 |
قسم مجموعة قصصية 1 حقيبة فاتن ... |
حقيبة فاتن ...
سرحت قليلاً وأنا أفكر بوجودي هنا في سويسرا ..ومدى سعادتي ..كنت دائماً احلم أن أسافر إليها خصوصاً أنني قرأت عنها الكثير .. وسمعت الكثير من عمتي ..وها أنا ذا هنا اليوم أسير مع عمتي وزوجها المقيمان هنا . وصلت ووالديّ قبل ساعات قليلة ولكنني لم أكن مرهقة كحال أمي وأبي اللذان رفضا الخروج معنا وفضلا أن يرتاحا قليلاً من عناء السفر والرحلة الطويلة بالطائرة ...أما أنا فكانت هذه هي رحلتي الأولى خارج بلدي ، ولن أضيع لحظة فيها للراحة فطالبت عمتي بالخروج فوراً كي استنشق هواء سويسرا البارد . وافقت عمتي من شدة إلحاحي وخرجنا نحن الثلاثة للتبضع قليلاً وللترفيه قليلاً ..كادت الابتسامة أن تشق شدقيّ وأنا أفكر بكل ما سأفعله وسأراه هنا ...بداية بالآثار اليونانية و الرومــــانية القديمة وحديقة الورد التي تشتهر بها سويسرا مروراً بمزارع الكروم وبرج الماء وجسر تشابل الخشبي إلى نهر الرون الشهير وحتى محمية " هوت فال " التي تمتزج فيها الزهور والنباتات النادرة بحيوانات المنطقة وختاماً بمدينة فيفي ومنترو المدينتان التوأمان . انتشلت نفسي من أحلامي الجميلة لأفاجأ بأنني امشي لوحدي في شوارع مدينة زيورخ المكتظة بالمشاة ..ولا أرى أمامي سوى الشوارع وخلفي المحلات التجارية الكبيرة والأسواق ..خفق قلبي بخوف وسارع الهلع للارتسام على وجهي .."ماذا افعل فأنا غريبة هنا ولا اعرف الشوارع فكيف بالناس!!" مرت دقائق طويلة كالكابوس وأنا أوشك على البكاء فعمري لا يتجاوز الثامنة عشرة وأنا خائفة بشدة ولكن فجأة تعالى رنين فأطلقت صرخة وأنا أستدير حولي لأبحث عن مصدر الصوت ..وبعد حين تنبهت أن الرنين يعود للهاتف النقال الذي أودعه زوج عمتي معي لاستخدمه ووالديّ أثناء قضائنا الأجازة هنا ...تنهدت بسعادة وأخرجت الهاتف من حقيبة يدي ..غمرني الارتياح الكبير ما أن تناهى إلى سمعي صوت عمتي الخائف: - حمداً لله!! هل أنتِ بخير يا فاتن؟؟ - نعم أنا ...بخير ...أين أنتما؟ - كيف تهتِ؟؟ - لا اعلم ! - حسناً ..أين أنتِ؟؟ هل بإمكانكِ وصف مكانكِ ؟ - لا اعرف أين أنا !! وأجهشت بالبكاء فسارعت عمتي إلى تهدئتي ثم أردفت : - فاتن حبيبتي ،هل تستطيعين وصف مكانكِ ؟؟ اعني ابحثي عن معلم شهير أو شيء ما نستدل به على مكانك ! - لحظة!! أخذت التفت حولي والخوف يقّطع أحشائي ،تنفست الصعداء حين رأيت مطعماً شهيراً يبعد عني خطوات فقط ..فهرعت إليه لأرى اللافتة التي تحمل اسمه ثم سميته لعمتي التي طلبت مني أن اذهب إلى المطعم وانتظرهما هناك مع تشديدها عليّ أن لا احدث أحداً لسلامتي فآخر ما نحتاجه أن يستغل احدهم توهاني لصالحه، استرخيت حين قالت أن زوجها يعرف المطعم جيداً ولكنهما سيتأخران لنصف ساعة لأنهما قد ابتعدا في رحلة البحث عني! وضعت الهاتف في حقيبتي التي أهداني إياها زوج عمتي ساعة وصولي ..كانت حقيبة قرمزية اللون من أشهر الماركات العالمية رُصع عليها اسمي بأحجار صغيرة لامعة ..كانت تلك الهدية أجمل هدية تلقيتها في حياتي فقد كنت دائماً احلم بحقيبة تحمل اسمي وها قد حققه لي زوج عمتي اللطيف . مما لا شك فيه أن الحقيبة كلفت ثروة صغيرة لكنه رجل إعمال ناجح وهذا سهل المهمة عليه حين طلبت منه عمتي مفاجئتي بها . عانق الهواء البارد شعري الملفوف بعناية بمشابك فضية اللون وكنت قد خطوت الخطوة الأولى حين اقترب مني شخص غريب وطالبني بالحقيبة وقد وضع على صدري أداة حادة ..اصفر وجهي..