• ×
الجمعة 10 أكتوبر 2025 |

قصيدة «الهواء الضالع في الوجوه» لعبدالله الريامي

0
0
1317
 

قصيدة «الهواء الضالع في الوجوه» لعبدالله الريامي
للكاتب: يحيى الناعبي


دائماً وأنا أفتش في الدواوين الشعرية للشعراء العمانيين، أجد أن هناك مفارقات كثيرة تدخل في الحالة الشعرية لديهم، إذ تتشكل الحالة على الكثير من التناقضات الأفقية التي تحصرهم في زوايا ضيقة فتشكّل القصيدة لدى المتلقي معاناة في بالغ التعقيد، وبدلا أن تكون هي المرآة الشعرية الحالمة لدى الشاعر تصبح جزءا من المعاناة، ربما لأن المنظومة المعقدة في حياة الإنسان العماني، وخصوصاً الشاعر كونه الأقرب إلى سيناريوهات الحياة المختلفة والمتشابكة، والغموض الذي تتحصن به روح الكائن الشعري، ضمن رموز ودلالات تراثية، ودينية ومنظومة اجتماعية غير متآلفة غالباً ما تقترب من التراجيديا الفجائعية.

إذن العناوين التي تشكّل مدارات التجربة العمانية بأبعادها الرمزية هي خير مفتاح للبحث عن الجوانب المشتتة والمتآلفة في النص.

في قصيدة «الهواء الضالع في الوجوه» للشاعر عبدالله الريامي ضمن مجموعته «فرق الهواء» الصادرة عن منشورات نجمه عام 1992م، نجد أن الشاعر يتناوب في الطرح الجينالوجي المتراكم في إيجاد المشهد الرمزي عبر مكونات ولاّة ومستمرة في الكشف عن المكنونات النفسية.

يقول الشاعر:
وإذا يداهمك البياض بغزارة النوافذ
المفتوحة . قليل عنها قد يكفي لمرور نسناس
العمر . أكتب باليد الحرة . وبالأسباب
الفارعة العداء لمصالح الوقت. ولأنني لم
أر النور ، يوماً ، يفضح أسرار لم أعرفها
فقد كنت بين الساهرين على متاع
الصمت . وكنت أول الضالعين في سجادة
البكاء والنوايا وبقية أثاث الأحياء.

الصورة عند الشاعر اهتمت بالجانب التعبيري بين الملموس والرمزي، انه حارس الصمت بمرارة اليأس نحو الحالة التي تحاصره وجدانيا، وزمنيا، أسلوبه الشعري مختزل جداً، يجد نفسه متورطاً بين أن يكشف عن مرآة التاريخ ومرارة المشاهد وبين أن يتحول إلى بقية أثاث أو سجادة بكاء، بحيث يصبح إفراغ الشعور في قالب مادي، أو حتى التحاور معه هو وسيلة سهلة وسريعة وعميقة في دلالاتها، كما لو أن تتخيل تلك السجادة أو قطعة الأثاث وهي تنهمر دموعاً، فهذه التأويلات الرمزية من نسناس العمر هي المصير الذي يجب أن يقرره الشاعر بين يد الكاتب الحرة ببياضها المداهم وبين قطع الأثاث.

كما يقول:
وكما أن الوله مطوي كالحصير
في خيال العابرين
فقد كانت محافل
الطباع تفضي بقليل من الأجوبة لآخر
المخلصين فيها. وكما أنني السماء التي لا
تطاق. وكما أن الأرض قدماي، فقد
هويت على عمود الظل صافيا ومائلا،
كمن يوصد باباً ويستل حناناً بعيداً..
أيها القريب من فم البارود

انبثقت المكنونات الحسية عند الشاعر، وظهرت ملامح الغربة التي لا تستطيع أن تحددها أهي كانت مكانية أم غربة أشخاص أم غربة زمنية، فالجانب التحليلي لما بعد (كما) التي تتقدم جملتة الشعرية يؤدي إلى معان ودلالات متباينة منها الطباع المختلفة عند الكثير والتي دائما ما يرجعها الشعراء إلى أصدقائهم خصوصا في الغربة وكذلك أن السماء أصبحت لا تطاق وبالتالي فمدلولها خفي لأن الحرية مطلب والسماء فضاء الحرية فأي سماء هذه التي لا تطاق، ويناقضها في مقطعه القادم بالأرض التي هي قدماه أي أن الجغرافيا المكانية لا تحده بل كل مكان هو نقطة لانطلاقه الدائم مع كل خطوة، ولكن ملازمة هاجس الحنين إلى الوطن يأتيه من بعيد برغم الأزمات التي يعيش عليها ذلك الوطن.

من الفتنة الطرية
فتش في عربات الوهم
عن مسافر مثلي
ربما تجد ظلاً وصورة لجندي
يحدَّث الصمت
هو أنت.
فاتن في المشقة
غريق في نهر مهمل.

