مهاجر إلى الغرقد
التفت إلى الوراء ، هاله الطابور الطويل خلفه ، أين نهايته يا ترى ؟
يبدو أنه بلا نهاية.. لربما نهايته عبر البحر فوق الأرض الشرقية الصاقعة .
ابتسم وأدار وجهه بفرحة تتفجر من أعماقه مذ أخذ مكانه في هذا الطابور الطويل .
وقف عند الشباك وابتسامة كبيرة تبتلع ملامحه :
- شالـــوم
- شالوم للضيف القــادم
تجمدت الإبتسامة بصقيع الكلمات التي خرقت أذنيه ، تحول وجهه إلى علامة استفهام !
- هه ؟ ضيف ؟؟
هـز الجالس وراء الشباك رأسه مؤكــدا ببرود وإصرار
- شالوم للضيف العزيز
غارت الفرحة في أعماقه ، وتجمدت ملامحه بالاستفهام ..
التفت إلى الوراء وهو يصعد الحافلة مغادرا مطار بن جوريون ، رأى وجوه الطابور الذي يصعد معه الحافلة ، متجمدة مثله على استفهام كبير . لم يستطع استدعاء فرحته الغامرة والحالة تسير به في شــوارع ( تل أبيب ) ولم يستطع الابتسام ، فالاستفهام جمد ملامحه و قتل ابتسامته .
ضيف ؟ ضيف عزيز ؟؟
إذن متى أكون مواطنا صالحا ؟
ألم يروا خطوط الإرهاق قد حفرت خنادقها في وجهي من طول سفرى ؟
ألم يروا جميع حياتي الماضية وقد أحضرتها معي في حقيبتي السمسونايت الأنيقة والغالية ؟
ألم يروا النجمة الغائرة في أعماق عيني بأجنحتـها الستة ؟
في الليل هرب ضاجا من استفزاز الفراش ، لقد فرض نفسه عليه فرضا ، ولكن الفراش الضيق في العنبر الكبير المليء بفرش ضيقة مثله ، تتقلب عليها أنفاس متضايقة مثله ، أعلن رفضه ، فطوحه العنبر .
تنفس في الباحة هواء أعاد إليه إحساسه بالرغبة في نوم مريـح لذيذ ، ولكن على فراش غير ذلك الفراش اللعين .
رجع إلى العنبر ، والاستفهام المتجمد على ملامحه يضغط على صدره ويقطع أنفاسه ،
لماذا لا يعطونه فراشا مريحا ،
لماذا لا يضعونه في غرفة خاصة به تطل نافذتها على أشـجار الغرقد .؟
هرب مرة أخرى من العنبر الكبير المزدحم بالأنفاس المهاجرة وقد قرر نسيان النوم المريح اللذيذ .
عند اجتيازه باب الباحة الخارجي ، صادفه نفس الشخص الذي رآه في شباك المطار ،الحقيقة أنه لم يعد يستطيع التفريق بين الأشكال .
_ إلى أين ذاهب أيها الضيف مع طلوع الفجر ..؟
باغتته الجملة .. انه محق في انه نفس الشخص !
استدار إليه والاستفهام يحز أنفاسه ، لكنه أجاب ساخرا ..
- لأبحث عن فراش يريحني في بيت خاص بي .
باغته مرة أخرى :
- لأول مرة تقول الحق مذ جـئت .
أجاب بنفس سخريته :
- وآنت متى ستقول الحق ؟ ..
رد عليه بنفس ملامحه الباردة ، بينما يداه تتأكدان من وجود شيء ما في جيوبه ..
- أنا لا حاجة بي إلى القول أصلا ، بل أنت الذي بحاجة إلى الفعل .
وبأصابع باردة استخرج ما كان يبحث عنه في جيوبه ، لامس به في هدوء شديد أصابعه المنقبضة ، جفلت أصابعه مما وضعه بينها ، لكنها عادت واحتوتها بإرغام من الأصابع الباردة ، وسرت البرودة إلى أعماقه ..
- أطبق عليه جيدا ، لأنه ملكي .. ولا تنس إن فعلك مرتبط به ، وأنت ذاهب للبحث عن فراشك الخاص المريح في بيتك الخاص بك ، المطل على حديقة الغرقد .
الاستفهام المتجمد على ملامحه ..الحاز في صدره كالسكين توالد إلى آلاف الاستفهامات .. و تجمع في صدره كضباب كثيف تحوطه البرودة السارية إلى أعماقه من كلماته .
أراد أن يستوضح خلال الضباب الذي أطبق عليه ، ولكن الاخر استدار مبتعدا عنه إلى الداخل..
وقبل أن يختفي عن أنظاره تماما ، سمع صوته باردا ، قاسيا كقسوة وبرودة الشيء الذي انطبقت أصابعه عليه...
_ لا تبتعد كثيرا عن الزيتــون .
هز رأسه ، ربما سينقشع الضباب ، فكأنه أمسك بطرف الخيط .
وهو يمشي بين الأبنية الرمادية المتشابهة ، احتوت عيناه مرج زيتون ، بدا له وكأنه نبع من وسط الأبنية الرمادية المتشابهة ، المحاصرة له .
احتضن بؤبؤا عينيه المرج بطفولة جذلة ، لكنه سريعا ما أسقط عينيه إلى داخله ، حيث الضباب المتراكم مؤنبا فرح عينيه الطفولي.
وعندما نظر مرة أخرى ، شاهدت عيناه فتى بكوفية منحنيا على زيتونة خضراء كشلال حياة متدفق ، يسقيها بخرطوم في يده ، بشلال آخر دافق ، وبنغمات ضاحكة متشوقة إلى احتضان جذع الزيتونة والذوبان فيها ،
مارس ضبطا شديدا على نفسه كي لا تنساق عيناه وراء جذلها الطفولي ، بينما تحسست أصابعه فوهة ذلك الشيء البارد القاسي الرابض في يده .
انقشع الضباب مرة واحدة من صدره ، لم يعد يشعر بالاستفهام لتسميته والطابور الطويل الآتي معه بالضيوف .
مزق ضجيج بارد موحش منطلق من فوهة مسدسه ابتسامة الفجر الواسعة ، متجها إلى ظهر الفتى ذي الكوفية .
انبثق فرحه الغائر كبيرا .. كبيرا ، باردا موحشا مثل ذلك الضجيج .
عندما استدار عائدا إلى فراش وثير في بيت كبير خاص به كمواطن صالح ، تحيط به أشجار الغرقد ، لم يهتم بالزيتونة التي اصفرت وسقطت بصوت هائل على جسد الفتى الذي تدثر بكوفية حمراء كبيرة نبعت فائرة من ظهره .
لم يهتم بنضوب الشلال المتدفق من الخرطوم .
أقدامه فقط هي التي أحست بأن الأرض تحتها صارت يابسة متشققة في فجر مقتول الابتسامة.
1991
|