قراءة في قصيدة (وجه الصباح) للشاعر محمد الصالحي
10-22-2009 02:07 صباحاً
0
0
2683
قراءة في قصيدة (وجه الصباح) للشاعر محمد الصالحي
قراءة: حمد الخروصي ..
القصيدة:
الوطن يا صاحبي في دفتري
شمعة الليلة ويطفيها الصباح
منسكب هالحزن كسّر لي ظـْـهري
تورق ظلاله وفي صدري البراح
ضاق هذا الحال يا روحي اصبري
كل عمري راح مني راح . . راح
الوطن مطعون في ضيق بْصري
من لي ( بصالح ) لأشواقي جناح
انت أول عرق في صدري طري
وانت هذا القلب أغصان ورماح
شوفه اللي اشتقت له في خاطري
أشعله ضحكه وتاخذها الرياح
لو حنيني خلا اشجاري عري
ما تنفس ركن الا البيت ناح
شوفي الأحلام وانتي تزهري
عاشق ٍ لك دم قلبه مستباح
كنتي بداخل عيوني وتكبري
كل ورد بداخلي لك شوق فاح
وانت أحزانك تبيع وتشتري
شوف ( اَيه ) ما كفاها هالجراح
ليت لي ثوبك أطوف واحتري
من رضى الرحمن لأيامي سماح
طاح ذنبي يا حبيبي ودفتري
ابيض ٍ مثلك مثل وجه الصباح
محاولة نزع قناع (وجه الصباح)
لا أحد يستطيع إغتيال الشعر ، والقصيدة هي روح ، روحٌ لا تبحث عن جسد تختبي فيه عن الموت ، لأنها تعدّت هذه المرحلة وأصبحت كالطائر الفينيقي المخيف الذي يخرج من رحم الأسطورة متحديا موت الذاكرة وذاكرة الموت .
في سماء الوطن يطلق محمد الصالحي طائره الأسطوري ، محلقـًا فوق الرؤوس ، لا يرآه سوى الحالمين والغرباء ومن فقد حبيبـًا أو ينتظر غائبـًا، قصيدة تأخذ الوطن كمفهوم ٍ هلامي يتغيّر مع إقتراب الأشخاص من حدقة الشاعر الجاحظة . ووطن الصالحي يتشكل من الوجوه والأماكن . أحيانـًا هو بلدة صغيرة تطل على خليج عُمان حاملة على رأسها أسطولا من السفن الخشبية ، وأحيانا أخرى يتجمع وطنه في وجه أطفاله\" صالح وآيه\" ، وأحيانا يكون الوطن أكبر من المفهوم الهلامي المتغيّر ، فيصبح هو القصيدة نفسها . هذه هي فلسفة الشعراء المتعبين من السفر والغربة ، والذين تشبعوا بالحنين إلى جذورهم الموغلة في أعماق المقابر والمدن ..
وجه الصباح ، هذا الوجه الممتليء بضوضاء الحياة والصخب ، وبفوضى مكياج الإستعداد لمنافسة العصافير في البحث عن حبة قمح ٍ ساقطة أو قشة ٍ تنفع لعش ٍ تتكيء عليه الذاكرة .. من العنوان والشاعر يسرقنا من حركتنا الإعتيادية ويَدعَك أعيننا بحذرٍ، ويوجهنا نحو النور؛ نحو البيت الأول يأخذنا مخدّرين معه بالوطن :
الوطن يا صاحبي في دفتري
شمعة الليلة ويطفيها الصباح
أودُّ أولا أن أعرِّف الشخوص الذين تضمنتهم القصيدة ، وأولهم الصاحب الذي يخاطبه الشاعر في بداية قصيدته ،علما أن هذا الصاحب سوف يطل علينا مرةً أخرى لاحقـَا بإسمه الحقيقي وسنتعرَّف عليه أكثر . السؤال الشعري البسيط : كيف يكون الوطن في دفتر ؟ ولو عدنا للمقدمة البسيطة سنستنتج أن وطن الشاعر متغيِّر وهلامي ونستطيع أن نرمز له بالقصيدة نفسها، وكأن الشاعر يقول لصاحبه أن وطنه الحقيقي موجود في كتاباته .. وفي العجز يرمز لهذا الوطن برمز آخر وهو الشمعه ، والشمعه هي الأمل الذي يضيء طريق شاعرنا في العُتمة وفي الظروف الحالكه، هي ملجأ وملاذ شاعرنا، وفي الصباح لا حاجة للشمعة ولكن السؤال : متى يأتي هذا الصباح، متى ينتهي الليل؟ متى تتوقف الكتابة؟ لا أعتقد أن ليل الشعراء ينتهي أبدا!!
