 |
قسم مجموعة قصصية 1 لا يـرونـه |
لا يـرونـه
"ثقافة الفقد تختلف من شخص لآخر" هذا ما أيقنته في وقت متأخرِ ... في يوم ضاع من الزمن وقفت بجانب سرير زوجي وهو مستغرق في النوم خفيف الهم... بقيت طوال الليل أرقبه وأكفكف دموع عيني الذابلتين ..حاولت أن أحدثه ، أن أوقظه بلا جدوى .. لا يراني ولن يراني! إني أفتقده وأفتقد وطني ..أقف هنا كلاجئة أضع يدي برقة على خده وأسأل نفسي.. متى ينتهي هذا الليل؟ متى ينجلي؟ الظلمة تجعل الناس يرون أشياء غير حقيقية أنا أخاف الليل وأحزانه وكأننا نحتاج إلى أكاذيب عن عالم لم يوجد ولن يوجد! كل مساءاتي إعتكاف في محراب البُكاء ..طقوس يكتظ فيها وجعٌ غير ذِي قِطاف بداخلي زحمة حقائق أرفض تصديقها.. كنت أراقبه من الأعلى صباح كل يوم يخرج إلى عمله مسرعا يرتب "عمامته" على عجل –لا يزال فاتناً بشكل جهنمي- ..يوصل ابنتي " لُبنى" إلى روضتها ..يقرأ جريدة الصباح ويشرب قهوته مرة كعادته ..يُلقي النكات ويضحك مع زملائه ..يتصل بنزوته الجديدة خلسة فتبرق عيناه بريقاً ساطعاً نشر ضوءه على وجهه ..يمازحها يغازلها ويُسمعها كلمات الحب .. بداخلي تتفجر ثورة طفلة وبكاء امرأة ..كان دائماً يقول لي " أنتِ اختصرتِ كل النساء" وكُنت دائماً أجيبه بـ "أحبك حتى تنتهي أحلام نساء الأرض". إذن ما الذي تغير؟ ألا يعلم بأن قلبي تضيق مساحاته وهو بعيد؟ لم يعد يُقبل صورتي كل ليلة،لم يعد يشكو لكشكولي همومه المعتادة،لم يعد يحكي للُبنى قصصاً عني،لم يعد يهتم بشجرتي الصغيرة. باع سيارتي ! أقفل على لوحاتي ومرسمي! لا يستخدم حاسبي المحمول! لا يتذكرني كلما رأى قطتي ممدة أمام مدخل البيت تموء بكسل ...بعد ثلاثة أشهر توقف عن ممارستي فجأة!! كنت دائماً أسأل نفسي إن أنا مت من سيفتقدني؟ من سيبكيني؟ اكتشفت أن من افتقدوني وبكوني كثيرون ولكن زوجي لم يكن منهم،بكتني توأم روحي صديقة العمر... بكتني جارة ...بكاني زميل جمعتني وإياه السنوات الدراسية في الجامعة... بكتني طالباتي المخلصات. بكتني خادمة المنزل بكل إخلاص... بكتني ألعابي وسنوات طفولتي.. بكتني غرفتي أيضاً ..والهرة التي اقتنيتها. بكاني ذاك الدرب الذي اعتاد خطواتي..و البحر الذي زرته بانتظام. يجب أن تمر بالكثير لتعرف ما هو الحب ..هو ليس بالأشياء الكبيرة ولكنه يسكن في التفاصيل الصغيرة التي تجعلك سعيداً وتعني لك الكثير..الحب هو صلوات الحبيب لك لتجتاز إرهاق يومك. ها هو زوجي يسابق الريح ليصل إلى المنزل بعد عناء اليوم ،تتآكلني الحسرة والصدمة ..قررت أن أضع حداً لإهماله وخياناته فظهرت كالشبح أمامه غاضبة حد الألم ،اسود وجهه وضغط على المكابح بقوة ليتفادني فانحرفت السيارة عن الشارع لتصطدم بشجرة ضخمة .. بعد دقائق معدودة أفاق زوجي وسحب نفسه من السيارة متألماً يرفع ذراعه اليسرى بحذر ربما انخلعت، التفت إليّ بذهول مصفر الوجه، ساد صمت طويل باغتته رياح مفاجئة. قرأت في عينيه جنون الرياح التي تعصف بنا الآن. قال بضعف يستل أنفاسه "وفاء؟ أنتِ وفاء!! وفاء هل أنتِ بخير؟" نظرت إليه فاكتشفت أن حضوره قد امتد لكامل المكان.. لا زالت عيناه بلون الشوكولا الغنية ومغريتين مثلها.،في عالمي عيناه هما احتيال الخيال على الواقع،خفقات قلبي تكاد تصم أذني.. بي إرتباك مزمن لكنني لن أتأثر الآن ولن ألعب دور العاشقة ..بابتسامة وقحة ومنتقمة تعتلي شفتي قلتُ " لا.. " مرت ثوان صامتة،رفعتً حاجباً واحداً بسخرية ثم أردفت "وأنت كذلك!" ثم نظرتُ إلى الجانب الآخر من الشارع فتبعتني عيناه فرأى أناساً كثيرين يلتفون حول سيارته ويصرخون "لا اله إلا الله ..لا حول ولا قوة إلا بالله" شعر كصاعقة على رأسه حين رأى عدة أشخاص يخرجونه من السيارة بصعوبة ..شعر بنفسه يتضاعف كما تتضاعف الصورة أمام المرآة، شعر بأن ذاكرته تتناثر على إسفلت الطريق ودمه يعبر من جحيم إلى آخر،حينها استوعب ما حصل ..تنقلت نظراته المذهولة بيني وبينهم . هرع إليهم يصرخ وينادي ..شد أحدهم من ذراعه ولكن لا مجيب..صاح أحدهم "متى تصل الإسعاف؟ ..أخذ يجول بينهم كالأحمق يصرخ بهستيرية "لستُ ميتاً! أنا حي! لستُ ميتاً! حاول مجدداً أن يثبت وجوده لكنهم تجاوزوه..حينها تيقن تماماً أنهم لا يرونه..أدرك الحقيقة المرة. اجتاحه ذهول ..تضاربت أفكاره..انهار أرضاً وانفجر باكياً بصوت مشوب بأسى "ألا ترونني؟!" اعتدتُ أن أراقبه من السماء يغمرني أمل بأن يتذكرني ويدعو لي ويعطيني الكثير من وقته وحياته ولكنه للأسف همشني ونسيني فأتيت اليوم لأشهد نسيانه.
|
|
|
| | |