• ×
الجمعة 10 أكتوبر 2025 |

نحو ثقافة رمضانية جديدة

0
0
922
 
نحو ثقافة رمضانية جديدة
للكاتب أسعد المحرزي


سأبدأ المقال بسؤال بسيط : ما هو رمضان؟ وسيجيب الجميع بأنه شهر من أعظم شهور الله ثوابا ، أنزل الله فيه القرآن وفرض علينا صيامه صياما روحيا وجسديا من الفجر حتى آذان المغرب . وهو أيضا شهر تضاعف فيه الحسنات وتجمع فيه الزكاة وفيه ليلة خير من ألف شهر ينتظرها العديد منا للدعاء والإبتهال لله بغفران الذنوب ونيل المطالب والعتق من النار.

إذن هذا هو رمضان ! لكن إسمحوا لي بأن أخذكم معي في جولة 30 يوما من رمضان الزمن الجديد (للأسف) نبدأها بالشحن الفضائي فتخرج علينا الممثلة (فلانة) لتقول بكل إبتذال: كل عام وأنتم بخير تابعوني في شهر رمضان... ما أحلاه من إستقبال لشهر كريم !

طبعا تليها الزفة المعتادة : (عروض رمضان ، تنزيلات رمضان، فوازير رمضان، سهرات رمضان، خيام رمضانية ، دورات رمضانية، موائد رمضانية، و... القائمة تطول)

والسؤال هنا : لقد إتفقنا بأنه شهر صيام وعبادة فما شأنه بهذه الحملة التسويقية الإحتفالية الضخمة من عروض ومسلسلات ودورات برامجية خاصة تصرف عليها الملايين من بداية العام؟ حتى أن بعض الممثلين يحرص حرصا شديدا على أن يعرض مسلسله في رمضان ليضرب الرقم القياسي في المشاهدات... والمضحك في الأمر الدعاية غير الواعية فيقولوا : تابعوا مسلسل (جمر .. ما دري شو) في رمضان ، (دمع .. ما دري شو) في رمضان (نار !!! ما دري شو) في رمضان... سبحان الله كيف تتجمع عصارة أحزان ومآسي وعذاب المؤلفين في شهر الرحمة والنور.. المهم الله يثيبهم في مصابهم الجلل ويفرج عنهم.

ما علينا ... سوف نبرر الموضوع على أن (الإعلام حر) ... هذا الريموت كنترول .. و أغلقنا التلفاز وإرتحنا!

لكن يبقى التساؤل: لماذا لا تكون العروض والتنزيلات في شهر رجب أو شوال أو ربيع الأول؟ لماذا نختص رمضان بهذه الهالة الغريبة من كل أنواع اللهو واللعب؟ وعلى حساب ماذا يكون هذا اللهو؟ (وإسمحوا لي على هذا التعبير الذي لم أجد غيره) لكن هل من بيننا من يريد تحمل مسؤولية إلهاء الناس عن عبادة الله وإقامة شعائره؟ يعني ينوب عن إبليس (المصفد) لحين فك الأسر؟

هذا جزء من المعادلة الصعبة فقط وهيا بنا إلى المنظر العام: تمتلئ الشوارع والطرقات وتنكسر الظهور وتثقب الجيوب لإستقبال (شهر الجوع العظيم) وكأنه مشهد مخيف لا نتمناه (عودة الإعصار) لكن (إعصار رمضان) قد يكون أشد وطأة فتشحن العربات وتصطف الصفوف وقوافل الإغاثة (كل شئ بالخيشة والكرتون.. ما نريد شئ بالحبة .. ورانا 30 يوم جوع ومئات من وصفات أبلة شهيرة والمطبخ العربي والأوروبي ما جربناها!!)

والغريب بأننا نأكل في كل يوم (3 وجبات) ولا نشاهد الأسواق في حالة الطوارئ التي نشهدها في رمضان الذي من المفترض أن نأكل فيه (وجبتين فقط) لأننا نصوم بقية اليوم .. يعني بديهيا (الزحمة المفروض تقل) !

لا يهمني أين يذهب الباقي (صحتين وعافية) ، لكنني هنا أقف عند الغاية من الصيام وتشبيهه تعالى للمسرفين بأنهم أخوان الشياطين والتأكيد على كفر الشيطان وجحوده.. فهل يكون شهر (القسط) شهرا للإسراف؟ وشهر التبرؤ من الشيطان شهرا لمؤاخاته؟

ثم ننتقل إلى المشهد التالي بدخول الشهر الكريم وإمتلاء المساجد بالعاكفين.. مشهد يثلج صدر أي مؤمن .. حتى أجزمت بأني لو غاب عني صديق سنين طوال سأجده في أول يوم رمضان في المسجد من كثرة المصلين.. لكنني في المقابل لا أستطيع أن أحصر ما أراه من مخالفات في المساجد من تلويث بيوت الله بالقمامة وروائح الطعام والتشويش على المصلين بالقراءة المرتفعة وأصوات شخير النائمين وتحول المساجد إلى ملاعب للأطفال هذا إضافة إلى إصرار العديد من المرضى (هدانا وإياهم الله) على الصلاة في الجماعة (كنوع من مجاهدة النفس) وفي المقابل يقومون بنشر العدوى بين الأصحاء دون الأخذ بالرخصة المتاحة لهم ... كل ذلك لأجل تحصيل أجر الإعتكاف .. فهل يصح العمل بإلحاق الأذى والضرر بالباقين؟

المشهد الأخر طبعا هو من نصيب هواة المشي على الشواطئ ولعب الكرة في الحدائق ... شئ أكيد بأن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لكن هل ينبغي بأن ننظر إلى هذا الشهر الكريم على أنه شهر الريجيم والدايت وبالعامية ( يعني ما تحلى الرياضة إلا في رمضان؟).

