عشرون مترا
طار في هواء حزيران الحار .. المرتد عن خدود الجبال المحيطة .. طار بحركة قوية متدافعة .. وانقذف كقربة على الإسفلت الحـــار .
انفجر الدم .. تراكض جداول حارة فائضة ..
آهات ندت عنها أنفاسه اللاهثة المقطوعة.. جسده توسد دفء الإسفلت بلا حول .. ذراعاه و ساقاه المرضوضتان تفحص الأرض باستسلام ..
-وجيب قلبك الواهن يعلو ويهبط .. وجيب قلبي المرتعد يتجاوب معه .. انك مستسلم لمصيرك فوقي .. بينما الجداول تقطع مسافات أكبر بلونها القاني الواضح في غبش البكور على جسدي الأسود .
- روحي تحتضنك .. وتحتضن دماءك الهاربة .. تحتضنك بحرارة تنزف من جسدي الممتد على امتداد البصر ..
-أهي حرارة الهواء الغربي .. أم حرارة ألمي لك .. و إشفاقي عليك ... لا ادري!
شفتاك تتحركان .. بوهن .. بضعف ..
- ماذا تريد أن تقول .. تكلم .. تكلم .. سأسمعك ..سأسمعك بوضوح ..
-ما الذي أبكر بك أيها الشيخ المهشم ...
-ما الذي أبكر بك لمصير متوحش .. رد علي أرجوك ....
تلفظت شفتاه الممزقتان بصعوبة :آآآه ... لم يستطع الإكمال ..
ذراعاه .. ساقاه مازالتا تفحصان الإسفلت بألم عظيم .
-تكلم بقلبك .. انه يدق رغم وهنه و اضطرابه ..
-تكلم بروحك .. يجب أن أسمعك ..فأنا أتمزق ألما .. قلقا .. تعاسة .. لا أستطيع أن افعل شيئا غير احتضان جداولك القانية لمسافات أكبر فأكبر .. وغير التأكد بأنك ما زلت تقاوم .. رغم الجداول الهاربة بدمائك .. رغم الصمت الرهيب الذي يخترق لحظات انتظارنا للنجدة..
-تكلم ولا تعذبني بصمتك واستسلامك أيها الآدمي ..
-قل لي ما الذي أبكر بك لتواجه أزمانا خالية موحشة .. إلا من عربة هادرة مترنحة .. احتوتها أنفاس غادرة .. طوحتك فطرت كريشة مضطربة .. بينما طارت هي مترنحة هاربة .. تكلم بالله عليك .. إن قلبي ليتفطر مع نضوب و يبسان جداولك على جسدي الحار .. قل شيئا بدل أن تفحص بجسدك ..
-قل .. تكلم .. فلربما استسلامك للكلام أبعد عنك استسلاما لصمت طويل ...
-ماذا أقول .. قلت لها .. أسرعي بالقهوة .. قالت لم يجهز الخبز بعد يا أبى ..
-لا داعي للخبز ففي القهوة كفاية ..
-أبى مرارة القهوة .. انتظر فلا أظن انك ستتأخر.. فما زال في الوقت متسع ..
-لا .. بضع فناجين مرة ربما أعادت لي الاتزان بعد تلك الورقة اللعينة .
-أبى تقصد الفاتورة .. ؟
- وما الذي يقلقني ويبكرني غيرها .. يجب أن اذهب إلى حيث أحل الغاز هذه الورقة.. كم هو راتبي حتى ادفع ثلثه لكل ورقة مجنونة ..
-أبي لعله خطأ حاسوبي .. و ماهو الحاسوبي ..؟ على العموم سيّان لدي .. بعد أن قطع العداد .
-كرهت نفسي.. كرهت شكلي الأسود الملتوي كأفعى سوداء كريهة المنظر ..
-أيها الشيخ لقد أسرعت باجتيازي ..
-لا .. لم تكن مسرعا .. كانت هي الهادرة السكرى .. الهاربة ..
-آه .. أين النجدة .. أين الناس .. لماذا الأزمان ما زالت موحشة خالية .. لماذا الشمس ما زالت كسولة متثائبة رغم اشتداد حرارة الهواء الحزيراني؟ .
- هه.. صوت يخترقني .. أعرفه ..أعرفه تماما .. إنها عربة .. إنها تقترب .. ستراك ..
