نورا
كانت تتعثر في خطواتها لولا يد معلمتها التي تمسك بيدها بقوة .. جسمها يرتعش وينتفض .. فالحمى تصهرها بحرارتها المنبعثة من وجهها المحمر وكفيها الصغيرتين . عيناها زائغتان.. قد جحظتا من مقلتيهما وبان الرعب الشديد فيهما .. بينما ارتعاش الجفون المبللة بالدموع لا يهدأ .
تسمرت أمام الباب وهي ترى أمها قبالة مكتب المديرة .. عينا المديرة المسلطتان عليها منعتها من أن تهرب إلى أحضانها .. بل زادت اضطراب أنفاسها المحمومة المتلاحقة .. أرادت الهرب من تلك العينين المتوعدتين إلى الخلف بعيدا .. لكن يد المعلمة التي تمسك بيدها بقوة منعتها .. الأرض تتحرك تحتها .. العالم حولها يدور .. لا تدري كيف تهرب .. أنفاسها المحمومة تحز صدرها الصغير .. العينان المسلطتان مستمرتان في التهديد.. نفس التهديد الذي أنطلق من فمها أمس وهي تخبرهم بأنها ستأتي به اليوم ليتفحصهم .. ليكتشف السارقة من بينهم .. و لا تريد أن يعرف أحد من أهاليهن من أمره شيئا .. وإلا .. وإلا!
الأرض تميد أكثر تحت قدميها .. دموعها تتساقط رغما عنها .. أمها قريبة لكنها بعيدة .. نظرت مرة أخرى .. العينان مازالتا مسلطتين بنفس التهديد .. عضت شفتيها بقوة وانسابت خيوط الدمع بكثرة .. يدها الصغيرة تبعث بحمم من النار إلى قبضة المعلمة التي تمسكها بشدة .
لم تسطع الطفلة أن تلتقط الحديث الدائر بين أمها والمديرة ..
" قالت لي في الصباح ، لا أريد أن أذهب إلى المدرسة .. قلت لها لماذا .. أجابتني بأنها مريضة وستموت إذا حضرت المدرسة اليوم .. صدقيني كنت قلقة طوال الوقت .. فهي ليست من النوع الذي يتحجج بالمرض .. إنها متفوقة وتحب المدرسة كثيرا .. خفت من حديثها لكني أجبرتها على الحضور. و.. و حضرت الآن لأطمئن عليها وأخذها معي إن احتاج الأمر."
"هاهي قد وصلت وتستطيعين أخذها.. أظن أنها مريضة . "
قالت تلك العبارات وما زالت عيناها تهددانها ..
استدارت الأم إلى الباب ..فوجئت بمنظر ابنتها . هرعت إليها :
" نورا .. نورا "
أخذتها في أحضانها .. الطفلة مسمرة في مكانها.. عيناها الحمراوان المضطربتان ما زالتا تدوران في فلك عيني المديرة المسلطتين .. أذناها ترددان صدى حديثها .." وإلا.. وإلا.."
" نورا أنت محمومة. إنها قطعة من النار حضرة المديرة !! سآخذها معي الآن"
" نعم خذيها إلى المستشفى ولا داعي للقلق .. فالحمى تعاود الأطفال كثيرا بسبب وبغير سبب" .
كانت تضغط على مخارج حروفها ، لا تحيد بنظراتها عن عيني نورا التي استحالت إلى تمثال . الأرض تميد أكثر فأكثر .. وهي لا تستطيع أن تحضن أمها ..حمم النار تتصاعد وتتصاعد رغم أحضان الأم ..فالعينان قاسيتان ..حادتان .. قاتلتان ..إنهما نفس العينين الحادتين القويتين المهددتين والقاتلتين .. لا..لا..إنها هو..إنه هي..لا..لا...
تعالى صوت الأم فزعا :
"نورا ..نورا ابنتي .. إنها محمومة ..محمومة ..لقد أغمي عليها.. نورا..نورا.."
**********************
دخل إلى الصف بخفة رغم ضخامته الشديدة .. يتبعه صاحبة الذي ارتدى بذلة رسمية تراها كثيرا عند إشارات المرور.. كان يمسك بسلسلة حديدية تمتد إلى الطوق الجلدي الذي يحيط بعنق الكائن الضخم . كان جلده الأسود شديد اللمعان ..لسانه الطويل الأحمر يتدلى بلهاث مستمر..عيناه الصغيرتان الحادتان تتفحصان كل شئ بشك شديد .