المهم.. كالعادة يأتي (قرنقشوه أو القرقيعان) ليعلن نهاية الشهر الكريم.. ولا تستغربوا لذلك لأنه بعد إنقضاء منتصف رمضان يتم التحضير للعيد .. يعني رمضان هذا الدهر 15 يوم من الإحتساب والباقي يدخل في خانة (بدل الضائع)!

والله يكون في عون الخياطين رجالا ونساءا الساهرين على الأقمشة ومكائن الخياطة حتى ليلة ال29 من الشهر... وتعود الأسواق مجددا بالإكتظاظ بالباحثين عن نعال العيد وعمامة العيد وعطر العيد وفستان العيد وبخور العيد ...وحدث ولا حرج ... وقد يحاجني البعض بأن لبس الثوب الجديد في يوم العيد هو من هدي النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام... وأقول نعم ولكن لم يرد عن المصطفى بأنه أوصى الناس بقضاء ((نصف)) رمضان في الأسواق للإستعداد (( ليوم واحد)) من العيد؟ .. وفي المقابل كان (يشد المأزر) في العشر الأواخر فأين نحن عنه وعن سنته الشريفة ؟ أم نأخذ منها ما نشاء لما نشاء ونضرب بالباقي عرض الحائط ؟

ولا تنتهي الزوبعة إلا بإعلان ثبوت رؤية هلال شهر شوال.. لنبدأ بزوبعة أخرى (النفر إلى البلادين) ... حيث تتحول السيارات بفعل الضغط الآدمي إلى فصائل من مقاتلات ميج الحربية والصحون الطائرة التي تفرض (حظر تجول) على الغلابى قائدي المركبات الأرضية... فتسمع الصيحات وأبواق الإنذار وفلاشات الطوارئ والمصطلحات المعتادة (خوز من طريقي.. إمشي.. إسرع.. إصحى يا نايم) طبعا كل ذلك في سبيل الوصول إلى البلاد (بضع دقائق) باكرا ولكن نظرا لعدم توفر رخص الطيران لدى الكثير منا تكون النتيجة على الصفحة المعتادة من الجريدة ( مصرع أسرة في حادث سير والسبب أكيد معروف).. وينقلب العيد إلى مأتم.. ولا أعلم حقيقة الضغط والشحن النفسي الكبير الذي يفرضه علينا يوم العيد حتى يجعلنا نتحدى قوانين السير والطبيعة.. فيكون (صحن العرسية) و(خيشة الشواء) و(مصافحة الأقارب) أهم من أرواحنا وأرواح المؤمنين... فهل تكون هذه خاتمة شهر الرحمة ومحصلة (الصيام) النهائية؟

يا ناس.. نحن بصدد إبتداع (ثقافة) جديدة لرمضان بعيدة جدا عن المفهوم الإسلامي مبنية على عادات فردية معدية وسريعة الإنتشار وقد تطورت من عادات إلى فرائض. فنحن من ألصق (العروض والتزيلات والموائد والدورات) بهذا الشهر وألبسناه ثوبا لا يليق به. فأصبحنا ننتظر رمضان لنتابع الكاميرا الخفية ونأكل أم علي ونلعب الكرة بعد التراويح ونخيط الثياب الجديدة حتى طغت هذه الهوامش الدخيلة ودفعت بالنص الأصلي خارج الصفحة.

وفي هذه الحالة فإن النص الأصلي هو ركن من أركان ديننا الحنيف، ولم نكن بحاجة إلى الغزو الثقافي الغربي (الشماعة المعتادة) ليتدخل في تبديل الثقافة الرمضانية المحمدية المبنية على أخلاق ومبادئ سامية وعظيمة (من المفترض) أن تكون نتاجا فعليا للعبادات التي لا يزال العلم في طريقه لسبر أغوار حكمها ومعانيها.

وغدا هذا الشهر مجرد (مهرجان) للتسوق والنوم والمرح ... فالله سبحانه وتعالى لم ينشد منا حل الفوازير أو قرع الطبول أو تقديم ( صحون الكراميل) كقربان.. ورص الصفوف أمام المحلات... والتذابح في الشوارع عند آذان المغرب للحاق بالبساط الطائر!

إن هذا الخالق العظيم الذي فرض علينا الصيام هو ذاته الذي أوصانا بالحلم والصبر والقسط وحرم علينا الإسراف ... وهذه هي معاني رمضان الروحية السامية، فكيف نتمسك بالقشور (جوع وعطش) ونترك الجوهر النفيس الذي نصوم من أجله. إن المعاني السامية التي تقف خلف كل عبادة وشعيرة هي التي جعلت من هذه الأمة أرقى أمة في التاريخ فكرا وحضارة وأدب... ولكن إن غابت المعاني والمقاصد فما فائدة العبادة؟

فنحن نصوم حتى نحس بمعاناة الفقير الجائع لنتواضع ونحمد الله على نعمه .. ولكننا بعد العيد نصبح فقراء حقيقيين من كثرة الإسراف ومخالفات السير في إنتظار نجدة الراتب القادم.

يا ناس ... رمضان يصرخ .. أتقوا الله فيني .. فأنا أحتضر!