منسكب هالحزن كسّر لي ظـْـهري
تورق ظلاله وفي صدري البراح
ضاق هذا الحال يا روحي اصبري
كل عمري راح مني راح . . راح
الوطن مطعون في ضيق بصري
من لي ( بصالح ) لأشواقي جناح
في الأبيات الماضية نلاحظ أن الشاعر إنتقل من مخاطبة صاحبه إلى مخاطبة نفسه في حوار داخلي ، وكأنه يهذي بينه وبين ذاته في حالة لا واعية ، ونلاحظ أن هذا التداعي النفسي ولـّد الكثير من الصور الشعرية المترابطة والتي خدمت إتساق القصيدة وتصاعدها الفني، ولو ركزنا قليلا في البيت الثاني نلمس الترابط القوي في الصورة التي إحتواها هذا البيت : العلاقة ما بين الظهر والصدر وما بين الظلال والبراح ، فالبراح هي المساحة الكبيرة والتي يغطي بعضها أو أغلبها الظل ..وهذا الظل هو من أثر إنسكاب الحزن، كما أن الشاعر إستخدم فعل الكسر للظهر دليلاً على القوة والخشونة، وفي المقابل إستخدم فعل تورق للظل والبراح اللذين يورقان في الصدر .. لاريب أن الشاعر محمد الصالحي يستخدم صورًا ذهنية وحسية مركبة ومعقدة وتحتاج للكثير من التركيز، فلابد من فكها وإعادة تركيبها من جديد في ذهن المتلقي، لذلك فإن قصائد شاعرنا لا تجد القبول عند القراء السطحيين الذين يحبون الصور التقليدية الواضحة والسهلة ويبحثون عن الألفاظ البرّاقة. ورغم تعقيد الصور إلا أن الترابط ما بينها نجده واضحـًا في معظم الأبيات .. ومن وجهة نظري البسيطة أعتقد أن ما يعيب الشاعر أن بعض أفكار أشطر الصدرتكون أحيانا منفصلة عن أفكار أشطر العجز .. مثل البيت الرابع :
الوطن مطعون في ضيق بصري
من لي ( بصالح ) لأشواقي جناح
أعتقد أن ذهن الشاعر يمتلك الرابط ما بين الصدر والعجز في البيت السابق ولكن هذا الرابط لا يتضح للقارىء، نشعر بقفزة ما بينهما وكأن هناك فكرة ناقصة، ربما هي ناقصة في أذهاننا ومكتملة في ذهن الشاعر، ونستطيع عبر هذه النظرية أن نقنع أنفسنا بأن الوطن أخذ في هذا البيت وجهه المعروف عند الجميع، وخرج من دفتر الشاعر إلى بصره، فأصبح هو المكان المشاهد وهو الوجوه الغائبة تحديدا وأهمها (صالح) ، وعودة للبيت الأول والشخصية الاولى في القصيدة والتي عَرفناها بالصاحب، فالصاحب يتحدد في هذا البيت بإنه \"صالح\" ، فمن هو صالح الذي أصبح في لحظة ٍ وطن الشاعر ومستفزِّه الأوّل لكتابة القصيدة بل أصبح المحرك الأساسي للقصيدة ، إنه يجري في كل عروق النص وهذا ما تأكده الأبيات القادمة :
انت أول عرق في صدري طري
وانت هذا القلب أغصان ورماح
شوفه اللي اشتقت له في خاطري
أشعله ضحكة وتاخذها الرياح
لو حنيني خلا اشجاري عري
ما تنفس ركن الا البيت ناح
في الأبيات الثلاثة الماضية ، يخاطب الشاعر بوجع ٍوشوق ٍ جارف الغائب عن المشاهدة البصرية \"صالح\" ، بل ويصوّر الحب الكبير الذي يكنـّه له ، والأبيات لا تخلو من الصوّر الشعرية المبتكرة والرائعة ، مثل :\" أشعله ضحكه وتاخذها الرياح\" ، والبيت الأخير جاء ثملا بالحنين الذي بث الحياة في الجماد وهذا هو الشعر الحقيقي الذي يعمّر طويلا في ذاكرة الناس الشعرية ، فحينما نفقد الأعزاء نشعر بإن كل ما يربطنا بهم يسأل عنهم ويحن إليهم ، أو \"ما تنفس