قراءة في \" في السهل يشدو اليمام \" لــ محمد الحضرمي\"
10-10-2009 09:31 صباحاً
0
0
1926
![]() | ![]() | |
احتضار المكان قراءة في \" في السهل يشدو اليمام \" لــ محمد الحضرمي\" د . حمود الدغيشي* * أكاديمي عماني إن الناظر في تجربة محمد الحضرمي الشعرية في مجموعته \" في السهل يشدو اليمام \" يرصد بؤرة التوتر القائمة بين \" الأنا \" و \" الذات \" وهي بؤرة قد لا ينبئ عنها عنوان المجموعة بشكل صريح ، لكن العنوان يبدأ بالمكان كمفتاح أولي للانطلاق إلى التغني بالجمال إذ إن \" السهل \" بما يختزله من دلالات الطبيعة الجميلة يكون صالحا لــ \" شدو اليمام \" ، من هنا يبدو للمتلقي من خلال العنوان أن التغني بالجمال هو وحده المستحوذ على التجربة الشعرية ، إلا أن الناظر في نصوص التجربة سيدرك أن مردّ هذا التغني هو التوتر القائم بين الذات والمكان في اللحظة الحاضرة ؛ ما حدا بالذات بالنكوص إلى المكان نفسه في اللحظة الماضية بما يشبه الحلم ، على أن المكان مثير طبيعي ، والذات تتأمل واقعها في اللحظة الحاضرة وفاعلية الزمن فيه من خلال النكوص إلى موطن الطفولة ، (والنكوص حالة ارتدادية متوترة) فالمكان في إطاره الزمني الطفولي هو الذي عناه الشاعر بـ \" في السهل يشدو اليمام \" كونه إطارا يختزل الذكريات الجميلة ويغلف الذات بجمالية الحياة والوجود : لعلي أذكرني حين كنت هنا ، صغيرا تظللني خضرة الأمكنة ، وضواحي النخيل تلوح إلى الرائحين هنا حيث أججني العشق ، صرت أهيم بسرب اليمام على الرغم من أن المقطع الأخير يمنح الذات في حاضرها رؤية جمالية للكون إلا أنها رؤية طارئة أملاها المثير المكاني لحظة الوقوف على الماضي ، أي أن عناصر المكان الطفولي من \" خضرة الأمكنة \" و \" ضواحي النخيل \" صبغت الذات بفلسفة العشق وهي فلسفة تمتد إلى الطبيعة بكل مكوناتها الجمالية ، وهذه العناصر بما تتسم من حركة وحيوية ، واعتياد الذات على رؤيتها بشكلها الجمالي المنساب تجعل من الصعوبة الوقوف على حركة مضادة تحيل إلى السكون الرهيب ، والجمود المطلق ، وهو ما يعني احتضار المكان في اللحظة الحاضرة : سلكت دروبا معفرة ومضيتُ إلى بيتنا عرفتُ المكان ، خطاي تقود إليه ، سلكتُ دهاليز معتمة ، لا داخل البيت من أحد ، الدهاليز مسحورة ، والمكان تضمِّخه الذكريات . إن فعل الحراك الخارجي الذي تقوم به الذات بحثا عن الجمال الطفولي في المكان ، يرتدّ بفعل حراك داخلي يتمثل في الشعور بالأسى والخوف من الضياع ، من خلال المقابلة بين المكان في إطار الماضي وما يستحضره من أحلام وذكريات عبقة تتسم بالخير والخصب من جهة وبالصفاء والبساطة من جهة أخرى ، وبين المكان في إطار الحاضر وما يستثيره من أسى وحسرة وخوف من فقد المكوِّن الجمالي للذات في رؤيتها للوجود . ولأن المكان في الثنائية المتشكـِّلة من \" فعل الحراك الخارجي \" و \" فعل الحراك الداخلي \" يمثـِّل بؤرة تأزم عند الذات ؛ كونه ـ أي المكان ـ في حقيقته لا يعبر عن تماسكه وصلابته في العمق الذاتي للشاعر بقدر ما يعبر عن احتضاره ، كان التكثيف الشعري في وصف هذا الاحتضار بشكل غير مباشر أحيانا : والمكان كما كان .. تورقُ جدرانه بالحكايات ، ولنا حين تأسرنا ذكريات الضياع ، كم من الوقت يلزمنا لنرسم للعمر تلويحة من وداع . فماذا يعني أن يحتضر المكان في ذواتنا لتبقى أطلاله الخربة شاهدة على الضياع ؟ وهل المكان وحده كبقعة جغرافية يحرك هذه المسافة من الأسى فينا ؟ إنها قضية الصدام الواقع بين الأصالة والمعاصرة ، بين الثابت والمتغير على المستويين الحسي والمعنوي ، حيث تمثل الطفولة الرؤية النموذجية للمجتمع الأصيل ببساطته وسلوكياته النقية في الزمن الماضي ، بينما يمثل الجيل الحاضر الذي هجر البساطة وركن إلى السلوكيات الملوثة المعاصرة الملتوية ، ويتجسد هذا التقابل بين الصورتين في المكان ، المكان بصورته في الماضي والمكان بصورته في الحاضر ، والأول تجسيد للمجتمع الأصيل وساكنيه : ومضوا .. ينثرون حكاياتهم في الدروب ، قصائد عشق قديمة . عبروا صاخبين يلوكون أحلامهم ، واحدا بعد آخر ، قصة بعد أخرى عبروا فرحين بأيامهم ، ... وهذا يعني أن الخوف من فقد الحس الجمالي للذات برؤية صفاته المترسبة على جدار الشعور تنحرف عن قوالبها الأصيلة ، دفع بالذات إلى نبش الماضي في مفرداته المكانية ، والنبش حالة صراع فقدت عنصر الاتزان ؛ كونها مدفوعة من الخوف ، وتشبّث الذات بالماضي وأحلام الطفولة تشير إلى الانهزامية والهروب من مواجهة الواقع . ولأن المكان العنصر الرئيس المكوِّن للزمن الطفولي كثـّف الشاعر من مفرداته : وعدتُ وفي الروح شوق لأياميَ الماضيات ، لطفلٍ صغيرٍ يهرول بين البيوت ، يخاف من الظل والليل ، يتذكر كم كان يقطع بحر الظلام ، ويحبس أنفاسه ، ليبقى على حذرٍ ، ويهرول في الظلمة الحالكة . ودعنا نتوقف عند حركة العودة هذه ، التي استهلّ بها قصيدته \" طفولة \" وحركة العودة هذه ليست طارئة في مجموعته ، وإنما تتمرأى لنا في معظم قصائد الديوان ، سواء أكانت بشكل مباشر أم غير مباشر ، فحركة \" وعدت ُ\" الحاضرة تختزل زمنا سابقا للعودة وهو زمن غائب يفقد ديناميكيته المباشرة في درامية السياق لكننا في الوقت نفسه نستطيع أن نعبر عنه بالمحرِّك الغائب الحاضر في السياق الآني ، إذ إن درامية الحداثة أو المعاصرة الملوّثة بالفضاءات المزدحمة والأرواح المنحرفة عن أصالتها ، دفعت بالذات للبحث عن هويّتها وأصالتها في زحمة الضجيج ، أي أن الذات قبل حركة العودة تعيش حالة من القلق وعدم الاتزان مع واقعها المعيش ، وهو ما دفعها إلى استحضار الماضي والتشبث به ، حيث المكان الطفولي رمز الأصالة والسلوكيات الحميدة لساكنيه ، على الرغم من وجود بعض عناصر الخوف والرهبة في المكان الطفولي في زمنه الحاضر ، إلا أنها تتحول إلى عناصر جمال حين يصبح الواقع الذي عاد منه لتوِّه أكثر لهيبا ؛ إذ إن عناصر الخوف في طفولته طبيعية وبسيطة بساطة الطفولة وبراءتها ، كالظلّ والليل والظلام ، بينما تتركز عناصر الخوف في واقعه العائد منه ـ وإن لم يصرح الشاعر بذلك ـ في سلوكيات البشر التي انحرفت عن أصالتها المعهودة . قد تختزل القصيدة السابقة قضية الحضرمي المريرة في مجموعته الشعرية من خلال المقابلة بين ما هو أصيل وبين ما هو منحرف عن الأصالة ، وهذا الانحراف هو ما دفعه للعودة إلى نبش الماضي بكل مفرداته المكانية ؛ كونها تعبيرا عن الأصالة المنغرسة في الذات الشاعرة ، وهذا التشبث بالماضي ألهب الذات بمشاعر الحبّ ؛ حفظا عليها من الانجراف ، فكان عشقه يتركز في تلك الأمكنة المعلقة في ذاكرته : هل تذكرين الكلام المعطر ما بيننا ؟ سُفُني في مراسيك مكسورة ، ومجاديفُ حبّي تحنّ إليك ِ ، وفي الرُّوحِ إكليلُ وردٍ ، وشوقٌ يُغازلُ أيامنا الفائتة ، أحنُّ إليك ِ ، .... إن هذا التشبث بكل مفردات الماضي ، والتقوقع بأمكنة الطفولة لا يعني في حقيقته سوى الانهزامية والرغبة في الهروب ورفض التأقلم مع الواقع الحاضر . ولعلّ انتفاضة الذات بعد هذا الغرام لا يشكل في حقيقته سوى احتضارٍ للمكان (الأصالة) ، فالعودة للتذكـّر تعني أن شرخا كبيرا يتسع بين الذات والواقع : وهذا الحصار الكبيرُ سنقطعه ، وسنرسم في الأفق أحلامنا ، لذلك غنّي معي وانشدي للحياة . لماذا يصرّ الشاعر على أن ينعت الحصار بـ \" الكبير \" ؟! أليس يعني أن المعاناة كبيرة في الواقع وأن الدفقة الشعورية التي تسكنه بذكريات الماضي توهمه على أقل تقدير القدرة على تجاوز هذا الحصار ؟ أم يعني أن هذه الانتفاضة ليست في حقيقتها سوى أحلام عاشق ، يصارع من أجل بقاء المكان ، ليس كإطار جغرافي وإنما كإطار أخلاقي أصيل ؟ ولعل هذا ما يبعث في الذات الخوف من الانجراف ، وما هذا \" الحصار \" إلا صورة من الصور الرمزية للحداثة أو المعاصرة التي تحاصر الذات لتنحرف بها عن أصالتها . إن توظيف الأطلال كرمز لثنائية التضاد ( الاستقرار والرحيل ) يمنح القضية زخما من المعاناة الداخلية بين الذات الواقع ، وهو أن الذات ترغب في الحياة والاستقرار ، وهي تحن إلى ربوع المكان الطفولي ، وبالمقابل هي تشعر بالتغيير السريع الذي طرأ على هذا المكان وساكنيه ، تشعر بحركة الانحراف في الإنسان والأحداث ؛ لذا يتولد هنا الصراع بين الحزن والفرح ، بين الألفة والغربة ، بين الاستقرار والرحيل : عند الأطلال وقف الشعراء ، تذكروا حبيباتهم ، تذكروا ساكني الدّيار ، أولئك الذين كانوا يملؤونها فرحا ، وفي لحظة تسيل القصيدة من عيون الشاعر ، فتحرق ما تبقـّى من عُشب الوجوه . وإذ يغدو المكان طللا فإنه \" يمثل صورة من صور العلائق النفسية ، والمادية المتواترة ، بينه وبين ذات الشاعر ... \" . إن احتضار المكان على المستوى الحسي يقابله ـ في الحقيقة ـ احتضار على المستوى النفسي ، وليس أدلّ على ذلك من تلك اللغة الشعرية التي تختزل غربة الذات وانهزاميتها ، الذات التي ترصد بصمت فاعلية الزمن في المكان ، وما نتج عن هذه الفاعلية من تصدّع نفسي بسبب حضور المكان الرامز لجمالية الحياة في الذاكرة ، واحتضار المكان بانحرافه عن تلك الجمالية في الواقع : يزحف في صمت ٍ نحو الدار المهجورة ِ ، نحو الحجرات الثكلى ، حجراتٍ تبكي في صمتٍ ليليٍّ دامس لا تُبصر ذاكرة الأشياء هذي الدار المهجورة منذ سنين ، كانت قبل أفول شموسه واسعة وفسيحة ، كانت دارا تمرح فيها معشوقات الشعراء ، كانت قصرا من أزمنة ضوئية تتكسر فيها كلّ مرايا الرّوح . لقد ارتفعت اللغة إلى مستوى من التصوير لعلاقة الذات بجزئيات المكان الحسية ، وهو مستوى يقيم منها صورة حسية ونفسية للرؤية الفاقدة لعناصر الجمال ، باعتبارها \" صورة رمزية لا تقدم لنا نفسها