فطومة
المشي بكل هذا البطء والثقل لا يجدي نفعا،
لهذا فقد أسرعت الخطى بالرغم من تعبها الشديد. بدأت ترى كل الأشياء اليوم أصغر
فأصغر.... لا
تدري لماذا بدأت الأشياء تصغر في نظرها ومن بين
يديها؟!.... فلا يمكن أن تكون يداها قد كبرتا! ولكن الأرجح؛ بأن نظرها قد ضعف
كثيرا من الدراسة والواجبات المدرسية تلك! تفكر فطومة بهذا، بينما هي في
طريقها، عائدة إلى البيت مشياً....
بدأت تلهث، وتتنفس بصعوبة بالغة تعيقها عن
مواصلة السير. فجأة؛ وجدت متسعاً من الفرح عندما وقع نظرها على كرسي في جانب
الرصيف وعلى
مواجهة الطريق.... فهنا؛ يمكنها الجلوس
والاستراحة قليلا، ومن ثم متابعة السير مجددا. سارعت الخطى إلى حيث الكرسي، ولكنها
ذعرت عندما لمحت قطة سوداء قابعة، ممتدة بكسل أسفل الكرسي المبني من الاسمنت. رمقتها
بنظرة حذرة لا تخلو من الاشمئزاز، وفي اللحظات القليلة التالية، تبادلا نظرات تحدٍ
وخوف، شردت القطة على أثر هذه الحرب الباردة بالعيون،
وتسللت بعيدا إلى حيث الأشجار الكثيفة على الجانب الآخر من الطريق، ونطّت تقطع
الشارع بسرعة ومهارة بين أسراب السيارات المتحركة كسيول جارفة لا تتوقف ضجتها
المرورية.......
نظرت فطومة إلى حيث اختفاء القطة بسرور،
يمكنها الآن أن تستأثر بالكرسي لوحدها، دون شريك أو رفيق يزعجها. جلست تراقب
المرور المكتظ بالناس والسيارات بألوانها وأحجامها المتنوعة.
فجأة؛ ابتسمت وتذكرت شيئا ما أسعدها كثيرا،
فتحت حقيبتها المدرسية على عجل، وأخذت تنبش بين الحاجيات، إلى أن أخرجت مغلفا يحوي
طعاما لم تأكله في المدرسة. فقد اعتادت كل صباح أن تطلب من الخادمة إعداد سندوتشات
مختلفة تأخذها معها، إذ يمكن أن تتناولها بسهولة دون
التزاحم على المقصف، وسط الطالبات كثيرات
العدد اللاتي يهرعن من أجل الشراء، بعد أن يقرصهن الجوع في الفسحة المدرسية، ولحسن
حظها اليوم؛ كانت منشغلة بنقل الدرس ولم تستطع إكمال كل الطعام، ولكن يمكنها أن
تكمله الآن بينما هي تقضي استراحة بسيطة.
تناولت إحداها وبدأت تلتهمها ببطء ومهل، لاحظت
أن أصحاب السيارات شرعوا في التطلع إلى حيث تقعد بكل استغراب وفضول! فكرت انه وقت
الغداء ولابد أنهم جائعون أيضا مثلها...
سرعان ما وقع نظرها على الأرض، حيث تجمعات
نملٍ عديدة على فتات الخبز المبعثرة التي تناثرت منها، بينما هي تأكل دون انتباه.
أعجبها منظر انتظام النمل على الأرض في محاولة
نقل جزيئات الخبز إلى مخبئها، مما زاد من
حماستها وبدأت تلقي بالمزيد منه، أبدت فطومة سعادة كبيرة لأن أحداً ما يشاطرها
متعة الطعام والمكان.....
في نصف الساعة التالية؛ كانت تراقب دون حراك
بكل شغف ودهشة إلى اختفاء كل بقايا الخبز التي نقلتها تجمعات النمل على ظهرها بكل
نظام إلى حفرة صغيرة لا تبعد عنها كثيرا، ومعها اختفى أي اثر للنمل أيضا، ومع آخر نملة هوت إلى الحفرة انتبهت فطومة إلى أنها
يجب أن تعود إلى البيت فورا...
