• ×
الجمعة 10 أكتوبر 2025 |

الحداثة و عصيان الذات

0
0
754
 
الحداثة و عصيان الذات
بقلم: سعيد بوعيطة
كاتب وناقد مغربي



تنطلق الحداثة من لحظة تمرد الأنا الفاعلة للوعي على طرائقها المعتادة نفسيا، تبدأ بانقسام الذات المتمردة على نفسها وعلى وسائل إنتاج المعرفة السائدة، لتأسيس أدوات جديدة تحررها من نفسها وعلاقتها بواقعها.

إن هذا ما يتطلب وعيا ضديا، إلا أن محاولة حصر هذه اللحظة زمنيا بمثابة نقش على الماء، لأن فعل الحداثة هو فعل التمرد على الأشكال الثابتة والساكنة.

من هنا تأتي صعوبة حصرها في زمان ومكان معينين. فالتاريخ الإنساني عامة والإبداعي خاصة، زحم بتجارب حداثية دأبت على ممارسة الهدم والمحور والتجاوز، لعل أبعد التجارب العربية في ذلك: التجربة النواسية التجربة التمامية، الخ...

غالبا ما يصطدم سؤال الحداثة، بالثنائية الشائعة بين القديم والحديث. إنها ثنائية تكاد تلف الفكر والحضارة البشرية، فالحداثة تعبير عن الفكرة القائلة إن عصرنا يصنع اختلافه
وجدته بالنظر إلى الماضي.

على الرغم من أغلب النقاد يعودون بمصطلح الحداثة إلى عام 1849، فإنه رفض من مصادر عدة أولها المصدر الكنيسي. كما تصدي لها التوجه النازي، واعتبرها فنا منحطا.

والشيء نفسه، صدر عن جورج لوكاش، إلا أن هذا الأخير، كان يستهدف الحركة السريالية، الرمزية، والوجودية التي تحطم الأشكال التقليدية. إن هذا الرفض اللوكاشي، رهين بولائه للنظرية الماركسية، والشيء نفسه، نلتقي معه في التجربة الحداثية العربية.
ما يجعل مجموعة من الأسئلة تطفو على السطح في مقدمتها: علاقة الحداثة بالأدب؟ بين الحداثة والمعاصرة؟ علاقة الحداثة بالتراث؟ الخ...

كل حداثة هي قرينة الارتقاء الدائم بالإنسان في هذا الكون: من الاستغلال إلى العدالة، من التبعية إلى الاستقلال، من الفكر الميتافيزيقي إلى الفكر العلمي المضيء، من سيطرة الأسرة أو القبيلة أو الحاكم المطلق إلى الدولة الديمقراطية الحديثة. إنها حق الذات في التمرد على: أدوات الإنتاج، المعرفة السائدة، الأنظمة الصدئة الخ...

تطلع دائم إلى المستقبل، فلا حداثة من دون تحديث، إنها حسب الشاعر يوسف الخال، تصور جديد للكون والحياة، إبداع رؤية جديدة سيتعصي عزلها أو اختزالها عن تلك الرؤية
الحضارية، إلا أن تلك الرؤية. تستجوب، حسب أدونيس، الدخول في سفر النشأة والتكوين
لتمارس بشغب عملية التمرد وشق عصا الطاعة، تمرد أوديبي على كل سلطة أبوية وكل
أنظمة قمعية.

غير أن هذا العصيان، رهين بصراع شقيقين داخل رحم واحد: تقابل الأوضاع الاجتماعية،
تصارع المواقف السياسية، تصادم المصالح، انقسام فكري: هامشي رسمي، سلفي، خلفي، طليعي، اجتماعي، الخ... ما يجعل هذه الرؤية الحداثوية، حاملة للحلم الطلائعي ومسكونة بحمى السؤال الذي لا يولد إلا السؤال.

كل حداثة ملازمة لوعي ضدي، يضيء لحظتها التاريخية، لكنه يصبح وعيا خانعا عندما
يرتكن إلى المهادنة تفقد الحداثة شرطها التاريخي، فتموت من الداخل والخارج.

إلا انه عندما ينضج هذا الوعي، تنقلب الحداثة إلى القطب السالب أو الموجب. وما بينهما يمتد القلق، التمزق والأقسام، فإما أن تسلم الحداثة نفسها للإحباط أو للإشراف. إنها مرحلة صراخ للخروج من الشرنقة، صرخة تشبه صرخة الشاعر أمل دنقل:

كينونتي مشنقتي
وحب السري
حبها
المقطوع

الصراخ يزج بالذات في دوامة البحث وإعلان العصيان والانسلاخ عن هيمنة الماضي. إن هذا الترابط بين الوعي الرغبة الممكنة والوعي القائم الواقع، بالفهم الغولدماني (نسبة إلى لوسيان غولدمان)، علاقة تقوم على المفارقة، تتصل بالتاريخ وتنفصل في الوقت نفسه،
لأن الحداثة متغلغلة في اللحظة التاريخية وتكشف في الوقت نفسه عن تناقضاته.

ثمة حداثات عديدة، بتعدد هذا الوعي الضدي. إنها الحداثة كالروح الهيغلية المتجلية في أشكال مختلفة. إن هذا التعدد، منوط بتعدد اللحظات التاريخية والعكس صحيح إن الحداثة بهذا الفهم، رؤية إبداعية يؤسسها وعي ضدي للحظة تاريخية، دال متعدد المدلول إن مدلوله عند أبي نواس يفارق مدلوله عند ادونيس. كما يفارقه كذلك عند شارل بود لير ورونيه شار في التجربة الشعرية الفرنسية.

انه مدلول منغرس في لحظته التاريخية وشروطها المختلفة، فهل توافرت هذه الشروط وهذه
اللحظة للحداثة العربية؟

ثمة من يرى أن الإنسان العربي إنسان سكوني ثابت يجتر ماضيه ويرحل إليه. انه لا يملك قدرة الخلق والابتكار يكتفي بالعيش في الماضي أو في ذوات الآخرين أجنبية عنه.
إن عدم الانطلاق من الذات والوعي الضدي الخاص، يجعل الحداثة حسب الناقد اللبناني
جهاد فاضل حداثة منحرفة، تبدأ الحداثة عندما تعلن الذات عصيانها على نفسها ولحظتها
التاريخية.

إن سؤال الحداثة، منوط بهذا العصيان لكنه عصيان جميل.

image