عندما توقف قبالة التلميذات الواقفات بفزع أمام طاولاتهن..تعالت الشهقات المكتومة المتقطعة.. ارتفعت أصوات النحيب من هنا وهناك . هو لم يكن يهمه الأمر ..فقد زادت أذنيه إرهافا.. وزادت نظراته قوة وحدة.. وتعالى لهاثه وتدلي لسانه الأحمر الطويل أكثر .
نورا تبحلق بخوف ..بفزع إلى الكائن الضخم من ركن من أركان الصف.. عيناها الجاحظتان مشدودتان إليه .. أذناها تلتقطان النحيب والنشيج والشهقات التي بدأت تتعالى.. خطا هو خطوات إلى الأمام... بادئا جولة الشم مع التلميذات لاكتشاف الطفلة التي قامت أمس بسرقة سلسلة ذهبية ثمينة من إحدى الطالبات .
زاد النشيج ..وتحول إلى بكاء .. إلى نحيب ..تعالى صراخ إحدى التلميذات .. عينا نورا الفزعتان المذعورتان التفتا إلى مكان الصراخ ..إنها ليلى تصرخ بصوت عال:
" أنا لم أسرق ..أنا لم أسرق ..لا أريده أن يأكلني لا أريده أن يأكلني.. أنا لم أسرق..إنه لا..لا يفهم .."
ارتفع معها نحيب بقية البنات ..لكن ليلى تركض من مكانها وما زالت تصيح ..ترتطم بالطاولات ..تصرخ عاليا :
"أنا لم أسرق ..إنه لا يفهم"
ليلى تهرب وهي تصيح بفزع شديد.. المعلمة تتلقف ليلى بقوة عند الباب وتمنعها .. الصف يرتج من صراخها العالي ..الكلب لم يبد عليه الانزعاج .. الصراخ ..النحيب ارتفع من بقية التلميذات بشكل حاد..بان الانزعاج أخيرا على وجه الكلب .. فظهرت المديرة عند الباب وأطلت بعينيها الغاضبتين الحادتين.. زاد الفزع ..جحظت العيون..زاد الاضطراب ..انسابت شلالات الدموع أكثر ..لكن الصراخ .. الصياح تحولا إلى نشيج مكتوم متقطع..بقيت واقفة في مكانها ..عاقدة ذراعيها ..تدور بعينيها الحادتين المهددتين خلال الوجوه الصغيرة .
الكلب استعاد هدوءه ، وبدأ يكمل جولته على التلميذات.. كلما اقترب من إحداهن ..يرتفع نشيجها .. لكنه يعود إلى الانخفاض بنظرة من العينين المتوعدتين ..و النهنهة تتصاعد وتزداد وتيرتها .
أحست نورا بأن أنفاسها تتقطع وهي ترقبه بذهول ..بفزع ..جحظت عيناها وهو يقترب ناحيتها.. لاحظت ثوب زميلتها التي أمامها يتبلل ببقعه ..بقعة تتسع سريعا .. تتساقط إلى الأرض قطرات متتابعة .. تصبح خيطا رفيعا ينساب على الأرض مكونا بقعة صغيرة من المياه.. الكلب يقترب بأنفاسه من وجه زميلتها .. البقعة على الأرض تكبر .. تتسع ..
ازداد وجيب قلب نورا.. ماذا لو أخطأ وظن أنها هي التي سرقت .. صار على قيد خطوات منها .. الخاطر يدق رأسها كالمطرقة .. من المؤكد أنه سيخطئ فهو حيوان ، والحيوان لا يفهم كما تقول معلمتي . تلاحقت دقات قلبها كطبول إفريقية .. جحظت عيناها بالفزع .. جسدها ينتفض.. يقترب أكثر .. أنفاسها تتلاحق وتتقطع أكثر.. اقترب أكثر .. أنفاسه تفح.. عيناه الحادتان مركزتان في عينيها اللتين تجمدت فيهما الدموع .. لهاثه يقوى. اقترب أكثر .. أنفاسه اللزجة ترتطم بوجهها المحمر.. تدخل منخريها اللذين توسعا إلى آخرهما.. تصل إلى درها .. تطبق عليها .. إنها لا تستطيع التنفس .. صدرها يضيق ..يختنق .. إنه يخترق عينيها .. يشمها.. يلتصق بها أكثر.. بجسمه الأسود ..اللامع..الضخم.. لقد أخطأ ..سيأ.. سيأ.... لا.. لا تأكلني .. لا تأكلني.."