كحادثة إخبارية \" . إن المراوحة بين الزمنين في الإطار المكاني : ( الموت + الحياة / الغياب + الحضور / الظلام + الضوء ) يبدو ـ من الخارج ـ سعيا إلى حالة الاتزان النفسي ، لكنه ـ من الداخل ـ يشي بحالة الفقد. ولعل الصورة التي شكلت المكان في الذات الشاعرة قامت على أساسين : الأساس الأول يتعلق بحبّ المكان في زمنه الماضي الطفولي وما يستحضره من سعة وفسحة ، ومرح وعشق ، وضوء ؛ رمزا للحياة الأصيلة. والأساس الثاني يتعلق بالأسى على المكان في زمنه الحاضر ، وما نشأ فيه من انحراف تمثل في الصمت والهجر ، والظلام الدامس ؛ رمزا لاحتضار المكان . ولا ريب أن الأساس الثاني كان أكثر تكثيفا في التجربة الشعرية ؛ لتصوير حجم المعاناة والفقد : ذات زمان .. وقف الشعراء على باب الدار طرقوا مصراعيه قليلا ، لكن المصراع المفتوح ، يكشف عن فاجعة الهجرة ، عن عشّاق الدار الرُّحّل عن موت الأرواح ، وبقاء الدار ضريحا حرًّا تمرح فيه الأشباح . إن رؤية الموت نفسها تخضع لنوع آخر من التحوّل التدريجي ، من حجمها الضيّق متمثلا في موت الأمكنة إلى أن تصبح بعد ذلك رؤية حسية ونفسية ، للبحث عن معنى ما للحياة يتمثل في الإنسان ، وهو ما يبدو غائبا أو مفتقدا . إن هذا التصوير الشعري يحمل في داخله حالة الفقد التي لم يعد مبعثها هنا مجرد الحزن والأسى على بعثرة المكان بقدر ما تحولت إلى فقد الذات هويّتها ، وتأكيد مرٍّ على الضياع . فماذا يعني أن تكون الـ \" الحارة مهجورة \" ؟! أليست الحارة لفظة تختزل دلالات الحركة والحيوية والسلوكيات الحسنة والعادات والتقاليد ؟ فلماذا : منازلها لم تعُدْ تعجُّ بساكنيها ودروبها تصفـِّر فيها الرِّيح لعل الرحيل هنا لا يقتصر على حركة الإنسان بقدر ما يعني غياب الأصالة المعهودة في المكان (الحارة) في ظل المتغيرات الجديدة \' إذ إن الانتقال من دور البساطة والصفاء في الحارة إلى دور المتغيرات الجديدة التي عصفت بسلوكيات ساكني الحارة من الجيل الجديد ، هي التي منحت صورة الحارة كثافة من الخراب والقبح : بلا أحد ٍ، بلا أطفال ، يملؤون المكان بكاء وضحكا ، بلا صبايا ، يمشين الهوينا على استحياء ، ... إن سريان حالة التمزق الطفولي في الذات دفعت بالشاعر إلى تكثيف عناصر القبح في الحارة في صورتها الراهنة ؛ ذلك أن \" الحارة \" هي المكوِّن الجمالي المتوائم مع الطفولة ، وهو أشدُّ التصاقا بالإنسان في مراحله العمرية . والشاعر في تصويره الحارة مهجورةً في اللحظة الحاضرة يومئ بشكل غير مباشر إلى عناصر الجمال المقابلة في الحارة في اللحظة الماضية سعيا إلى الاتزان النفسي ، لكنه اتزان مبعثر لا يشي في عمقه النفسي إلا بحالة الاحتضار لهذا المكوِّن الجمالي في الذات الشاعرة : الحارات المهجورة ليست خرائب ، بل مناحات الأرواح ، وفي تشقـّقات الجدران خبـّأ الأجداد تعاويذهم ، خبـّأوا عطر ليالي الوصل الليالي البيض المشرقة بأقمارها فالمكان لا يكتسب جمالياته من مظهره الحسي بقدر ما يكتسبها من تفاعل الإنسان فيه ، أيـًّا كان تفاعله وأيـًّا كانت مستوياته ، لكنه على مستوى التجربة الشعرية هنا يكمن في التفاعل الإيجابي الأصيل الذي يظل يرفد الذات بعناصر الجمال ، وإذا ما انهارت