ركن الا البيت ناح \" فالشاعر يضيف على البيت الجماد صفة النطق والنواح على الغائب ، فالبيت يشارك شاعرنا هذا الفقد المتعب ، وأعتقد أن الصدر منفصلا والعجز منفصلا أكثر جمالا من جمعهما معا ، فبرغم وجود (لو) الشرطية في بداية البيت \"لو حنيني\" غير أنه: لا توجد علاقة واضحة ما بين تعرّي الأشجار من الحنين ، \"وما تنفس ركن الا البيت ناح\" ، وتبقى هي وجهة نظر شخصية قابلة جدا للخطأ .. ويستمر بعد ذلك الشاعر في مخاطبة أوطانه المتجمعة في وطن القصيدة الأم :
شوفي الاحلام وانتي تزهري
عاشقٍ لك دم قلبه مستباح
كنتي بداخل عيوني وتكبري
كل ورد بداخلي لك شوق فاح
إنتقل الشاعر من مخاطبته للمذكر وهو \"صالح\" إلى مخاطبة شخصية جديدة في القصيدة ونلاحظ هذا في ضمير التأنيث في المفردات الآتيه :\"شوفي\" ، \"كنتي \" ، \"تكبري\" ، فمن هي الوطن القادم في روح شاعرنا وقصيدته ، هذا ما سنعرفه في الأبيات القادمة .. من الأشياء التي شدتني في أسلوب الشاعر أنه حينما خاطب المذكر أستخدم صورًا شعرية فيها شيئـًا من الحس الذكوري : مثل \" أنت أول عرق \" أو \" أغصان ورماح\" بينما استخدم مع الأنثى صورًا أكثر رقة ولطافة وترمز للشخصية الانثوية مثل : \" الاحلام وأنتي تزهري\" أو\" \"ورد لك شوق فاح\" نلاحظ الإختلاف ما بين الشخصيتين ، ما بين الذكر والأنثى ما بين الولد والبنت ، كما أدهشتني الصورة الحركية في صدر البيت الأخير\" كنتي بداخل عيوني وتكبري\" ،ونستطيع أن نتخيّل حرص شاعرنا على أنثاه الجميلة، وهو يراقبها بفرح عارم ، كيف تكبر، وتتخطى حواجز العمر أمامه ، والجميل أنه لم يراقبها وهي أمام عيونه بل وهي في داخل عيونه ، موحيـًا لنا أن هذه المراقبه كانت بكل الحواس والمشاعر الإنسانية الصادقة ..
وانت احزانك تبيع وتشتري
شوف ( اَيه ) ما كفاها هالجراح
ليت لي ثوبك أطوف واحتري
من رضى الرحمن لأيامي سماح
طاح ذنبي يا حبيبي ودفتري . .
ابيض ٍ مثلك مثل وجه الصباح
مرة أخرى يعود الشاعر لمخاطبة إبنه \"صالح \" ولكنه يكشف القناع عن الشخصية الأنثوية السابقة وتطل علينا ابنته \"آيه \" ، كما أن الأبيات الأخيرة نلمس فيها البعد الصوفي الإسلامي ، وهذا يتضح في ثوب الطواف وأيضا\" من رضى الرحمن \"، والصورة توضح أن الشاعر يتخيّـل المخاطب صالح وهو يطوف مرتديا ثوب الطواف الأبيض ، وَوفقَ الشاعر كثيرًا حينما ربط بين ثوب الطواف ووجه الصباح الأبيض ، ولقد وفق الشاعر في إبتداع الصورة الحركية في نهاية القصيدة لسقوط الذنب والدفتر معـًا في لحظة الطواف المتخيّله في ذهنه ، والمدهش أن الوطن الذي سكن في الدفتر في البيت الأول أصبح الآن ذنبـًا يسقط في لحظة الطواف المتخيله وهو أبيض مثل وجه صالح ووجه الصباح ..
هذه القراءة ليست قراءة نقدية ولا محاولة للحكم على هذه القصيدة الجميلة بالمعايير الفنية التي يضعها البعض هروبـًا من الحقيقة أو تبريرًا لمحاولة إزهاقها ، هي فقط قراءة تحاول ملامسة روح القصيدة ، فكرتها ، موضوعها ، مضمونها المتواري خلف صورها الشعرية الكثيرة ، أتمنى بإن أكون قد أقتربت بهذه الصورة من الأصل ...