و..وتهاوت على الأرض كخرقة من دون صوت .
******************************
الأم تسير بعربتها و القلق ينهشها . نورا نائمة على المقعد الأمامي الذي دفع مسنده إلى الخلف .. تضع يدها بين وقت وآخر على وجهها الملتهب بالحمى .. لا تدري متى ستستطيع الوصول إلى المستشفى .. القلق ينهشها .. ماذا بها يا ربي .. كانت عادية جدا حتى أمس.. ماذا حصل لها .. لماذا هذه الحمى المفاجئة .. إن جسدها ينتفض ويلتهب . ساعدتها المعلمات على حملها ووضعها في مقعد العربة .. المديرة قالت لها ألا تقلق .. فاليوم الدراسي كان عاديا جدا .. الحمى قد تكون أمرا طارئا .. لكنها قلقة .. قلقة جدا .. نورا كانت ترفض الذهاب اليوم صباحا إلى المدرسة .. لم تستطع معرفة السبب . ضغطت أكثر على دواسة السرعة .. فانطلقت العربة بسرعة أكبر .. القلق يمزقها وهي تطرف بعينيها الدامعتين نحو الطفلة .. ساكنة لا تبدي حراكا .. لا تفتح عينيها .. فقط الجسم ينتفض وينتفض .. لمست وجهها مرة أخرى .. الانتفاضة و الارتعاشات تزداد نوباتها . تناهى إليها صوت نورا ضعيفا :
"إنها هي .. إنه هو .. أنا أخاف .. أخاف من عينيك القاسيتين .. أنا أخاف منك .. أخاف منه .. من لونه الأسود ..أخاف منكما .. أنا .. أنا .. "
ارتفع نحيبها .. إنها تحلم .. لا إنه كابوس ..
اشتد نحيب الطفلة أكثر .. تحول إلى صراخ .. الطفلة تصارع و تصرخ بأعلى صوتها :
"..لا .. لا .. لا تأكلني ..لا تأكليني.. إنها هو .. لا .. لا تأكلاني ..لاتأكلاني"
خيوط الدمع تندفع من العينين المغمضتين .. تغطي وجه الطفلة الصارخة بأعلى صوتها .. ترفس برجليها .. تشوح بيدها وهي تصارع شيئا ما بشدة :
"لا تأكلوني .. لا تأكلوني "
لم تدر ماذا تفعل .. تنظر إلى الطفلة بفزع .. بعجز .. دموعها تنساب .. يداها على المقود ترتعشان .. قدماها ترتعشان .. أين السرعة .. أين الكابح :
" ابنتي ..ابنتي .."
لم تعرف كيف استطاعت إيقاف العربة .. انحنت على الطفلة تهدئها .. الطفلة ما زالت تقاوم بجسمها .. بفزع .. بصراخ .. جسدها يبعث بالحمم النارية إلى أحضانها التي تحوطها. الناس تجمهرت حول العربة الواقفة في منتصف الشارع المزدحم .. حركة السير اضطربت .. توقفت عربات كثيرة خلفها لا تستطيع التقدم إلى الأمام .. إنها عاجزة .. عاجزة .. لا تدري ماذا تفعل .. شدت الطفلة إلى أحضانها أكثر .. الطفلة تهدأ .. تستغرق في الصمت .. في السكون .. أنفاسها تحشرج في صدرها بضعف شديد .. أحدهم سأل :
" ما بها طفلتك سيدتي ؟ "
نظرت بعينيها الدامعتين .. لا تستطيع التمييز بينما الطفلة تحرق بحممها أحضانها :
" لا أدري .. لا أدري .. إنها ليست طفلتي نورا .. إنها ليست نورا التي أعرفها .. قلبي يحدثني إنها .. إنها حطام نورا.."
|