وقهرني سلطان الخوف الذي أعلن سيطرته على جسدي فانتفض جسدي خوفاً ..وكدت أنهار !! اجتاحتني قوة مفاجئة لا اعلم مصدرها فتمسكت بحقيبتي أكثر..أهو حبي للحياة أم خوفي من خسران الهدية التي حلمت بها؟!! لم أجد إجابة لسؤالي في خضم الأحداث المتسارعة وكم دهشت من نفسي حين صرخت بأعلى صوتي فأرتبك الرجل وانتهزت تلك الفرصة لأهرب بعيداً عنه وأسرع خلفي يلاحقني إلا إنني أطلقت ساقيّ للريح متوجهة إلى المطعم كي اختفي بين الناس . وكما يقال عند الفزع فلا خوف !! وهكذا كان حالي حتى دخلت إلى المطعم بقوة بأنفاس لاهثة والعرق يسيل على رقبتي ..التفت الناس في المطعم إليّ ونظروا إليّ بطريقة ساخرة ..ولكنني لم أكن مهتمة ... كان همي الوحيد أن أجد طاولة فارغة فأجلس حتى تأتي عمتي وزوجها وانتهي من هذا الكابوس المرعب ،،رفعت يدي عالياً اشكر ربي ما أن وجدت طاولة منعزلة فارتميت في الكرسي ويدي لا زالت ترتعش من المغامرة التي خضتها ! وضعت الحقيبة في حضني وتمسكت بها بكل ما لدي من قوة ..كان الرعب يحتل ملامحي وصدري يعلو هبوطاً وصعوداً وأنا الهث بقوة ..بعد خمس دقائق شعرت بالراحة والسكينة تتسلل إلى جسدي الواهن ..فأخذت أتأمل ما حولي ..الناس ،،الأزهار،،النادلون ،، الانفعالات الكثيرة التي تعلو الوجوه، وعيون تتسع و أخرى تضيق، تابعت الشفاه الناطقة بكلمات لا استطيع أن اسمعها أو أن افهمها ...فلا أتقن سوى الانجليزية بينما كانت الثرثرة القائمة من حولي بلهجات مختلفة ..فرنسية ،ايطالية ،اسبانية ولهجات أخرى لم استطع تحديدها !!! كسا الذهول ملامحي حين اقترب مني شاب يبدو انه خليجياً مثلي!! - أتسمحين لي بالجلوس معكِ؟؟ قفز كلام عمتي إلى رأسي فارتأيت أن أنفذ كلامها خصوصاً أنني سببت لهما ما يكفيهما من المشاكل والهلع ليوم واحد ..وصمتت بخوف وشعرت بضغط يدي يزداد على حقيبتي .. نظرت إليه والاعتراض يصرخ من عينييّ ولكنني لذت بالصمت فشيئا ما في عينيه خدرني !!! يبدو أنه من النوع الذي لا يقبل بكلمة "لا" كرد.. فابتسم ثم كرر طلبه مجدداً : - هل تسمحين لي يا فاتن بالجلوس معكِ قليلاً ؟ دارت الدنيا من حولي وشعرت بشيء أقرب إلى الغثيان ..هاجمتني حمى فيما راح جسدي يرتعش فازداد احتضاني لحقيبتي المضمومة على صدري بقوة كأنني اطلب منها الدعم !! "كيف يعرفني هذا الرجل؟؟" وأسئلة أخرى كثيرة راحت تتدفق إلى ذهني واعترتني الحيرة وأصابني هلع شديد خوفاً من أن يكون هذا الرجل رفيق للسارق !!! سألتني عيناه مجدداً فوجدت نفسي أومئ برأسي .. وهمست لنفسي " يا الله!! يملك أجمل عينين ذهبيتين في الدنيا!!" فاستند على ظهر الكرسي ثم قال : - قهوة؟؟ نظرت إليه بحذر ثم قلت بحذر: - لا ..لا ..أريد شيئاً! - آسف لتطفلي لكنكِ بدوت مذعورة ..وكرجل شرقي دفعتني غيرتي لأن أحميكِ بطريقة ما! لم تتمكن الابتسامة من الوصول لعينيّ القلقتين : - لا بأس .. - تبدين مذعورة ..هل أنتِ تائهة أو ما شابه؟؟!! سمعت نفسي أقول بلؤم كي أخيفه: - لا ..طبعاً لست بتائهة ..إنما أنتظر أن يصل عمي في أي لحظة! أطلق ضحكة قصيرة خدرتني ثم فال بهدوء وبابتسامة مضيئة: - ما من داعٍ للتهديد ..فقط أردت أن أتأكد ان كنتِ بخير . - اشكر ..اهتمامك ... - حسناً بما أن عمكِ سيصل فأتوقع أن غريزة الحماية لدي تلاشت ..وبت مطمئناً على ابنة بلدي . أوشك أن ينهض ولكنني سارعت إلى سؤاله بنبرة خجولة مترددة: - عذراً ... هل لي بسؤال؟ - طبعاً ...