الظل الكبير
كنت أسوق عربتي الهزيلة البيضاء على الطريق الإسفلتي الواسع جدا ..نارالشمس تكاد تصيبني باغماءة .
آاااه لهذا المكيف الذي يئز ويئن كعجوز محتضر ..
إن الزجاج المحيط متواطئ مع الشمس لكي تشويني.. خاصة عبر نافذتي التي بلغت قمة التواطؤ واللؤم .. فسياط الشمس تأتي منها مباشرة إلى جانب وجهي وكتفي الأيسر, وتمتد إلى باقي جسمي.
فتحت النافذة لعل بعض النسيمات الرطبة تجعل المكيف في حالة أفضل .. لكنني لم أكن أدري أن المؤامرة ستكتمل.. فضجيج الشارع أصم أذني .. وحرارة الشمس ألهبتني ..لم أعد أحس إلا أنني أسير في طريق داخل جهنم .
لم أرد أن أسرع هربا خوفا من انفجار مطاط عجلات عربتي الهزيلة .. فانتقلت ببطء إلى أقصى اليمين.. تركت مكاني لتعربد فيه أجمل العربات وأزهاها ..
من المؤكد أن مفهوم الجحيم نسبي بيني وبين أصحابها الذين يمرقون بسرعة البرق .. بينما الزجاج الأسمر في عرباتهم يزيدهم بعدا عني وعن جحيمي .. فيكفيني منهم الضجيج العالي لعجلات عرباتهم الفارهة .
يااااه .. ما هذا الظل ؟ ما هذا الهدوء ؟
لحظه هدوء وظل ؟ من أين ؟ إنها تستوعبني .. تحجز عني سياط الشمس اللاهبة .. تحتوي عربتي بالكامل .. بل أكثر .. فيمتد الظل الجميل .. أمامها وخلفها لمسافة جيدة ..
أحسست بانقطاع عجيب عن الجحيم وضجيجه .. انقطاع جعلني أحس ببرودة المكيف المتهالك .. فقد هدأ صوته وقويت نسمته وتآزرت ، وقد بدأت النوافذ تنقل نسمات عليلة تحت الظل الكبير الذي انغمرت فيه بالكامل ..
التفت إلى المصدر بتشوق استنفذني ..إنه بجانبي .. قريب مني ..فعلى يساري شاحنه ضخمة تحجز عني الضوضاء .. والسياط العنيدة ..
يا سلااااام ..يجب أن أفعل شيئا.. يجب .
الثقة في داخلي على مماشاة الشاحنة إلى نهاية الطريق الطويل والممل تأخذ مكانها. مماشاة في ظلها جعلتني أنسى ألمي قبل لحظات .. أنسى ازدرائي لعربتي المسكينة ولنفسي التائهة في هذا الجحيم ..مماشاة ملأت نفسي عواطف وحبا لما كنت ألعنه في سري قبل لحظات .. لحظات حولت العالم حولي من جحيم إلى جنه .. جحيم كاد يدمرني ويضعني على عتبة الجنون .. نعم إلى جنة أتمنى أن تطول .. فالطريق الطويل أصبح وقتا طيبا ممتعا أقضيه تحت الظل الكبير .. ظل الشاحنة الكبيرة .. العظيمة.
لحظات حولتني من تعيسة إلى سعيدة تريد أن تغمر هذا الكون الواسع رغم كل منغصاته بحب كبير.. كبير..
اقتربنا سويا من الدوار .. الثقة في داخلي بالبقاء تحت الظل الكبير تزداد .. إلى آخر لحظه من العمر .. هناك كيلومترات أخرى بعد الدوار ولا بد أن أقطعها في الظل .. الحنان والأمان اللذين فاضا عليّ .. فجرا بداخلي ينابيع الحب والعطاء .
كان دوارا عريضا , عندما دخلنا في مجاله كنت في حالة إصرار شديد على أن أسير بالتوازي مع الشاحنة .. ففي الطريق متسع .. وسياط الجحيم والضجيج ما تزال تتربص بي.