-الحمد لله .. لقد انتهت معاناتك .. لقد انتهت معاناتي . تحدث.. قل انك ما زلت حيا .. ابتسم .. لا بأس.. انك حي وقلبك يدق .. لن تموت .. لن تموت ولن أكون أفعى سوداء قاتلة..
هدير عربة يرتفع .. فهي تقترب .. لكنها مازالت مسرعة .. صرير عجلاتها الصارمة يرتفع باحتكاكها مع إسفلت الشارع .. إنها تقترب أكثر .. فأكثر ..
فجأة .. اهتزت في سرعتها كأنها تفكر .. غير أنها داسته فارتفع ضجيج رهيب قاتم مع تحطم جسده .. وولت هاربة كأن شيطانا يطاردها ...
أماكن أخرى تفجرت في جسده المهشم .. الجداول .. توقف الجسد عن الاضطراب ..الريح الحارة رغم كسل الشمس ....
-تحرك .. تكلم .. انتفض .. افحص الأرض .. أين صوت دقات قلبك الواهن .. هل تحمل للمرة الثانية ..
-أرجوك .. إنني أتمزق فلا تخيب ظني بحياتك ..أرجوك ..أرجوك ماذا افعل ؟ هل أنا إلا جسد ميت يحتضن جسدك المهشم المحطم ..
-هل أنا إلا ارض سوداء صلدة أبى قدرها إلا أن تكون مقتلا ..
-تكلم..تحرك ولا تفجعني فيك .. فالعجز يقتلني وأنت ملقى مهشما على صدري .
-الفرج .. نعم الفرج .. صوت عجلات .. عجلات كثيرة تقترب .. إنها واحدة .. عربة واحدة لا اثنتين .. لا أربعا .. نعم أربع .. إنها أربع عربات .. الرمق .. نعم لربما فيك الرمق .. لكنك غير قادر على شيء إلا السكون .. في هذا الصمت الموحش ..
العجلات تقترب .. تسرع .. تسير بصرامة .. باعتداد .. لا بد إنها ستنتشلك .
- لا .. لا .. توقفي أيتها الكائنات المتوحشة .. لا .. لا أريد أن اسمع ...لا أريد أن أرى .. إن روحه تفارق جسده .. ضاع الرمق .. وضاعت العجلات الكثيرة في لجة هروبها .
-أين أنت .. أين أنت .. لم يبق منك أنت .. أين رأسك .. لا أدري .. أين ذراعاك .. أين ثوبك .. لم يبق منه اثر .. أين قلبك النابض منذ لحظات ..
-أهذه القطعة المهروسة .. وأين أحشاؤك ..
-هاهي .. لقد فريت بالأرض وانساب منها السائل الأسمر المر .. وساقك وعظام صدرك .. -رباه .. رباه .. ما أنت الآن .. أكائن .. آدمي أنت ؟
-لقد افترشت كل قطعة منك جسدي ..
-لم تعد تشغل حجما على صدري .. بل انتشرت وتوزعت لتبدي لي تعاستي .. حرقتي .. قلة حيلتي .. بمن استنجد .. لا ..
-هل يمكن أن تنجد الأوصال الممزقة .. مأساتي أن اشهد النهاية تلو النهاية .
الشمس تمردت بسرعة .. الهواء الغربي المرتد عن خدود الجبال يرتد كزفير جهنم.. الإسفلت الأسود قطعة نار .. حنق .. غيظ .. يكاد يمزق مطاط عجلات العربات المتتابعة الكثيرة .
الجداول الحمراء فقدت لونها .. ماءها .. لم يتبق منها غير خطوط كثيرة مختلطة داكنة يابسة وبقع وبحيرات أخرى .. أشد يبوسا ودكنة.
توقف مرور العربات لمدة قصيرة .. توزع عدة أفراد بزي موحد .. جمعت الأوصال بصعوبة كبيرة وعلى أبعاد مختلفة متفاوتة ..
كان تجميعها شاقا.. فكثير من الأجزاء لم يتبق منها غير عظام ناتئة مهشمة .
أحدهم لم يستطع أن يمنع دمعه من الانحدار على الإسفلت المستحيل إلى قطعة جحيم.. عندما وجد المسافة التي امتدت إليها تلك الأشلاء المتبقية عشـرين مترا .
|