ما من رجل عاقل يقول لهذا الجمال لا ! ضاقت عيناي بحذر وأنا اسأله بصوت لا اعرفه: - كيف عرفت اسمي؟؟ هل تعرفني؟؟ - لا! - إذاً هل أعرفك أنا؟ - أيضاً لا! - ...! - اسمكِ مرصع على حقيبتك بأحجار دائرية الشكل .. - اهااا قال بنعومة مميتة حبست أنفاسي لأجلها : - اطمئني يا فاتن ..لقد كنت أراقبكِ مذ وصلت ..وبدوتِ كأنكِ هاربة من شيء ما ..وبدوت بريئة جداً ..فثارت غريزة الحماية في ّ. تنفست صعداء طويلة ثم قلت له : - أشكرك . نهض فبدا طويلاً جداً فاضطررت لرفع رقبتي كي انظر إليه ..بدا من شكله الخارجي انه يكبرني بأربع سنوات أو اقل ..عاد إلى طاولته وانفجرت بالضحك وأنا أحدق إلى اسمي المكتوب على حقيبتي . بعد أربع سنوات أخرى أتيت في زيارة أخرى إلى سويسرا وأسرعت إلى ذلك المطعم لأرتشف قهوة واقضي وقتاً في تذكر تلك اللحظات الجميلة التي قضيتها مع شاب غريب وطيب . بعد دقائق من وصولي سمعت صوتاً قد ألفته أذني فالتفتت بحدة إلى صاحب الصوت القوي ..ويا للمفاجأة!! نفس الشاب وقد بدا أكثر نضجاً وأكثر وسامة عن ذي قبل،،وما زالت جاذبيته وفتنته خطيرة ..أخفيت وجهي بقائمة الطعام ورحت انظر إليه حتى اقترب من الطاولة التي شهدت لقائنا الأول .. مفاجأة غير متوقعة ..أنا حتى لم احلم بأن التقية مجدداً ..حسبته عابر خاطر فقط! ويبدو أن صاحبه السويسري كان ينتظره ،،فلقد بدآ بالضحك والثرثرة ..انقضت نصف ساعة قبل أن يعتذر الرجل الآخر ..فلقد نظر إلى ساعته فجأة بقلق ثم أنطلق... وجدت نفسي أتقدم منه ..من طاولتي السابقة ..طاولتنا !! رفع رأسه لتلتقي نظراته المصدومة مع نظراتي المحمومة ..وشهق : - فاتن؟؟؟ - لا زلت تذكرني؟؟ أضاف وهو يهب واقفاً برشاقة : - كيف انسَ شيئا لا يحدث كل يوم؟!؟ - كم أنت لطيف ! - قهوة؟ - لا ..لا ..أريد شيئا! - ....!! - لمحتك مذ دخلت ..وفكرت في ألقاء التحية لا أكثر يا ...مهند! انفجر ضاحكاً ثم قال بدهشة : - كيف عرفت اسمي؟؟ - البطاقة ! ومددت يدي لأشير إلى بطاقة مرمية على الطاولة تحمل اسمه الكامل وهواتفه واسم الشركة التي يعمل بها ...فتأوه : - أوه لا !! لقد نسي عميلي أن يأخذ بطاقتي معه ! في محاولة مني لكسب بعض الوقت معه : - حسبته صديقاً.. - تعرفين أن الزبون يجب أن يعامل كالصديق تماماً ..عموماً يبدو أنني فقدت عميلاً جيداً. - لا تقلق ..سيعاود الاتصال بك . - لا أظن فلا يعرف كيف يتصل بي. - أوه ..ساعتئذ ستتقبل الخسارة ..لا ننجح دائماً ! رفع يده في حركة لا مبالاة ثم أردف: - لا يهم ..أتعلمين شيئاً يا فاتن؟ ابتسمت أشجعه على مواصلة كلامه حيث جلسنا : - كلما حضرت إلى هذا المكان احجز هذه الطاولة وان لم أتمكن فأنني أذهب إلى مطعم آخر! - حقاً؟؟ - نعم ،،لا اعرف ماذا أقول لكنني ... - اششش ،،عيناك تقولان الكثير! - وعينيكِ ! - أتعدني بالحرية ؟ - وبالوطن المجيد بين ضلوعي ! - أتعدني بنهاية غير باقي النهايات؟ - احتمي بي ..وسألوذ بك! - وعاطفة متوهجة كالشمس ؟ - وطقوس حب سرمدية! - بلغة جديدة تحتضن حروفها تعانق أصابعنا؟ - وبأبجديات العشق اللامنتهية! قرأت في عينيه جنون الرياح التي تعصف بنا الآن : - هل ستتقن الحماقة في الحب ؟ - وسيكون حضنكِ انتمائي ! - هل سترحل يوماً؟ - في دمكِ ان اقتضى الأمر! - هل سأقرئها في عينيك ؟ - كتعويذة سحرية! - اليوم فقط ولدت روحي ! لمحت بعينيه حقيقة تقول : - اليوم اكتشفت أن المرأة المخبئة في صدري منذ الأزل هي أنتِ !! ضحكنا ....... وتعاهدنا أن نتشارك الجنون كاملاً والرقص على السحب البيضاء !
|
|
|
| | |