أصيبَ شـابٌ لم يتجاوزْ عُمْـرُهُ العشرين بمرضٍ لا يُعْرَفُ عنه شيءٌ ولم يُسمعْ به من قَبْل! قالوا إنه سـافر إلى الخارج، وعادَ يَحْملُ أعلى كِتْفَيْه وَجْهَ الأموات.
وسرعان ما انتشرَ خبرُ مرضِه.. سـارَ سَرَيان النار في الهشيم: طـردتْهُ عَجوزٌ كان يستأجرُ غُرفة ً مُلْحَقَة ً بدارها من الخـارج، وقالتْ له، وهي تقفُ على بُعْـدِ بِضْعَةِ أمتارٍ منه: "خُذْ أشياءَك كافة ً ولا تَعُـد إلى هنا مرة ثانية". وعندما أخرجَ يَدَه من جَيْبِ ثَوْبِه ومـدَّها بالمفتاحِ ابتعدتْ المرأة إلى الخلف مذعورة وكأنه اِسْتَلَّ سيفاً مِنْ غِمْدِه!
لـم يجدْ الشـابٌ تلك الليلة َمكاناً يأوي إليه غيرَ زَاوِيَـةِ سكة خلفية في سوق الحارة.. مرتعاً للنفايات والكلابِ، وظلاما يَتَبادلُ تَحْتَ جُنْحِه العشاقُ القُبل!
وفي الصباح استـيقظَ الناسُ على الزاوية التي لجأ إليها الشـاب وقد أحيطتْ بسـياجٍ أقيمَ من مُخَلَّفَاتِ مـوادِ بناءٍ مُخْتَلِفَةٍ. لا أحد يعـرفُ كيف حـدث ذلك، وبتلك السرعة ومن دون ضجيج غير أنَّ الأصابعَ أشارتْ خِفية ً إلى مسعودٍ السمّان، شيخُ الحارة. وقال الحلاو حمدان إن لا أحـد غيره يجرؤ على تلك الفعلة، لكنّ جمعانَ الخّبازَ خالَـفَه الرأيَ، مُتَّهِماً رجالَ الـ"صفـرد"، مقاولَ البناءَ، بعزل الشـاب خلفِ السياج!
اشتَّدَ مرضُه، وأصبحَ لا يقوى على الاقترابِ من فتحةِ السياجِ لِتَنَاوُلِ ما يُترك له من قوت؛ فقتله الجوعُ والنبذُ معاً.
ففجرِ ذاتِ يومٍ، ولم يمضي على حجزه شهرُ، استيقظت الحارة على عَوَاءِ كلبٍ اعتاد المعزول تقسام الطعام معه في عُزْلَتِهِ.. عَوَاءٌ أشبه بالنشيج.
غَسَّلوه بالصابون، نَثروا على جَسَدِه الكافور، وأدرجوه في الكَفَن. عَطَّروه بالياسمين، صلوا عليه، وزَفوه مَحْمُولاً فوقَ الأكتاف: مكانِ الأبطال ومكانِ الأموات. سدوا مَرْقَدَه الأخير بالحجارة، أهالوا عليه التُرابَ، نصبوا له شاهدا، رطَّبوا ثُرَاه، قرءوا على روحه الفاتحة، وتلفتوا يمينا وشمالا، فلم يجدوا من يتلقى العزاءَ فيه!
|