 |
قسم ورد اليتامى ورد اليتامى |
ورد اليتامى * على عَجَلٍ وهي تشرع في الخروج من بيت جارتها – صباحا – هَمَسَتْ في أذن الجارة الطيبة برصانة وكأنها تتنبأ: أختي الشيمة ضميه! كانت قد دثرت الذهب ذو الأربعة والعشرين قيراطا ملاصقا لقلبها. الكنز الذي لم تحلم بلمس مثله قط، والذي جلبه معرس البنت الكبرى نام طوال تلك الليلة في حضنها. خبأته كطفل صغير عن زوجها الذي يؤوب آخر الليل مترنحا ويبحث في أطراف البيت عن كل بيسة شاردة. تعلمُ أنه سينبش في كل شبر داخل البيت الشعبي، ويجوس المسافات والأشياء كلها، ومن ثم يتكور كومة واحدة ساقطا بلا حراك بالقرب من جسدها. ردت عليها الجارة الطيبة بابتسامة كبيرة حانية: أختي! لا تخافي. لن يعرف بمكانه أحد! ***** انطلقتْ قاطعة الشوارع الداخلية مهرولة باتجاه الشارع العام حيث تتقاطر الشاحنات الضخمة، وتمرق السيارات الصغيرة بانصاف مجانيين ومهووسين فكرتْ: اليوم الأخير من الشهر فرصة مناسبة لصرف المعونة الإجتماعية .. سأشتري هدية لشمّوس بمناسبة زواجها، وسأشتري قطع ملابس وأفصلها لميمونة وجميلة ونادية!!. فكرتْ أن مبلغ الاعانة لن يف بالغرض: ماذا سأشتري لحسين الذي ولد معاقًا، ولسهيم الذي ذهب إلى الصف الأول الأعدادي بدشداشة الصف السادس؟؟ سهيم النجيب الوحيد الذي لم يتأخر في دراسته كبقية أخوته قنوع بطبعه ولكنه حساس لدرجة تبعث الريبة في صدر أمه ( ورده)!. فكرت ورده في أن تأخذ قطعة من ذهب العروس شموس وتبيعها.. ربما أن قطعة واحدة تكفي لشراء ما يناسب فرحة لم تعانق البيت الشعبي الذي وهبته الحكومة لهم بعد الانتقال من الحارة التي ولدت فيها ودفنت فيها الأم والأب وطفلين أو ثلاثة جاءوا إلى هذه الدنيا بدون صراخ الأنسان الأول وصخبه رافضين حتى أن يروا هذه الدنيا بعيونهم الصغيرة التي هبطت من رحم التكوين مغمضة! هي لا تتذكر منذ متى سكنت تلك الحارة القديمة لكن كل ما تعرفه أن اجدادها سكنوا المنطقة منذ عشرات السنين وبعد عقود قليلة جاء المشروع الضخم للحي التجاري الساحلي. قيل لهم أنهم سينقلون إلى منطقة جيدة، وأشيع بأنهم سيعوضون بمبالغ خيالية من الريالات، وبعيد ذلك اصطفت الالات الضخمة ككائنات خرافية ترفع خراطيمها وتُعمل معاولها، وكان عليها الرحيل مع أسرتها الكبيرة بدون أن تلتفت إلى الخلف أو تفكر في قبور الأحبة الذين طوتهم ذاكرتها كما طوت الحارة القديمة التي نشأت فيها حيث كان كلُّ شيء بسؤاله الأول وهاجسه الأول وروحه الأولى... اليوم بالذات يعبر شريط ذكرياتها لمرابعها الأولى ولا تدري سببًا لذلك! على عجل دست المبلغ الزهيد في جيب دشداشتها، وفكرت في العودة سريعا حيث موعد طبخ الغداء, وقفت قبالة الشارع السريع، ولجت الحافلة الصغيرة. فكرت في الجارة الطيبة التي لولاها لما تحملت العيش بعد فمشاكل الأولاد والزوج وقوائم لا تنته من المطالب والمطالبات لكن الجارة الطيبة صدر حنون ومتسع ورقيق يواسي ورده في نوازل هذا الدهر بكلمات رقيقة وابتسامات طيبة فكرت أن تقدم لها هدية صغيرة عندما ستبيع قطعة من ذهب العروس... اختضت رأسها بغتة. اختلطت العربة بركابها ولم تعد تتذكر إلا "الصوغ" الفا ريال لم تحلم بلمسها من قبل. كانت شمس الظهيرة تصهر رأسها. الفت نفسها على أسفلت الشارع السريع ممدة. تحسست جروحها ومسدت بيدها المرتعشة على المبلغ الزهيد في مخبأه. تبرع سائق أجرة لانقاذ بعض الأحياء الجرحى وانطلقت عجلات سيارته تصهل باتجاه المستشفى الجامعي القريب. زاد من سرعته آملا في الأجر وانقاذ الأرواح التي تتعذب لكنه لم يستطع تفادي الاصطدام بشاحنة خضار قطعت الشارع. ***** عبرتْ سيارة الاسعاف بجثة وردة الشوارع الداخلية للحارة. توقفت أمام بيت بسيط تجمع حوله الخلق. أُنزل الجسد الذي استكان عن تطوافه أخيرا وعلت الأصوات بالعويل. تقدم رجل خمسيني يترنح باتجاهه فتش صرة الملابس وأخرج مبلغ أربعين ريالا وصرخ بحرقه: الذهب! لقد سرقوا الذهب! أين الذهب؟، وكان ثمة امرأة في الحلقة المتجمعة تبكي بحرقة وتنظر المشهد من طرف خفي... * "ورد اليتامى" قصة تنشر لأول مرة من مجموعة قصصية غير منشورة تحمل نفس العنوان كتبت جل نصوصها في سلطنة عمان بين أعوام 1995م – 2000م.
|
|
|
| | |