رائحــــة ُ الـبـِّــلْ
كان أبي يحبُّ البحرَ، ويحبُّ مسقط َ الساحلية أكثر لذلك لم يسافر..، كان أبو العم مرزوق يحب مسقط الساحلية، ويحب البحر أكثر لذلك سافر...، وأنا ما عدتُ أعرفُ: هل أحبُّ البحرَ أم مسقط الساحلية.. أم رائحة البِّلِ أكثر؟!...
**
في البدء كانت الأرضُ رتقًا.. يتكدسُ حبلها المتكور في احشائها، وهم يُـقْـْـبِلونَ من تحت سهل الجبل الأسود.. تتقاطر القافلة وراء الكبير. ينسابون مع الغبشة باتجاه المدينة.. يحملون كل شيء: سمنا، وعسلا، وما تجود به عمتهم النخلة...
كان نشاز الأصوات وتداخلها عاليًا.. كلُّ شيء صحا باكرا، وصوت المؤذن يأتي من منتصف القرية مبشرا بحي على الفلاح.. بعد أن نفضتُ بقايا الوسن عن عينيّ كررت محاولتي في لف الإزار كما تعلمته من أبي.. صحت مزارع الليمون والنخل بتثاقل على وقع الندى الغبشي المسكون باحلكاك يكاد أن ينقشع.. كان امتداد رائحة البل هي دليلي الوحيد للمسجد.. حين عدت رفقة أبي كانت أمي قد انتهت من إعداد الشاي، والقهوة التي لها طعم الليل، ورائحة الهيل...
**
سنخفي الكثير عن الدرك في المعوشري (قال كبيرهم).. بيد أنه لم يسمح لهم بالدخول ذلك المساء.. قرروا المبيت في الوادي...
كان نزل (المسافر خانه) أشبه بعرصة تتراص الجثث فيه بتهالك من صباحات الزعيق كأكوام طحنتها ظهيرة مسقط الحارة كانت تستلقي مستوية من الكد وإن لم تكن متساوية في كل شيء عادة.. كان ذلك أول العهد بمسقط...
(حيْ..حيْ) كان صوته يسبقه وهو يأتي راكضا وحيدا من البعيد.. البعيد عن مسقط.. يعيش منزويا.. هاربا.. من صخب المدينة كما يقول أبي، وكان يحبه ويستأنسه كبقايا هر...
بعد فترة الفته أيضا.. سمعته في خلوته يوما، وهو يمشي غير حاس بوجودي:
- يعتقدون أنني مجنون.. بل هم المجانين..
مرة سألته من أين يأتي راكضا، ومع من يقيم.. ربَّتَ على كتفي وقال:
- أنتَ صغيرٌ يابني لا تتدرك بعد معنى أن يلتفَ الحضارُ على القت..(حي..حي)...
في المساءات التي ادركها العم مرزوق، كان يهرب من غصة السيارات بين زوايا ما انفجر من الرتق الأول على شكل أشياء بأحجام متعددة ( لا شكل لهذا الدمار.. أي فجائية مميتة.. أي روح هي التي تعيش داخلك أيها المنتعل مدى الترحال.. قال ذلك بعد أن أرسل إلى جوفه جرعة من قنينة صغيرة جحظت عيناه على إثرها).. في الجمعة التالية رأيته حليق الذقن يذهب إلى الجامع.. لكنني باغته بعيد ذلك وهو يحتسي من ذلك المشروب العجيب ذي القوة الهائلة للرجال! (كما قال)..
كان يخاطبني ناصحا: ستتعلم كثيرا.. جائز، وستحوز شهادات..ربما، ولكن – يا بني – عليك ألاّ تنسى رجلا كان يأتي من البعيد راكضا.. كان يتحدثُ بلين مرة، وبقسوة عادة:
- أنا مثلكم - أيها الفتى الغض - لي رئحة الأرض، وعبق الماضي.. كان أجدادي يأتون من قرية أبعد من قرية أبيك إلى الجانب المقابل، وكان أبي واحدا من أنشط المزارعين.. يأتي بالرمان، والسفرجل، وماء الورد، والعسل.. كان أبي يحب مسقط الساحلية كثيرًا، ويحب البحر أكثر.. أنا كذلك - أيها الفتى – أحب البحر، ولكن أبي هاجر إلى البحر ذات قيظ ولم يعد...
كان يقول ذلك، وينظر إلى الطاحونة العالية الكبيرة ثم إليّ، ويحذرني:
- أيها الفتى الغض: يجب ألاّ تكونَ مثل الطاحونة دائمة الدوران كثور مغمض العينيين!!
كانت الطاحونة المشرفة على سوق المواشي في مطرح عالية وعملاقة.. تطلعتُ إلى عليائها وهي تدور.. تخالطت في عقلي: أصوات رغاء البهائم، وأصوات الخلق، والدلالون الذين يتفانون في استخلاص الأثمان لأرباب السلع.. ظللتُ أرمق تلك الطاحونة العملاقة صباح ذلك اليوم: ثم انتفضت قائما وعاهدتُ نفسي ألا أكونَ مثل الطاحونة...
**
في البدء: كانت الأرض رتقـًا، والشواوي يجيئون بحبل الأرض المتكور في احشائها على الجمال.. كانت الأرض كذلك رتقـًا لابنائها، وبغتة انفجرت!.. انفجرَ كلّ شيء فيها: تزاحم الغرباءُ بروائحهم النتنه مع ابنائها بروائح البل...
كان أبي يحبُ البحر كثيرا، ويحب مسقط أكثر لذلك لم يرحل إلى البعيد كالآخرين.. لكنه لم يعد إلى قريته تحت سهل الجبل الأسود المكتظ قيظه: برائحة البل، وطلع النخيل...
بدتْ صباحاتُ مسقط َالقائظه تغسل المتبقي من يود البحر في رئتي الممتلئتين بنقائه، وبرطوبة الصيف الليلة.. هذه العمارات التي انفجرتْ على اشكال، واحجام متعددة تحوي الآف الأنفاس الغريبة تزاحم في تفجرها رائحة ابناء البل، بروائح الغرباء...
كان بونًـًا شاسعـًا يتسع بين مشاوري الرجولية، والطفل الذي كنته.. يا لهذه المشاوير التي جعلتني كشيء لا بد من فصده الآن!...
ما الذي تغير في تقنين مساري؟!.. لا الطيبة ُ بقيتْ، ولا الأحبابُ ظلوا.. لا الماضي يعودُ، ولا الحاضر يـُبصر، وكان العم مرزوق يحب رائحة لبان الذكر كثيرا أيام الشتاء، ويقضي نهاراته متنقلا: بين قهاوي مسقط القديمة، وبين دلالي مطرح وطاحونتهم العتيقه...
كان صوتُ العم مرزوق يأتي من البعيد يوقظ فيّ ما تبقى من ذاكرة الفتى:
- (حي..حي).. حسبكَ ما ولغ في كأسك، وحسبك ما ولغت من ترهل الشعور – أيها الفتى الذي كان غضـًا -، وماعدتُ فتى، وما عادَ هنالك من شعور.. أصبحتُ أحسُ كأنني ثور مغمض العينيين لكن ما عدتُ أدور...
كنتُ أحبُّ البحرَ، وأحبُّ مسقط الساحلية، وأحب رائحة البل لكنني ما عدتُ سوى بقايا ثور مغمض العينين...
|