قراءة: حمد الخروصي ..
القصيدة:
الوطن يا صاحبي في دفتري
شمعة الليلة ويطفيها الصباح
منسكب هالحزن كسّر لي ظـْـهري
تورق ظلاله وفي صدري البراح
ضاق هذا الحال يا روحي اصبري
كل عمري راح مني راح . . راح
الوطن مطعون في ضيق بْصري
من لي ( بصالح ) لأشواقي جناح
انت أول عرق في صدري طري
وانت هذا القلب أغصان ورماح
شوفه اللي اشتقت له في خاطري
أشعله ضحكه وتاخذها الرياح
لو حنيني خلا اشجاري عري
ما تنفس ركن الا البيت ناح
شوفي الأحلام وانتي تزهري
عاشق ٍ لك دم قلبه مستباح
كنتي بداخل عيوني وتكبري
كل ورد بداخلي لك شوق فاح
وانت أحزانك تبيع وتشتري
شوف ( اَيه ) ما كفاها هالجراح
ليت لي ثوبك أطوف واحتري
من رضى الرحمن لأيامي سماح
طاح ذنبي يا حبيبي ودفتري
ابيض ٍ مثلك مثل وجه الصباح
محاولة نزع قناع (وجه الصباح)
لا أحد يستطيع إغتيال الشعر ، والقصيدة هي روح ، روحٌ لا تبحث عن جسد تختبي فيه عن الموت ، لأنها تعدّت هذه المرحلة وأصبحت كالطائر الفينيقي المخيف الذي يخرج من رحم الأسطورة متحديا موت الذاكرة وذاكرة الموت .
في سماء الوطن يطلق محمد الصالحي طائره الأسطوري ، محلقـًا فوق الرؤوس ، لا يرآه سوى الحالمين والغرباء ومن فقد حبيبـًا أو ينتظر غائبـًا، قصيدة تأخذ الوطن كمفهوم ٍ هلامي يتغيّر مع إقتراب الأشخاص من حدقة الشاعر الجاحظة . ووطن الصالحي يتشكل من الوجوه والأماكن . أحيانـًا هو بلدة صغيرة تطل على خليج عُمان حاملة على رأسها أسطولا من السفن الخشبية ، وأحيانا أخرى يتجمع وطنه في وجه أطفاله\" صالح وآيه\" ، وأحيانا يكون الوطن أكبر من المفهوم الهلامي المتغيّر ، فيصبح هو القصيدة نفسها . هذه هي فلسفة الشعراء المتعبين من السفر والغربة ، والذين تشبعوا بالحنين إلى جذورهم الموغلة في أعماق المقابر والمدن ..
وجه الصباح ، هذا الوجه الممتليء بضوضاء الحياة والصخب ، وبفوضى مكياج الإستعداد لمنافسة العصافير في البحث عن حبة قمح ٍ ساقطة أو قشة ٍ تنفع لعش ٍ تتكيء عليه الذاكرة .. من العنوان والشاعر يسرقنا من حركتنا الإعتيادية ويَدعَك أعيننا بحذرٍ، ويوجهنا نحو النور؛ نحو البيت الأول يأخذنا مخدّرين معه بالوطن :
الوطن يا صاحبي في دفتري
شمعة الليلة ويطفيها الصباح
أودُّ أولا أن أعرِّف الشخوص الذين تضمنتهم القصيدة ، وأولهم الصاحب الذي يخاطبه الشاعر في بداية قصيدته ،علما أن هذا الصاحب سوف يطل علينا مرةً أخرى لاحقـَا بإسمه الحقيقي وسنتعرَّف عليه أكثر . السؤال الشعري البسيط : كيف يكون الوطن في دفتر ؟ ولو عدنا للمقدمة البسيطة سنستنتج أن وطن الشاعر متغيِّر وهلامي ونستطيع أن نرمز له بالقصيدة نفسها، وكأن الشاعر يقول لصاحبه أن وطنه الحقيقي موجود في كتاباته .. وفي العجز يرمز لهذا الوطن برمز آخر وهو الشمعه ، والشمعه هي الأمل الذي يضيء طريق شاعرنا في العُتمة وفي الظروف الحالكه، هي ملجأ وملاذ شاعرنا، وفي الصباح لا حاجة للشمعة ولكن السؤال : متى يأتي هذا الصباح، متى ينتهي الليل؟ متى تتوقف الكتابة؟ لا أعتقد أن ليل الشعراء ينتهي أبدا!!
