شيء ما
ترجلت من عربتها وهي تحاول رمي هواجسها وراء ظهرها ، إنه يوم ليس كغيره من الأيام . وهذا ما يجب أن يدعوها إلى التفاؤل الشديد .. ولا داعي للسوداوية التي عشعشت في كيانها من الأيام السابقة ..
أيام سابقة ؟ لا .. بل سنين طويلة .. منذ أن بدأت تعمل .. فما زالت تتذكر أول يوم تعيينها .. كانت صغيرة جدا على فهم أشياء كثيرة .. وكل الذي كان يمر بها كانت تلقي سببه على نفسها .. ثم تقرع نفسها بشدة وقسوة ..
قسوة حفرت في داخلها أخاديد عميقة من الألم الشديد .. وما زالت تحس بلذع الألم بمجرد ما تمر بنفس الموقف رغم مرور ما يقرب من عشرة أعوام .
عشرة أعوام .. أكسبتها نضجا وفهما .. لكن لذع الألم .. لا تدري .. لا تدري .. ولا تستطيع أن تفهم لم تتألم ، ويلفها جلد الذات عندما تمر بنفس الموقف رغم التعود الطويل .. رغم السنوات الطويلة ..؟
أقفلت باب العربة .. تحركت خطوات إلى المبنى الذي يقع على بعد عشرين مترا .
-----------------------------------
ما زالت تعي أول يوم تعيينها ..
دخلت مبنى الموظفين .. دخلت وابتسامة كبيرة تملأ وجهها .. ألقت التحية..
سلام عليكم .. صباح الخير ..
صمت .. جدران عالية من الصمت تقابلها.
ألم يسمعوا تحيتها .. سمعوها .. لماذا أشاحوا .. الكبار أشاحوا .. كم عددهم ؟ كلهم .
تحني رأسها ألما ..
لماذا لم تحصل على جواب ابتسامتها ؟
لماذا السلام وقع منها على الأرض وتحطم شظايا ؟
لماذا .. لا بد إنها اقترفت خطأ جسيما .. ما هو ؟
عصرت ذاكرتها بقسوة .. لكن ذاكرتها لم تسعفها ..
ولكن متى كانت الإساءة ؟ ..
لا .. من المؤكد إنها أساءت ..
عشر سنوات وهي تدخل باسمه .. أكثر من اليوم الذي سبق ..
فابتسامتها تتسع كل يوم .. كل صباح ترشوهم باتساعها أكثر .. كل وقت ترى فيه أحدا منهم ، لكن تقع الابتسامة على الأرض وتتناثر شظايا .
يتقلص وجهها من الألم .. تلسع نفسها بسياط التقريع واللوم .
لا بد أنها السبب .. السبب فيها هي .. فمن غير المعقول أنهم لا يسمعون .
ومن غير المعقول أنهم لا يحبون رد الابتسامة ..
من غير المعقول !!
اقتربت من المبنى .. صارت على بعد خطوات .
بدأت تصعد الدرج الجانبي ..
ما زال الوقت مبكرا .. إنه أول يوم .. يوم خاص .. ربما يتأخر الموظفون قليلا .. حتى يعتادوا على النظام الجديد .
-----------------------------------
بعد سنين قليلة كانت أكثر صلابة ، تجرأت وسألت :
- ماذا تكلف الابتسامة .. لماذا يقع سلامها على الأرض ويتناثر شظايا ..
كانت الأكثر صمتا بينهم ، لكنها أجابت :
-مشاكل الدنيا كثيرة ، وعندما أصحو من نومي صباحا أكره التحدث الى أي أحد لمدة ساعتين ، حتى يعتدل مزاجي .
وكان أحدهم الأكبر سنا والأكثر جرأة .. قال بضحكة صفراء :
-هيه يا رقيقة .. وكيف نؤدب الصغار ونجعلهم يدخلون في ثيابهم ؟
تعالت الضحكات الصاخبة ..
أكملت إحداهن ساخرة :
- ياحبيبتي الصغيرة !!
ابتلعها السكون .. هل من المعقول !؟
لكن السنوات السنوات ولذعة الألم لا ترضى التوقف ، كلما رأت ابتسامتها الواسعة تتناثر على الأرض شظايا ..
إنها لا تستطيع الكفّ عنها كلما طلع عليها صباحا جديدا .. طازجا.. مليئا بالنور ..