بدأنا بالالتفاف معا .. بل تقدمت بعربتي قليلا .. حتى أكون في مجال نظر صاحبها مثلما أنا في مجال ظله.. . ربما لطارئ ما.. هكذا هجست لي نفسي الكثيرة الهواجس .
بينما أنا في حالة لوم نفسي على هواجسها المضنية .. إذا بي أشعر بهزه خفيفة ..
ما هذا ؟ ما بها عربتي ؟ لقد تعثرت ؟ هل هناك وسخ ما توقف في ممرات الوقود فأخذت تكح وتتعثر؟
وإذا هزه أخرى , وكأن يدا رفعت عربتي من الخلف و دفعتها دفعه قويه حطت بها على الأرض .. هزه ثالثه أقوى .. فاليد أمسكتها وصارت تدفعها بقسوة ، بقوة ..
قفز قلبي إلى فمي ..يداي ترتعشان .. كذلك قدماي ..الدفعات تقوى .. وعربتي تترنح بقوة .. بقسوة.. أخرج من الظل ..سياط الجحيم ..
الدفعات تزداد قسوة .. عنفا .. رأسي تضرب في المقود .. قدماي لا أستطيع تحريكها .. ذراعي .. آه .. آه .. لا..لا.. الجحيم . و..ويضرب رأسي بشدة في المقود.. بعنف .. وتظلم الدنيا حولي.
فتحت عيني بألم شديد .. مطارق شديدة تفري دماغي .. قدماي مربوطتان ومعلقتان إلى شيء عجيب.. ذراعي ملفوفة لا أستطيع تحريكها ..بقعه كبيرة من الدم عليها .. المطارق ماتزال تهوي.. رفعت يدي الأخرى بضعف إلى رأسي لأوقف المطارق .. رأسي مربوطة بقطعه قماش رطبه تتحسسها يدي.. ما هذا ؟ بقعة أخرى كبيره من الدم .. تراجعت يدي بوهن يائس..
آآآآآآخ .. تفجرت عيناي بالدمع ..آخ .. الظل الكبير .. هل كان الأمر يستحق هذا العقاب .
وقع أقدام تقترب من غرفتي جعلتني أمسح دموعي بسرعة.
· الحمد لـله على سلامتك .. لقد نجوت بأعجوبة.. فعربتك انقلبت بقوة شديدة .. لم تعد تصلح لشيء .. لكن لا بأس .. إن شاء اللـه تعوضيها ..
نظرت بعينين مكدودتين إلى الشرطيين .
· ما الأمر؟
· لاشيء .. فقد أردنا أخذ أقوالك .. رغم أن المخالفة واضحة .. واضحة جدا .. لكن لأجل الروتين الاعتيادي .. وكذلك لتثبيت حق صاحب الشاحنة لتصلحي ما أصابها من تلف .
· مخالفه .. تلف .. مخالفه ماذا يا سيدي؟ وتلف ماذا ؟
· مخالفتك لك أنت .. فقد ارتكبت مخالفة كبيرة بحق الشاحنة وصاحبها .
· وهل قطعة الحديد الكبيرة هذه أصابها تلف ؟
· خارجيا لا يبدو عليها أي تلف .. فهي قويه .. كبيرة .. صلدة .. لكن ربما داخليا .. وصاحبها يحق له أن يطالبك بتحمل مسئولية التلف إذا ظهر بعد ذلك .
· وكيف سيتأكد صاحبها من التلف إن لم يظهر الآن ؟
· لا ندري .. لكن يجب إثبات حقه القانوني .
· وأنا يا سيدي ؟ عظامي المكسورة ؟ ودمائي المسكو...
· صاحب المخالفة ليس له أي حق .
· أية مخالفه ؟ وأية شاحنة ؟ وأي شارع ؟ لقد أردت ظلا كبيرا ..ظلا كبيرا فقط يا سيدي.. ولا شئ آخر ..لا شئ آخر
وانسابت دموعي الكثيرة دون أن أستطيع تمالكها .
|