منسكب هالحزن كسّر لي ظـْـهري
تورق ظلاله وفي صدري البراح
ضاق هذا الحال يا روحي اصبري
كل عمري راح مني راح . . راح
الوطن مطعون في ضيق بصري
من لي ( بصالح ) لأشواقي جناح
في الأبيات الماضية نلاحظ أن الشاعر إنتقل من مخاطبة صاحبه إلى مخاطبة نفسه في حوار داخلي ، وكأنه يهذي بينه وبين ذاته في حالة لا واعية ، ونلاحظ أن هذا التداعي النفسي ولـّد الكثير من الصور الشعرية المترابطة والتي خدمت إتساق القصيدة وتصاعدها الفني، ولو ركزنا قليلا في البيت الثاني نلمس الترابط القوي في الصورة التي إحتواها هذا البيت : العلاقة ما بين الظهر والصدر وما بين الظلال والبراح ، فالبراح هي المساحة الكبيرة والتي يغطي بعضها أو أغلبها الظل ..وهذا الظل هو من أثر إنسكاب الحزن، كما أن الشاعر إستخدم فعل الكسر للظهر دليلاً على القوة والخشونة، وفي المقابل إستخدم فعل تورق للظل والبراح اللذين يورقان في الصدر .. لاريب أن الشاعر محمد الصالحي يستخدم صورًا ذهنية وحسية مركبة ومعقدة وتحتاج للكثير من التركيز، فلابد من فكها وإعادة تركيبها من جديد في ذهن المتلقي، لذلك فإن قصائد شاعرنا لا تجد القبول عند القراء السطحيين الذين يحبون الصور التقليدية الواضحة والسهلة ويبحثون عن الألفاظ البرّاقة. ورغم تعقيد الصور إلا أن الترابط ما بينها نجده واضحـًا في معظم الأبيات .. ومن وجهة نظري البسيطة أعتقد أن ما يعيب الشاعر أن بعض أفكار أشطر الصدرتكون أحيانا منفصلة عن أفكار أشطر العجز .. مثل البيت الرابع :
الوطن مطعون في ضيق بصري
من لي ( بصالح ) لأشواقي جناح
أعتقد أن ذهن الشاعر يمتلك الرابط ما بين الصدر والعجز في البيت السابق ولكن هذا الرابط لا يتضح للقارىء، نشعر بقفزة ما بينهما وكأن هناك فكرة ناقصة، ربما هي ناقصة في أذهاننا ومكتملة في ذهن الشاعر، ونستطيع عبر هذه النظرية أن نقنع أنفسنا بأن الوطن أخذ في هذا البيت وجهه المعروف عند الجميع، وخرج من دفتر الشاعر إلى بصره، فأصبح هو المكان المشاهد وهو الوجوه الغائبة تحديدا وأهمها (صالح) ، وعودة للبيت الأول والشخصية الاولى في القصيدة والتي عَرفناها بالصاحب، فالصاحب يتحدد في هذا البيت بإنه \"صالح\" ، فمن هو صالح الذي أصبح في لحظة ٍ وطن الشاعر ومستفزِّه الأوّل لكتابة القصيدة بل أصبح المحرك الأساسي للقصيدة ، إنه يجري في كل عروق النص وهذا ما تأكده الأبيات القادمة :
انت أول عرق في صدري طري
وانت هذا القلب أغصان ورماح
شوفه اللي اشتقت له في خاطري
أشعله ضحكة وتاخذها الرياح
لو حنيني خلا اشجاري عري
ما تنفس ركن الا البيت ناح
في الأبيات الثلاثة الماضية ، يخاطب الشاعر بوجع ٍوشوق ٍ جارف الغائب عن المشاهدة البصرية \"صالح\" ، بل ويصوّر الحب الكبير الذي يكنـّه له ، والأبيات لا تخلو من الصوّر الشعرية المبتكرة والرائعة ، مثل :\" أشعله ضحكه وتاخذها الرياح\" ، والبيت الأخير جاء ثملا بالحنين الذي بث الحياة في الجماد وهذا هو الشعر الحقيقي الذي يعمّر طويلا في ذاكرة الناس الشعرية ، فحينما نفقد الأعزاء نشعر بإن كل ما يربطنا بهم يسأل عنهم ويحن إليهم ، أو \"ما