حملت الحقيبة ومشت بتثاقل مرة أخرى، وأسرعت الخطى
بالرغم من تعبها الشديد، وبينما تمشي بدأت تنظر إلى حذائها الرياضي الأبيض المريح،
الذي اشترته لها والدتها خصيصا من أجل حصة الرياضة لهذا
الصباح، ولكن كان الأمر مخيبا لها، فقد أُجبرت على الجلوس في الاحتياط، ولم تشارك
الفتيات في لعب كرة السلة، إذ إن المدربة اختارت فتيات معينات للعب
دون البقية.....بينما الأخريات مثلها اكتفين بالمشاهدة فقط.. ساءها الأمر في
البداية، ولكنها تحب دائما التفكير بايجابية؛ حيث أقنعت نفسها بأن هذه فرصة
مناسبة لها لتأخذ قسطاً من الراحة، وتجلس للتفرج على مباراة قد تشهد عنفاً وقوة
صبيانية بين اللاعبات، وابتسمت لنفسها فهي فتاة رقيقة ولطيفة
ولا تحب العاب القوى والعنف من الأساس، ومحال أن تكون لعبة كرة السلة تصلح لها،
فالمؤكد إنها إهانة لرقتها ولبراءتها...
تعبت كثيرا وهي تمشي بخطوات متثاقلة التي
بدأت تثقل أكثر فأكثر، وها هي الأشياء تبدو في نظرها أصغر فأصغر مجددا، لا تدري
لماذا!!... ولكن ما زالت لا تظن أن يديها قد كبرتا، بل الأرجح انه ربما
قل نظرها وضعف. عندما تعود إلى البيت ستطلب من والدتها أن تصطحبها في زيارة إلى
طبيب عيون، لعله يجد حلاً لهذه المشكلة الغريبة التي طرأت
عليها بين ليلة وضحاها. أعجبت فطومة بنفسها وبذكائها، فهي دائما تحب الاهتمام
بصحتها....
أصبح الطريق إلى البيت أطول من المعتاد،
أخذت تنظر إلى كافة الاتجاهات متسائلة بغرابة: أهو نفس طريق العودة التي تسلكه كل
يوم؟! شرعت تنظر إلى أعمدة الإنارة، البيوت، المحلات والأسواق..
زفرت تنهيدة راحة واطمئنان، نعم انه نفس الطريق
المعتاد "سأحاول أن أجري بقوة لعلّي أصل سريعا إلى البيت" تكلم نفسها بينما أطلقت العنان
لقدميها لتنطلقا بالجري والعدو... يا الهي! لقد نسيت تماما إن حقيبتها أثقل من
المعتاد، فأصبحت هي الأخرى تعيق حركتها ومشيتها وكل شيء.
لابد أنها تغافلت وأخذت كل كتبها معها، دون التركيز
على الجدول الدراسي المحدد لهذا اليوم فقط.... امتلأت حنقا على الخادمة، فهذا بالتأكيد من عملها الغبي! ستوبخها
إذا رجعت للبيت، وتفرغ حقيبتها بما فيها على رأسها لتفهم وتستوعب، أغضبها الأمر
بشدة وهي تفكر هكذا....
"فطومة .. فطومة"
سمعت صوتا ما يناديها، نظرت إلى حيث الجانب الذي يأتي منه الصوت، إنها هي السيدة
العجوز تلك! وقد فتحت باب الفناء الخارجي لمنزلها، راكضة كالبرق نحوها، مرعبة بضحكتها التي
تكشف عن فراغ فمها إلا من سن يتيم علوي وآخر سفلي، مخيفان هما الاثنان. يااااه كم تفزعها
وجوه العجائز الكبيرات بالسن!....ما هذا النحس اليوم! فقد تأخرت على
البيت، وها هي العجوز ستصل قريبا إليها، وتغرقها بقبلات مبللة وأحضان عنيفة، وسوف
تعصرها من شدة شغفها بالأطفال......
وما هي لحظات إلا ووجدت نفسها محاطة بالعجوز
وتحت رحمتها، وفعلا بدأت بتقبيلها ولثمها بقوة....بدأت فطومة تمسح خديها من آثار
القبل وهي متضايقة كثيرا، وسمعت العجوز تقول لها: يا الهي لقد كبرتِ
كثيرا، ماذا فعلتِ بنفسك؟! نظرت لها فطومة ببلادة، وابتسمت بسذاجة وصمت، فهي تريد
الفكاك بسرعة من هذه العجوز، لن ترد عليها بل ستعتذر لها الآن، وتغادر
حالا.
وقبل أن تنطق بأية كلمة، سألتها العجوز: هيا
معي إلى البيت صنعتُ كعكا لذيذا قبل قليل، أتودين تذوقه؟ لم تتطلب الموافقة من فطومة أية مجهودٍ يُذكر، فقد وافقت
على الفور وبابتسامة كبيرة مرحبة بذلك. مشت بخفة ونشاط خلف العجوز الطيبة وهي
تتخيل الكعك بالشوكولا وهو المفضل لديها على الإطلاق.