قيمُهُ انهار المكوِّن الجمالي ، ويبدأ احتضار المكان في ذواتنا . وقد تتحول الطفولة بذكريات المكان في الذات إلى دفقة شعورية من الاستشراف في خضمّ الواقع المتغيِّر ؛ أي أن النظرة تجاه الواقع المرير مصدرها عيون الطفولة (المستحضرة حلما) بما تختزله من عناصر جمال ؛ لهذا يبرز عند الذات ـ بشكل خفي وخجول ـ التمرّد على الواقع والرغبة في التحرر : وعيون الطفولة ترمق أفقا بعيدا زاهرا في صحاري الفناء وإذا كانت القضية بين الماضي (الطفولة) والحاضر (الواقع) قضية صراع ، فلماذا لا يخلق الشاعر أداة صلبة من رحم الطفولة كمعادل موضوعي تــُوقف معاناة الاحتضار ، أداة لا تتحول أمام عوادي الزمن ومتغيراته ؟ أليست \" الجبال \" معادلا موضوعيا للذات التي تسعى للبقاء على أصالتها في وجه الفناء التدريجي للمجتمع الأصيل ؟ : هذه الجبال أسرار الطبيعة حارسة تقف بشموخ لا تعرف الكلل ............ هذه الجبالُ ، زخمٌ من تراب وأحلام وحجارة ، ........... قممٌ تعشعش فيها السحب ، يشحنها البرق بأكوانه ويرجُّـها الرعـد ، فلا ترتعد فرائصها ولا تلين حجارتها . ولستُ في تتبع عناصر الطبيعة التي افترشت المجموعة الشعرية فهي كثيرة ، ولكنني أقول إن الشاعر وظف عناصر الطبيعة من رمل وصحراء وأودية ومياه ، وشمس وقمر وسماء ، وحيوان ، ونبات ، وجماد ، للتعبير عن الصراع ما بين هو أصيل مترسِّخ في ذاكرته وبين ما هو منحرف عن أصالته ، ولعل هذا التعبير ـ في حقيقته ـ ليس تعبيرا عن الذات بقدر ما هو هروب من الذات التي تشعر باحتضار المكان في ظل المتغيرات الجديدة . لذا آثر الشاعر أن تهرب يمامته ـ رمز طفولته ـ بعيدا عن الواقع ، فلم يعد الواقع فضاءها ، إنه فضاء ملوَّث بالأرواح ، فما عادت ـ في ظل هذا الواقع ـ تصلح للطيران والأحلام ، لقد كانت اليمامة معادلا للذات الانهزامية التي تأبى المواجهة والتأقلم مع الواقع : طيري مجنّحة ، فإن الأرض حُبلى بالمكيدة . لم تعد وطنا من الأحلام نزرعه زهورا ، أو نُلوِّنه ظلالا في قصيدة . لأن الذات تشعر بانهيار المكان الطفولي ، المكوِّن الجمالي لذاكرتها : الطفولة تمضي سرابا رقيقا ... وإذ ينحرف هذا المكوِّن الجمالي تبدأ أطياف الموت تحاصر الذات ، وتستبدل اللغة الشعرية عناصر البقاء بعناصر الفناء في تراجيدية مشلولة : الموت يحاصرني ، ويدي في الأصفاد مُقـيَّـدة ، والروح أسيرة جسمي ، يا وجعي القادم من تيه الوجد ، وتيه القلب ، ترفـَّقْ بي . فيدي المغلولة لا تشفع لي ، والحبل المشدود على رُسْغي يشبه أفعى . إن لغة الشلل التي أصابت الذات هي نتيجة حتمية لتجربة التصقت منذ النفثة الأولى بالماضي ، وخضعت للأحلام الطفولية واستسلمت للواقع . وأخلص إلى القول إن الناظر لتجربة الحضرمي يدرك أنه شاعر ذو عاطفة تلجأ إلى الهروب من ذاتها ، وتكتفي بالتغني بماضي طفولتها وما أصابه من شلل في ظل الواقع المرير ، الواقع الذي لم نقرأ فيه خضمّ الضجيج والكآبة بشكل مباشر، لم نقرأ الصورة المقابلة إلابشكل خفي ، فقد آثر الشاعر المواجهة تحت عباءة الماضي تاركا ذاتا يمزقها الأسى والحسرة على الطفولة الضائعة ؛ من هنا كانت لغة الاستسلام ، وكان احتضار المكان . | ||
![]() | ![]() |