المعشني :
فكوني لي سَماءً والتقيني
على قَدْرِ امتداداتِ البِحَارِ
ومُري بَين َأهْدابي بِرِفْقٍ
وذوبي فُوقَ صَدْر ِالانتصارِ
وبوحي يا سراجَ القَلْبِ حتى
تَموجَ مشاعري ولَهيبُ ناري
ومن كَفِّ الندى مُدي سَخاءً
وفُضْي رَسَْفَ أزْرارِ الحِصَارِ
(فكوني لي سماء ، والتقيني ، ومري بين أهدابي ، وذوبي ، وبوحي ، ومدي ، وفضي ...) إن تدفق أفعال الأمر هذه ذات الصيغة الرجائية/ الطلبية ينبغي أن يخرج لنا أصواتا ذات ديالوج خارجي بين شخوص أو اثنين على الأقل لكننا لا نسمع إلا صوت الشاعر، مما يبرهن أنها قصيدة داخلية تدور في نفس الشاعر، وأن الحوار أحادي الصوت/ مونولوج يرتد صداه وفق معاناة الشاعر من ( الجدار إلى الجدار) وساقية الهوى / الحبيبة أقرب للنديم المنادم فالساقي في التراث العربي هو من يدير خمرة الساهرين والنديم الذي ينادمهم، لكن الشاعر يجسد الساقية هنا بساقية الهوى أي المنادمة التي تربطها علائق الحب المتجرد من الحس والتي تساقي الشاعر خمرة المنادمة، ولهذا يطلب منها أن تفك قيوده التي يرسف تحتها وتسبب له الحصار والمعاناة ، وتخلصه من هموم ترتد من الجدار إلى الجدار، وأرى أن هذه الجدران التي تحيط بالشاعر، والحصار الذي يريد أن يفك أزرته هو معاناة الإنسان وحصاره في سجنه الوجودي الأبدي، وهو يجد في الحبيبة المخلص ليقهر لديها اغترابه وهمومه ، ومن ثم كانت ساقية الهوى هي المنادمة المقربة والحبيبة المشتهاة التي تساقيه حبها العذري والراحة ، ولهذا جاء ختام القصيدة يتجاوب مع بدايتها :
فَمَالي مِنْ كؤوسِ الحُبِّ إلا
هُياماً مُسْتَجيراً لاحْتِضَاري
جنوناً أقْتَفيكِ وحَالُ صَمْتي
سَيُنْبئُ عن تَراتيل اعْتِذَاري
رِضاءً ألتْقيكِ وَنزْفُ قَلْبي
وَحتفي بين حُضْنكِ باختياري
نعم لن يجد الشاعر من كؤوس هذا الحب إلا هياما يستجير من الرمضاء بالنار ، وجنونا يقتفي أثر هذا الغرام ولا يصل إلى ارتواء ، ويظل الحال صامتا( حال صمتي سينبئ عن تراتيل اعتذاري ) وحال الصمت هو ما يعني بان النص جواني/ داخلي التشكل ، يبث به الشاعر حواره مع نفسه فيعتذر للحبيبة ولكن عن ماذا يعتذر الشاعر ، وهو لم يخطئ أصلا؟ ربما يعتذر للحبيبة التي قد تكون جاءت في التوقيت/ الزمان الخطأ والمكان غير المناسب، والتي لا يستطيع أن يكمل معها تجربة الحب الإنساني لترتوي وتروي، ومن الواضح أن هناك فوارق بين الحبيبين لعلها فارق زمني في العمر ، أو فارق مكاني في البيئة، أو فارق من أي نوع المهم أن هناك حاجزا يحيل بينهما ، وهو الأمر الذي جعل الشاعر يعتذر للحبيبة التي تحددت مهمتها في تساقي الهوى والمنادمة، واحتضان الشاعر لتخليصه من الهموم، وربما هو يعتذر من نفسه التي يعلم أنه يوردها بهذا الحبِّ موارد الهلاك، وهو يعرف أن هذا الحب هو نزف قلبه و حتفه وانه لا يستطيع الارتواء منه والوصول إلى قرار فيه ، لكنه يختار هذا النزف والحتف باختياره ورضاه
رِضاءً ألتْقيكِ وَنزْفُ قَلْبي
وَحتفي بين حُضْنكِ باختياري
الخلاصة :
أن الشاعر يمرّ بحالة من المعاناة الإنسانية المتمثلة في حبٍّ مادي جنسي الملامح ظاهريا، عذري المنحى حقيقة ، ويحمِّل هذه التجربة مضامينه الفلسفية/ الفكرية التي جاءت على شكل اعتذار للحبيبة من معاناة الإنسان الوجودية القدرية التي تحيل بينه وبين ما يريد، وقد يرتأي البعض أن النص أسهل مما ذهب إليه مجهر النقد، إلا أننا ننسى أن حالة تخليق بعض النصوص هي حالة أقرب إلى اللاوعي، الأمر الذي يجعله يومض بإشارات بعيدة قد لا يلتفت إليها كاتب النص ومبدعه في حدِّ ذاته ، وقد أوحتْ اللغة في إشعاعاتها البعيدة وأساليبها الواضحة، ما يعتمل في دواخل الشاعر فالنص داخلي التدفق والمدار، نفسي الحياكة ومن ثم فاللاوعي ينشط في مثل هذه النصوص ويحيك لنا حياكة قد تكون مختلفة عما تظهره لنا الألفاظ على مستوى الخارج .