دخلت إلى البيت، ورأت على الطاولة كعكا كبيرا،
فأسرعت بالجلوس على الكرسي المقابل له تماما، ونظرت إلى العجوز الطيبة، وهي تقطع
لها الكعك. "أرجو أن تقطعي لي جزءاً كبيراً، فهذا الصنف المفضل
لدي" طلبت منها فطومة ذلك..... ابتسمت العجوز لها، وبدأت سنتها اليتيمة
العلوية والأخرى السفلية بالظهور مرة أخرى، رأفت فطومة لحالها تفكر:
يا ترى كيف تستطيع الأكل باستخدامهما فقط، لا بد وإنها تعاني كثيرا عند تناول
الطعام!.....
قطعت لها العجوز قطعة كبيرة ووضعتها في الصحن أمامها، أكلت
فطومة بنهم وشهية ولذة بالغة إلى أن أنهتها كلها، وفكرت في تناول قطعة أخرى، ولكنها
تراجعت حين تذكرت والدتها، لابد وان الجميع قلق عليها كثيرا في
البيت. استأذنت فطومة من العجوز، طبعت قبلة على رأسها،
ورحلت بسرعة وهي تفكر كم هي طيبة هذه العجوز المسكينة!
مجددا تحس بثقل في سيرها، وقد باغتها اللهاث
مرة أخرى، حاولت أن تجري، ولكنها تعثرت بنفسها عبثا، وكادت أن تقع. تبدو الأشياء
صغيرة في نظرها، بينما الطريق يبدو طويلا ومريرا، وكأنها في احد قوافل الرحالة في
صحراء قاحلة دون ماء أو طعام، فقط الزمن يمضي بينما لا يتحرك الطريق....
أخذ منها التعب كل مأخذ؛ إلى أن رأت سيارة زرقاء
وقفت بجانبها تماما. هللت فرحة، ابتسمت بإعياء لوالدها الذي بدا عليه الغضب قليلا،
ولكنها لم تكترث لغضبه، فهي تعبة لحد التجاهل..... سألها والدها:
لماذا تأخرتِ؟ ردت عليه: لقد كنت تعبة من المشي ومرهقة يا والدي، فالطريق طويلة
ويبدو إنني مريضة اليوم.
تمتم والدها بامتعاض: وكأنكِ لأول مرةٍ
تمشين في هذا الطريق؟!
ردت عليه: لا يا والدي، ولكني مريضة، ولاحظت
أن نظري ضعف كثيرا، ولا استطيع رؤية الأشياء بوضوحٍ تام....
سكت والدها ولم يتكلم، يبدو أن فطومة أقنعته
بحجتها السديدة.
دخلا البيت، ووجدا الأم في انتظارهما، وعلى
طاولة الغداء، سألتها الوالدة: لماذا تأخرتِ اليوم بالمجيء؟
ردت عليها فطومة: تعرفين يا ماما إن الطريق
طويلة، وأظن إني مريضة اليوم، فلم اعد أبصر جيدا، فالأشياء تبدو لي صغيرة
وبعيدة......
انطلقت ضحكة قوية من حمود، أخاها الذي
يصغرها بعامين، قائلا بكل سخرية: هذا لأنك تكبرين حجما يوما بعد الآخر..هاهاهاها..
واستأنف ضحكاته المجلجلة دون انقطاع، وبدت أختها شيماء الأكبر منها سنا تواري
ابتسامتها، التي تكاد أن تكون ابتسامة سخرية هي الأخرى....
امتلأت فطومة بالغضب وهي تصيح في حمود: عيب
يا حمود، ماذا تقصد؟
تكلمت والدتها قائلة: سنرى في أمرك لاحقا،
يبدو انك تحتاجين إلى نظامٍ غذائيٍ مناسب منذ الغد...
أضافت فطومة قبل أن تنسحب: ولكنني مريضة حقا
يا أمي..... ثم توارت بحزن إلى الممر حيث غرفة نومها....
فتحت خزانة الثياب، وسحبت كرسياً لتقف عليه
وتصل إلى الرف العلوي، امتدت يدها لتتناول كرتوناً صغيراً يحوي فستانا كبيرا،
أهدته لها خالتها قبل شهرين، وكان واسعا جدا عليها، فاضطرت إلى رفعه
ريثما تكبر قليلا ويكون على مقاسها، ربما بعد سنة أو تزيد.... شرعت في محاولة لبسه
دون جدوى، فشلت في إدخال نفسها فيه ولو بقوة..... تطلعت في
المرآة، وفكرت قليلا، حقا إن حموداً على حق. لهذا بدأت الأشياء تصغر بين يديها
إذن، والأرجح أن نظرها ليس به عطب.... ربما هي بالفعل تحتاج إلى
نظام غذائي كما تقول والدتها، ثم جلست على الكرسي بحزن وهي جائعة دون غداء.....
إشراق