اختلفت قليلا هنا حالة الشاعر فبدأ يعبّر عن رحلته الإبداعية ووصف حالته المتمثلة في ذهنيته الحالمة مع الحياة والعقيدة، ربما الجمال فيها أن تتحدث عن شجرة الروح التي تبنت بداخلك فتصفها بكل حب وإخلاص، لتطفو في النص مرسومة بكلمات تحت وطأة المشاعر، هي ربماً عزاء شعرياً للحالة الأولى في بداية النص.

أي عمر هذا بلا سنوات
أي رصاص هذا الذي كلما انطلق
عاد كصقر مدرّب
.........
لكنني والمدينة ما زلنا نرزح
تحت سيرة الإنسان.


ذكرت سابقاً أن الشاعر كان متحيراً بين أن يكشف مرآة التاريخ أو الصمت، نجد أن في هذا المقطع بدأ يستحضر العامل الزمني فليس هناك عمر بلا سنوات، ثم يشبهه بالرصاصات المنطلقة التي تعود بعد ذلك كصقر مدرب وهنا ان سنوات الحياة وتجاربها لها دور في جعل الشاعر صقراً مدرباً أي انه مستعد للمواجهة بكثير من الوعي.
ثم يختتم بشراكته مع المدينة في رزحهما تحت سيرة الإنسان، أي أن خطواته وأفعاله لا تتعدى كونه كائناً بشرياً في هذه المدينة وليس أسطورة أو مخلّص ميتافيزيقي وبالتالي سيظل تحت وطأة المعاناة الإنسانية في الحب والحزن والحنين..

إني أنصت كثيراً إلى رامبو «آه، لو
يتصدع هيكلي، آه لو أزول في البحر....»
إني أنصت كثيراً
إلى النسيان إنجاز الخلود!
كما لو إن الوردة في سرير معطل
كما لو أن الريح تسأل
عن أول قطار يوقظني

رامبو دليل الشعراء إلى القصيدة، ظل يهرب كثيراً ليتخلص من الضوابط والقيود، عمل كثيراً في مغامراته بالمدن والعواصم بأنواع كثيرة من المهن والصنائع ليشبع روحه بمشاهد كثيرة في سلوك البشر والحياة المتنوعة وكل ذلك كان يصبه في قصيدته باحثا عن أبديته الشعرية، هكذا نجد أن الريامي أنصت إليه كثيراً هروباً ونسياناً ليصبح منسياً كالوردة عندما تكون في سرير معطّل من المؤكد أنها ستهمل وتذبل أو أن توقظه الريح مع أول رحلة للقطار بعيداً في طي النسيان والتفرغ لقصيدته وتفجير مكنوناته المؤلمة لما يجتاح عالمه من المحيط الخارجي.

كما ذكرت سابقاً ان الشتات يلف القصيدة العمانية، نجد أن الريامي كان متحيزاً في موضوعة التاريخ وكشفه ثم استحضره في مقطع آخر والآن نرى انه يلوذ بالفرار ليصبح في طي المنسيين!


وكما ترتعش قدم دون الأخرى
وجدتني أعمل عتّالا
ما بين اليباس
والتقاء الماء في بلاد بلا فصول
فاقتربي أيتها العالية
سرا مغلقا كالديدان
...........................
اقتربي
نغني بقوة الشعراء
نحن الباب الوحيد
عتبته
من مسافة
مقبضه

إن التقنية التي استخدمها الشاعر في هذه الجزئية من قصيدته هي وصف الصورة
التي يعيشها الشاعر كمنولوج داخلي وبحثه عن الذات التائهة، يتجلى في منظوره العميق على القسوة في ارتعاش الأقدام واليباس كدليل على المأساة المفزعة التي ترزح فيها وضعيته ( سيرة الإنسان) ليستعيد قوته بالقصيدة والشعراء، حيث المخّلص الوحيد والأقرب إلى الشاعر مما يتمثل أمامه من تشوهات.

غدا
عندما نلهو معا
في اعوجاج السطر
في انهمار الشمس
لن أرى إسطبلات المعنى
إلا كالخطأ
الواقف ببابي
ما لم يعبر منشارٌ أفواه الأسوياء
ما لم يتكسر على كتفي
ليل وارف الطلقات .

يختتم الريامي قصيدته بإشارات عاصفة، لا تقبل اللين في مهمتها للكشف عن الحقائق من بطن الزيف، حيث أنه برغم سطوع الشمس وانهمار ضوئها فهو يؤكد أنه لن يرى إلا الخطأ، حتى ولو زينت أشكاله واستخدم فيه كافة أنواع الخداع البصري، فالظروف الكلية أداة مؤكدة للكذب يجب أن يدحض بمنشار أفواه الأسوياء، ويشبّه ذلك بليل وارف الطلقات، وكأنما يكون الشاعر هنا بصدد رصد السياق الجلي للتشوهات التي تغمر المحيط الخارجي وضرورة مكافحته بمعايير ليست سهلة عليه واشتراطات شرعية لا يملكها إلا الشاعر.