كانت ومضات البرق تتابع بشكل مضاعف لتكشف عن تشكيلات أجسادنا المختبئة بين فجوات السطح المتآكلة الحواف ، أصبح الهدوء يلف كافة الأركان المحيطة بنا ، حتى حركة الشارع اقتصرت على السيارات القليلة التي تنتقل ببطء يجاورها دعاء وابتهالات تنساب بحرقة كلما اندفع البرق ليضئ الوجوه والوجود ، يد أختي كانت طويلة بشكل ملفت للنظر وهي تشير إلى الجسد الملتف بالبياض والذي يغطي نصف السيارة المتقدمة ، تركنا البرق يكشف لنا الصورة من أبعاد كثيرة ، وانتظرنا مرورها على الشارع رغم اهتزاز يدي أختي أكثر من مرة وهي تنبه أن البرق أصبح أكثر قوة وسطوعا .
تدافعنا على درجات السلم كنت اشعر باحتكاك جسمي على الدرجات الملساء واحتكاك صوت أختي وهو يخرج تائها، لم انتبه سوى للكلمات الأخيرة التي ختمت بها حديثها:
_ الله يرحمه ويرحم الجميع!
كانت النافذة تهتز بطريقة متواصلة تربك خط السكون المنتشر لاحت لي صورة ارتجافته الأخيرة كما صورتها أمي عند عودتها من بيته وكما انتشرت في أرجاء الخيمة :
_ الروح طلعت بيسر وسهولة ، مسكين ماعلى المجنون حساب ولاعقاب والجنة داره.
رغم أني لم أره من فترة ليست بالطويلة ، غير أنني تذكرت العرج الواضح في مشيته ، الشعر الكثيف الذي يغطي جزءا كبيرا من وجهه ، القواقع والأصداف التي يجمعها بهوس ويفضل قي الوقت نفسه قذف المارة بالحصى التي لاتخطي طريقها أبدا ، كما لم تخطئ الريح الباردة وجهتها وقد تسللت إلى عظامي وتبعها ارتجاف قصير وأنا ألحق بظل أختي الذي أصبح خارج البيت ، كانت تحسب الومضات بمرح مضاعف وكنت اعد الصرخات التي تنبعث من بيته ، كانت قليلة لم تتجاوز أصابع يدي اليمنى ، أقفلت يدي بسرعة ، لكزت أختي بقوة ، سحبتها إلى البيت ، وقفنا بجوار النافذة كان صوت أمي يعلو بالدعاء والاستغفار وصوت أخي يعلو بطلب طعام العشاء و الرعد يزمجر بشراسة في الخارج ، لم يصلني في تلك اللحظات سوى صوت أختي الواهن وهي تؤكد نقصان البرق وشدته ، لم أجبها كما لم يجيب على سؤالي ذلك اليوم ، عندما مددت له يدي لانفض التراب الذي غطى رأسه النصف حليق ، نظر إلي بعينيه الناعستين لم يتكلم ، استمر في تخبئة الأصداف في طيات ملابسه تاركا التراب يدخل في مساماته.
عاد صوت أمي تحدثت عن خفة جسده وهو يحمل على الأكتاف :
_ كان خفيفا كالريشة .
ورغم الهدوء الذي لف الخارج في تلك اللحظات كان صوت أمي غير واضح وهي تعلق على تصرف عمته المشين التي جمعت ملابسه بطريقة سريعة ورمتها في كيس كبير وأضافت:
_ مسكين "علي" مجهول في الدنيا، معروف في الآخرة، وواصلت الاستغفار.
واصل عقلي هضم الصور المنحدرة بلا توقف واشتدت مع اشتداد صوت الريح في الخارج ، الأوراق كانت تتطاير بلا هدى وتلقي بنفسها على الزجاج ،أصوات تحطم أجبرت أمي على الركض نحو المطبخ لتتأكد من أوانيها الثمينة الصور القليلة التي جمعتني" بعلي" لي يبق منها سوى هيئته الرثة ، الزبد الذي يغطي شفتيه وينحدر ليسيل على ملابسه ، انحناء يديه اليمنى ، التصدع استمر لفترة طويلة لم انتبه خلالها سوى لهمهمة أختي واستغفار أمي من الذنوب وأكل أموال اليتامى والمجانين وذكرها عمة "علي" بالتلميح تارة والتصريح تارة أخرى.
حدقت في النافذة فكرت في قبره ، هل ستهدأ الريح عندما يدفن؟! هل يبتسم الآن في قبره؟!حاولت النظر للنافذة لولا الصراخ الذي انفجر من فم أخي عندما ساد الظلام على البيت واستمر صفير الريح باستمرار حديث أمي عن الريح والعقاب مؤكدة حديثها بسرقة أموال "علي" وتعقيبها على الحادث بتنهيدة حارقة .
_ مسكين يعطيه الناس الطيبين وكله يروح في بطن عمته.
أعادني الظلام المحيط بنا إلى وجه عمته كان حالكا بشكل كبير ، لم ارتح لها منذ البداية رغم انه لم يجري أي حديث بيننا وأرجعت الأمر إلى ثرثرة أمي المتواصلة والأحاديث الثقيلة التي تدور حولها ، انمحى كل شئ بعدما ساد الظلام ووضعت أمي رأسها وهدأ صخب أختي وبقيت أنظر إلى النافذة كما نظر "علي" إلى الخارج ، ورمى أصدافه بعشوائية وارتجف ارتجافته الأخيرة والصامتة.