المقبرة
عندما يتآلف الحيز بظُلمات الليل، وتُسبى الشمس نازحة إلى
مغربها، يتآكل طرف اليوم بتطاول العتمة لتنال ذيل النهار الذي يجثو بآخر رمق، فينزلق
بعيدا عن الليل، مستدعيا الظلام بحُلته القاتمة.... حينها؛ تبهت ملامح الحقائق
بأسرها، ويتلاشى الضجيج ليُحل بصمتٍ مرعب؛ ذاك الذي ينشر الذعر والهلع في كافة
الأرجاء، وخاصة في أحدى تلك القرى الواقعة بين مساحات ممتدة من مقبرة قديمة ومهجورة.
حيث يقطنها آلاف الأموات من مختلف الأجناس، ولكن أغلبهم كانوا من أولئك الجنود،
الذين تحاربوا وتناضلوا فيما سبق على هذه الأراضي ليستحوذوا عليها. لكن وبالمقابل؛
فان هذه الأراضي نفسها هي من استحوذت على أجسادهم الميتة وامتلكتها، حين تحولوا
جميعهم إلى جثث متناثرة ومدفونة بها، وبسبب كثرة أعداد هذه القبور أصبحت شخصياتها
غير معروفة، بل وبالأدق مجهولة ومبهمة تماما، وعلى مر القرون تناسى الناس فقدان
هوية الموتى ولم يعد الاكتراث أو الفضول يثيرهم للبحث وراء هذا المجهول، وجل ما
فعلوه هو إنهم أحاطوا هذه المساحات الشاسعة من القبور بسياج ضخم ليعيق أي مخلوق من
الدخول إليها أو الخروج منها.....
وقد سرت حكاية غريبة قبل خمسين سنة وربما تزيد، عن عجوز منهارة
، عاشت في بؤس وشقاء، إذ فقدت أبنائها الخمسة من جراء تلك المعارك الدموية، وظلت
تدّعي لفترة ليست بقصيرة؛ بان أبنائها من الجنود يتسللون إليها تحت جنح الليل ويقيمون
لها حفلات ويباغتون خيالاتها بزيارات جنونية عابثين بعقلها إلى إن فقدته تماما،
وأصبحت خرقاء يُسخر منها، ويستهزأ بها كلا من الصغار والكبار ذي مراتٍ عديدة.
في الآونة الأخيرة، وبعد سكون عقود طويلة عاشتها القرية
باطمئنان، لاحظ أحد المارة بجانب المقبرة، تصاعد أبخرة تُوحي بوجود نار، ربما قد
أشعلها أحدهم عن قصد، ولكن الذعر شله هربا دون الكشف عن حقيقة الأمر آنذاك....
ولعدة مرات متتالية خُيل للعديد من أهالي القرية تكرار
الحركة والجلبة من تلك النواحي المتوغلة بين القبور، ولكن لم يكن أحدهم يجرؤ لاستقصاء
عن ما يجري...
وكان كل ما شاهدوه في ضوء النهار هو منظر لأحد القبور
المفتوحة، الذي خمنوا متفقين في خوفهم، بأنه ولعل أحد الموتى قد شرد منها شبحا.
ومما زاد الأمرُ تعقيدا حالة حارس القبور الذي أصيب بحمى من فرط روعه، مما أوقعه
صريعا لهواجس وهذيان سلبته قدرة الكلام، كما وتعذر عليه تقديم أية تفسير لما حدث
معه، وقد بدا عليه معرفة حقيقة ما يجهله الآخرون، لكن ومن خلال هذيانه كان يتمتم بتخاريف
لم تكن مقنعة في سرد الحكاية الدائرة عن القبر المنبوش.
في اليوم التالي، اجتمعت القرية وقررت أن يتم انتخاب
رجال ذوي شجاعة وفطنة ليحللوا هذا الغموض.
فولجوا في منتصف الليل إلى المقبرة للمراقبة والمعاينة،
وبعد عدة ساعات من الخوف والرعب تجمدوا فيها صبرا وانتظارا، تراءى لهم ظلا أو
خيالا قصيرا بدأ يقترب منهم رويدا رويدا، إلى إن عبر مباشرة من إمامهم ساحبا جثة
ضخمة، وكان الظل يبكي وينتحب بشدة مصدرا صدى لدوي أشبه بأصوات الأرواح الضالة
والأشباح.
وقد كان على ما يبدو؛ بان الظل إنما هو لصبي يرغب بدفن
الجثة في جوف القبر المفتوح الذي بالكاد استطاع أن يحفره. واتضح لهم فيما بعد بان
الصبي ووالده المتوفي كانا من الرحالة المسافرين الذين لا يستقر بهم مكان أو زمان،
وقد اتخذا من المقبرة مأوى لهما لعدة أيام، بعد إن ضلا فيها ولم يستطيعا النفاذ من
التيه بها.
إشــــــراق
|