واصل مسيره شعر بحزن آخر يقرع رأسه حين لاحت له صورة يده وهو يسرق ريالا كاملا من جيب دشداشة أبيه النائم ، رغم أنه اشترى بالريال ماكان يشتهي إلا إن تلك الغصة التي ولدت مرتين منعته من النوم ليومين كاملين ، غصة واحدة نمت حين بكت أمه بعدما اتُهِمت بسرقة المال وثانية خرجت عنوة بعدما شرحت المعلمة جزاء السارق بإسهاب ويده التي تقطع والعار الذي يلاحق السارق طول حياته حينها أمسك بيده طويلا وخاف أن تقطع وبكى مطولا على وسادته بلا صوت!
حرك جسده على الرصيف زاره صوت آخرهو يستعيد فرحته براتبه ونقوده ، لاح له وجه أخته الصغيرة"ملاك" تمنت دمية جديدة ، شعر بسعادتها حين ستمسك بالدمية وتتصور نفسها عروسا صغيرة كما أنه سيحاول تجميع مبلغ محدد كل شهر ليصبح قادرا على الزواج ب" وفاء" ، أحس بالأرض تشاركه فرحته رغم الجو الحار الذي أجبر الأجساد الأخرى على الاختباء تحت الظلال وعلى مسح عرق كثيف بشكل شبه دائم.
نظر إلى محلات الأقمشة الكثيرة المتراصة بكثرة في كل أرجاء السوق أراد أن يشتري لأمه قطعة ثياب جديدة لابد أنها ستفرح وستقرب – كعادتها- جبهته من فمها الصغير وسترفع يدها للسماء وتمطره بدعاء عريض، غير فكرته عندما تذكر جهله الكبير بملابس النساء ورأى أن مبلغ المال سيكون أفضل في يد والدته بعدما ضن عليها الزمن بمال أو قطعة ذهب تتزين بها ، سيحاول بعد أن وجد وظيفته التي ستغير مجرى حياته -ولو بالقليل- أن يعوضها عن سنين التعب والأرق ، سيبدأ المال يجري أمام ناظريه وفي يده بعد الحرمان الذي ذاقه من والده ، الذي كان ينثر أمواله على الكل مستثنيا يد زوجته وأفواه صغاره ، تخيل المال بين يديه ويدها عادت إليه الغبطة بشكل أوضح كما أنه ابتسم بشكل أكبر حين رأى قطعة قماش بلون برتقالي تزين وجه أحد المحلات ولكنها كانت على جسد "وفاء" أكثر جمالا وإشراقا يذكر أنه شبهها بالشمس وكتب بيت شعر مزقه في الحال حين تيقن بأن الحب لايمكن ترجمته إلى حروف وكلمات!
كانت صورة "وفاء" وصوت "ملاك" الرقيق يرافق سيره، تجاهل في مشيه الطويل الأجساد التي احتكت به أكثر من مرة كما تجاهل السيارات المسرعة وبوقها العالي الذي يكاد يقضي على النسق الرتيب للأصوات المتداخلة التي تصل إلى أذنه تمنى أن يملك سيارة ، ضحك في سره حين لاحظ كثافة أمانيه وأستوعب أهمية التمهل في كل خطواته .
مر على محلات أخرى للفاكهة عزم على شراء فاكهة ، توقف مطولا عند الموز انتقى أطول الأصناف وأكثرها صفرة ساوم البائع في سعرها ، أدخل يده في جيبه ، لم يجد محفظته ، ادخله في الجيب الثاني أمسك بفراغ عميق شعر بالتوتر والخوف ، اعتذر من البائع لم ينتبه إلى كلامه الكثير انصرف بسرعة كان عقله يتسأل بسرعة عن محفظته الجلدية هل سقطت بجانب آلة الصرف ؟!، هل كان متأكدا من وضعها في جيبه؟! ، شعر بحرقة الرصيف وهو يصوب عينه في كل الأرجاء بدأت الرؤية تصبح أكثر ضبابية شعر بالاختناق أكثر من مرة ، وصل إلى آلة السحب لم يجد سوى خواء واسع يحيط بالمكان نظر من حوله أكثر من مرة سأل عامل أسيوي مر بجانبه أعطاه هزة رأس كبيرة ، عاوده الاختناق ذبلت أمامه صورة "ملاك" و"وفاء"واختفى وجه "أمه" بسرعة ، بدأ بالسير على الرصيف نظر إلى خيوط العرق في يده ولم يجد سوى خيبة واسعة تطارد خطواته وسراب يكتسح مشيته الحزينة وسار وكانت الشمس أكثر حدة والاختناق يسيطر على كل مشاعره .