تنفس ركن الا البيت ناح \" فالشاعر يضيف على البيت الجماد صفة النطق والنواح على الغائب ، فالبيت يشارك شاعرنا هذا الفقد المتعب ، وأعتقد أن الصدر منفصلا والعجز منفصلا أكثر جمالا من جمعهما معا ، فبرغم وجود (لو) الشرطية في بداية البيت \"لو حنيني\" غير أنه: لا توجد علاقة واضحة ما بين تعرّي الأشجار من الحنين ، \"وما تنفس ركن الا البيت ناح\" ، وتبقى هي وجهة نظر شخصية قابلة جدا للخطأ .. ويستمر بعد ذلك الشاعر في مخاطبة أوطانه المتجمعة في وطن القصيدة الأم :
شوفي الاحلام وانتي تزهري
عاشقٍ لك دم قلبه مستباح
كنتي بداخل عيوني وتكبري
كل ورد بداخلي لك شوق فاح
إنتقل الشاعر من مخاطبته للمذكر وهو \"صالح\" إلى مخاطبة شخصية جديدة في القصيدة ونلاحظ هذا في ضمير التأنيث في المفردات الآتيه :\"شوفي\" ، \"كنتي \" ، \"تكبري\" ، فمن هي الوطن القادم في روح شاعرنا وقصيدته ، هذا ما سنعرفه في الأبيات القادمة .. من الأشياء التي شدتني في أسلوب الشاعر أنه حينما خاطب المذكر أستخدم صورًا شعرية فيها شيئـًا من الحس الذكوري : مثل \" أنت أول عرق \" أو \" أغصان ورماح\" بينما استخدم مع الأنثى صورًا أكثر رقة ولطافة وترمز للشخصية الانثوية مثل : \" الاحلام وأنتي تزهري\" أو\" \"ورد لك شوق فاح\" نلاحظ الإختلاف ما بين الشخصيتين ، ما بين الذكر والأنثى ما بين الولد والبنت ، كما أدهشتني الصورة الحركية في صدر البيت الأخير\" كنتي بداخل عيوني وتكبري\" ،ونستطيع أن نتخيّل حرص شاعرنا على أنثاه الجميلة، وهو يراقبها بفرح عارم ، كيف تكبر، وتتخطى حواجز العمر أمامه ، والجميل أنه لم يراقبها وهي أمام عيونه بل وهي في داخل عيونه ، موحيـًا لنا أن هذه المراقبه كانت بكل الحواس والمشاعر الإنسانية الصادقة ..
وانت احزانك تبيع وتشتري
شوف ( اَيه ) ما كفاها هالجراح
ليت لي ثوبك أطوف واحتري
من رضى الرحمن لأيامي سماح
طاح ذنبي يا حبيبي ودفتري . .
ابيض ٍ مثلك مثل وجه الصباح
مرة أخرى يعود الشاعر لمخاطبة إبنه \"صالح \" ولكنه يكشف القناع عن الشخصية الأنثوية السابقة وتطل علينا ابنته \"آيه \" ، كما أن الأبيات الأخيرة نلمس فيها البعد الصوفي الإسلامي ، وهذا يتضح في ثوب الطواف وأيضا\" من رضى الرحمن \"، والصورة توضح أن الشاعر يتخيّـل المخاطب صالح وهو يطوف مرتديا ثوب الطواف الأبيض ، وَوفقَ الشاعر كثيرًا حينما ربط بين ثوب الطواف ووجه الصباح الأبيض ، ولقد وفق الشاعر في إبتداع الصورة الحركية في نهاية القصيدة لسقوط الذنب والدفتر معـًا في لحظة الطواف المتخيّله في ذهنه ، والمدهش أن الوطن الذي سكن في الدفتر في البيت الأول أصبح الآن ذنبـًا يسقط في لحظة الطواف المتخيله وهو أبيض مثل وجه صالح ووجه الصباح ..
هذه القراءة ليست قراءة نقدية ولا محاولة للحكم على هذه القصيدة الجميلة بالمعايير الفنية التي يضعها البعض هروبـًا من الحقيقة أو تبريرًا لمحاولة إزهاقها ، هي فقط قراءة تحاول ملامسة روح القصيدة ، فكرتها ، موضوعها ، مضمونها المتواري خلف صورها الشعرية الكثيرة ، أتمنى بإن أكون قد أقتربت بهذه الصورة من الأصل ...