-----------------------------------
وصلت المكتب .. كانت فيه زميلة جديدة .. تراها لأول مرة .. يبدو عليها إنها حديثة التخرج .. فهي صغيرة ..
-سلام ..السلام عليكم .
قالتها بنغمة مليئة بفرحة حقيقية .. وكأنها تبشرها بخصوصية هذا اليوم وجماله .. وترشوها بعظمة هذا الشهر في نفوس الصائمين .
تنظر الشابة الصغيرة في عينيها في جمود .. نظرات طويلة .. بدون تعبير .
و.. وقع السلام إلى الأرض ، وتناثر شظايا ..
في هذه المرة أحست أن الشظايا تتطاير لتجرح وجهها و جسمها .. تنزف دماء .. آلاما مبرحة داخلية وخارجية ، بينما خطوط الدم تتقاطر إلى الأرض ..
توارت خلف المكتب العالي .. تداري دمعة تريد السقوط رغما عنها .
رنين ضحكات ساخرة تتردد ، وكيف نؤدب الصغار ، و…!؟
لماذا مزقت هذه الشابة الصغيرة بسمتها الحلوة بحذائها ذو الكعب المدبب ..
سياط التأنيب عادت تجلدها في ألم صامت مرير وراء المكتب ..
مر النهار كئيبا ،ففرحة الصيام ماتت بداخلها ، ورفع نعشها .
---------------------------------------
بعد الإفطار .. قالت لها أمها :
- إن ضيفا خاصا سيزور البيت .
إنه القريب الذي طلب يدها ، أتى لرؤيتها ، ولتكون أمامها فرصة لرؤيته و التعرف عليه .
سألت أمها :
-هل هو من أصحاب المزاجات المعكرة صباحا ؟
ضحكت أمها للسؤال وهي تتعوذ من الشيطان .
كان شابا .. حسن المنظر .. ذا مركز وظيفي جيد رغم صغر سنه .. لبقا وسريع البديهة .. استطاع في نصف ساعة أن يجعل الأسرة تلتف حول حديثه الشيق الممتع ..
كانت تستمع إليه وهو يصول ويجول بين صمت أبوها وأمها وأخوتها الذين يطلبون المزيد من أحاديثه الشيقة ..
كان أبوها ينظر إليها بين فترة وأخرى .. كأنه يريد أن ينقل إعجابه بهذا الساحر لها بالعدوى .. فيما كان العريس مسترسلا في حديثه ذي الشجون ..
- أتدرون أن الذكاء ليس فقط ذكاء الكتب والدراسة .. وإنما هناك ذكاء اجتماعي كلما استطعنا أن نستخدمه جيدا ، حققنا الكثير على الصعيد الاجتماعي من التقدير ، والمكانة الاجتماعية ، والوضع الإجتماعي الممتاز . وكل الذي حققته من نجاح سريع في حياتي يعود إلى هذا المبدأ ..
إن الحديث ، و السكنات ، اللفتات ، الحركات والإيماءات .. كلها لها دور اجتماعي كبير .. وكلها تعد مفاتيح للوصول ، إذا تم استخدامها واستثمارها بشكل جيد .. فليس الكل يجب ان نعامله بنفس الطريقة.. وليس الكل يجب ان نهش له .
أنا استغرب للأغبياء الذين يتصرفون على سجيتهم بدون حسابات .. هل من المعقول ان نبتسم للمدير والغفير معا ؟
لم تدر كيف أسرعت خارجة .. في الحمام أفرغت ما في جوفها .
عندما رفعت رأسها ، كانت عيناها تتقدان ، استندت بصعوبة على باب الحمام ، تلهث بتردد أنفاسها الحاد ، فقد أفرغت كل أحاسيس الألم الداخلي المتراكمة منذ أول يوم قتلت فيها ابتسامتها وتناثرت شظايا ، منذ اول يوم جلدت ذاتها بسياط التقريع واللوم ، منذ أول يوم نصبت لنفسها محاكمة خطأت فيها نفسها ..
محاكمة استمرت عشر سنوات طويلة وحارقة .
لحقتها أمها ..
- ماذا بك يا ابنتي .. هل معدتك تؤلمك ؟ يبدو أنه اضطراب أول صيام .
قالت وهى تستعيد هدوءا باردا وثقه :
- لا.. انه غثيان كان يجب ان أتقيأه منذ أول يوم .
مايو 1997
|